15-فبراير-2019

نهاية حركة النهضة في صيغتها القديمة من منظور فلسفة التاريخ قدر لا مفر منه (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

مقال رأي

 

فجّرت التصريحات الأخيرة للقيادي في حركة النهضة لطفي زيتون التناقضات الداخلية التي لطالما كانت تخضع لأسلوب المخاتلة والمداراة عن الرأي العام الوطني حيث كشفت هذه المرّة بجرأة قد تكون غير مسبوقة وبوجه سافر حجم التباين والخلاف العميق بين تيارات ومجموعات صلبها تجاوزت سنّة الاختلاف الديمقراطي الذي لا يتعدى صداه في العادة أسوار مقرها في مونبليزير إلى مطب التطارح في المأزق المتعلق بالرؤية الاستراتيجية الذي تغذيه الطموحات ومعركة الخلافة القادمة لا محالة.

ربّما هذا ما يفسر ولو جزئيًا الهالة الإعلامية التي حظيت بها والتفاعل الإيجابي الذي جوبهت به من قبل بعض الفئات النخبوية الثقافية والسياسية وحتّى الشعبية التي كانت دائمًا في السابق لا تثق في أي خطاب ينمّ عن نسق نقدي ذاتي صادر عن قيادات وازنة من الصف الأول في حركة النهضة سواء في فترات خلت قبل الثورة أو خلال السنوات القليلة الماضية التي تلت فترة حكم الترويكا.

فجّرت تصريحات القيادي في حركة النهضة لطفي زيتون التناقضات الداخلية التي لطالما كانت تخضع لأسلوب المخاتلة والمداراة عن الرأي العام الوطني

كانت حركة النهضة في مختلف مراحلها التاريخية، وهي التي تحتفي خلال هذا العام بمرور نصف قرن على انبعاثها الجنيني من نطفة برزت وقتها عبر نشاط دعوي لمجموعة من الشباب الإسلامي المتأثر بجماعة الدعوة والتبليغ في باكستان ثمّ بالإخوان المسلمين في مصر، الجسم التنظيمي الأكثر تماسكًا في الساحة التونسية لأسباب يتداخل فيها العقائدي بالسياسي.

صمدت الحركة منذ أن كانت تحت مسمّى الجماعة الإسلامية مرورًا بحقبة الاتجاه الاسلامي وحافظت على تماسكها رغم كلّ الهزات التي شهدتها جراء محن المحاكمات والسجون والمنافي وحتّى الانشقاقات الداخلية في أعقد وأعسر فترات الاستبداد السياسي والقبضة الأمنية الحديدية. وقد كانت الثورة حدثًا مفصليًا في تاريخ أحد أعرق وأهم الأحزاب السياسية في المعادلة الوطنية الآنية حيث بعثت وقتها النهضة من جديد وهي رميم بعد أن وصل بها الوضع إلى درجة بوادر التصدّع والانقسام في أواخر عهد بن علي إبان تجربة المهجر.

اقرأ/ي أيضًا: تونس.. بلد العجائب السياسية

قول لطفي زيتون وهو الذي تجمعه برئيس الحركة راشد الغنوشي علاقة تتجاوز البعد السياسي إلى مكانة الأب الروحي بأنّه على النهضة القطع نهائيًا مع نهج توظيف الدين في الصراعات الحزبية بالنظر إلى أنّ الإسلام هو ملك للشعب وليس حكرًا على أيّ طرف كان، لا يمكن حصره فقط في المناورات بقدر ما هو يعبر عن بداية صحوة داخلية واستشعار لخطورة المنعطف التاريخي الذي تمرّ به الحركة. أليس في هذا الموقف الذي يقول صاحبه إنّه لم يعد مقتنعًا بمقولة الإسلام الديمقراطي طعنًا في مشروعية ومصداقية التمشي الذي انبثق عن مخرجات المؤتمر العاشر الذي كان الغنوشي أحد أهم مهندسيه وعرّابيه؟

من المهم عدم الانسياق وراء قراءات قاصرة مثل التي تصنف هذه التصريحات في خانة ازدواجية الخطاب ولعبة تقاسم الأدوار. فنهضة ما بعد تجربة حكم الترويكا ليست هي نفس الحركة التي عاشت تجربة المواجهة مع الدولة وأجهزتها طيلة فترة حكم الرئيسين بورقيبة وبن علي. ففي هذه الحالة، هناك نوع من النضج السياسي بصدد التكوّن وهو نتاج طبيعي لأيّ تجربة حزبية يخوض فيها من كان في المعارضة معترك تسيير الدولة وتشعباتها.

لقد ألقى لطفي زيتون بتصريحاته هذه بحجر في بركة من المياه الآسنة ربّما قد تستنشق منها الحركة بعض الجرعات الآنية لاسترجاع الأنفاس إثر الجدل الذي رافق قضيّة المدرسة القرآنية بالرقاب واتهامات هيئة الدفاع عن الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي بخصوص ما يسمى إعلاميًا "الجهاز السري" لكنّها  في كلّ الحالات لا يمكن تحليلها خارج دائرة السيرورة التاريخية للحزب الذي أعلن عضو مجلس الشورى فيه جلال الورغي منذ 2014 وهو أحد العقول الاستراتيجية المفكرة صلب الجسم النهضوي أنّ زمن الإسلام السياسي قد انقضى وهو ما يفرض على النهضة آليًا إعادة التشكل على قاعدة تفكيك البنى التقليدية والمفاهيم الأساسية القديمة.

كانت تجربة الحكم في عهد الترويكا محطة مهمة في مسيرة الحركة التي اصطدمت فيها أطروحاتها الأيديولوجية الطوباوية القديمة مثل مقولة "الإسلام هو الحلّ" بتحديات الواقع وإكراهاته

كانت تجربة الحكم في عهد الترويكا محطة هامة في مسيرة الحركة التي اصطدمت فيها أطروحاتها الأيديولوجية الطوباوية القديمة مثل مقولة "الإسلام هو الحلّ" بتحديات الواقع وإكراهاته. شكلت تلك المرحلة لحظة صدمة وخيبة في الآن ذاته لحزب خرج بين عشيّة وضحاها كالمارد من القمقم فارتطم بواقع صعب يتجاوز التحديات الوطنية الداخلية في مشهد جيو-استراتيجي متحرك اقليميًا ودوليًا، كانت الانتكاسة المصرية في 2013 بعد إطاحة الجيش برئيس منتخب بآليات ديمقراطية احدى أبرز عناوينه.

أثبتت فترة حكم الترويكا بقيادة حركة النهضة حدود العقل السياسي الاستراتيجي داخل هذا الحزب وفي أوساط مراكز اتخاذ القرار صلبه فكان من الضروري وقتها إنقاذ السفينة من الغرق وتجنيب البلاد سيناريو محرقة مطلع التسعينيات التي مازالت جراحها لم تندمل بعد. لكن هذا التمشي الذي انبنى على شعار التوافق والتطبيع مع النظام القديم والدولة العميقة منذ لقاء باريس الشهير في صائفة 2013 لم يمنع الحركة من مأزق آخر قد يكون الأكثر خطورة على مستقبل النهضة.

اقرأ/ي أيضًا: سيف الدين مخلوف نائبًا عن الشعب التونسي؟!

تجد حركة النهضة اليوم نفسها إزاء أزمة مزدوجة. أزمة على الصعيد السياسي الوطني في خضم قطع حبل الودّ بينها وبين رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي وحزبه نداء تونس الذي تحوّل إلى جسم تنظيمي مثل "الرجل المريض" بعد أن أوهنته الانقسامات والكدمات والحصيلة الهزيلة لتجربة الحكم رغم حداثة عهده، وأخرى على الصعيد الداخلي بعد أن اختلفت الرؤى والتقييمات بخصوص وجاهة وحدود دعم رئيس الحكومة الحالي يوسف الشاهد وحزبه الذي لا يزال قيد التأسيس.

فقدت حركة النهضة على امتداد تجربتها في الحكم خلال السنوات التي تلت الثورة الكثير من شعبيتها ورصيدها الاعتباري والانتخابي رغم ما حققته في البلديات الأخيرة. كما خسرت حلفاء اقليميين ودوليين بعضهم انتهى بهم الأمر في السجون وآخرون لم تعد في نظرهم كما كانت بمثابة الجواد الرابح الذي يمكن المراهنة عليه من منظور استراتيجي.

كشف تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة أيضًا الوجه الآخر للتناقضات الفكرية والسياسية والدستورية وحتّى الأخلاقية صلب حركة النهضة التي سبق أن تراجعت عن توافقات هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات. كما فقدت بعد تجربة الحكم ثقة حلفاء النضال ضدّ الاستبداد من أوساط الديمقراطيين الذين ساهموا في فكّ العزلة عنها خلال تلك الحقبة.

تعلم قيادة حركة النهضة المنقسمة حاليًا في شكل مجموعات وتيارات ولوبيات تتجلى خاصة صلب مجلس شوراها الذي يعدّ أهم مؤسسة صلب الحزب بين مؤتمرين أنّ جبهة الخصوم والأعداء قد توسعت في الفترة الأخيرة بعد انفراط عقد التوافق مع ساكن قصر قرطاج وهو ما يجعلها حيال مأزق حقيقي يهدّد وحدة الجسم التنظيمي الداخلي كما أنّه يمثّل منعرجًا قد يكون له تداعيات خطيرة على مستقبل التجربة الديمقراطية برمتها.

لا تقتصر أسباب الخلاف الداخلي الحالي صلب حركة النهضة على ترتيبات الإعداد لمرحلة ما بعد الغنوشي فقط والتي قد يحتدم فيها التنافس إلى درجة التنافي 

لا تقتصر أسباب الخلاف الداخلي الحالي صلب حركة النهضة على ترتيبات الإعداد لمرحلة ما بعد راشد الغنوشي فقط والتي قد يحتدم فيها التنافس إلى درجة التنافي وإنّما هي أيضًا مرتبطة بسبل إدارة المعركة السياسية في الظرف الراهن الذي يواجه فيه الحزب يسارًا شرسًا ونخبًا مدنية وعلمانية مازالت تنظر بتوجس وريبة إلى النهضويين ومشروعهم رغم إعلانهم الانسلاخ عن الإسلام السياسي. وهو توجه بقي صعب الهضم من قبل القواعد على وجه الخصوص ومجموعات من القيادات المؤسّسة من الرعيل الأول لاسيما تلك التي ترى في هذا التمشي انتحارًا سياسيًا بالنظر إلى أنّه قد يفرغ الحركة من رأسمالها الرمزي وجوهر وجودها الحزبي.

يخشى المعارضون للغنوشي ومَن حوله من التيار الأغلبي الداعم له أن تخرج الحركة من تجربة التحالف الذي اتسم بالضبابية مع الشاهد وحزبه الناشئ طالما أنّه لم يتم تأصيله وتوضيح العقد السياسي الذي يمكن أن يرتكز عليه مستقبلًا، بيد فارغة وأخرى لا شيء فيها، بل يذهب البعض إلى أبعد من ذلك حيث يحذرون من مغبة منح صكّ على بياض لساكن القصبة الذي بيّنت الأحداث أنّه شاب جامح وطموحاته السياسية لا سقف لها وهو ما قد يجعله إذا ما اقتضت الحاجة يعض اليد التي امتدت اليه.

يحذر هؤلاء أيضًا من سيناريو مزيد اهتراء شعبية الحركة التي لم تغادر دواليب السلطة والحكم منذ انتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2011 في حال ما تواصل التعثر الاقتصادي والاجتماعي الذي يهدّد البنيان الوطني الديمقراطي برمته فالاكتفاء فقط بترديد المقولات الأيديولوجية الهووية الكلاسيكية لم يعد يجدي نفعًا إزاء حقيقة الواقع الذي يعيشه الشعب التونسي نتيجة غياب الرؤية الاستراتيجية والمنجزات الميدانية الهيكلية التي من شأنها تحصين التجربة من منزلقات الاستنزاف ومساعي الانحراف.

التدافع الحاصل صلب حركة النهضة من المؤكد أنّه ستكون له نتائج مستقبلية تنظيمية وفكرية واستراتيجية

أن تتزامن تصريحات لطفي زيتون مع دعوة عبد الحميد الجلاصي الوجه القيادي البارز في الحركة والذي كان يلقب برجل الآلة التنظيمية صلبها، القيادات إلى فتح نقاش داخلي والتحضير للمؤتمر القادم من أجل انتخاب قيادة جديدة في 2020 على قاعدة تصوّر ورؤية لمستقبل النهضة ما بعد رئاسة الغنوشي الذي قد يصبح في وقت قريب جزءًا من التاريخ والماضي، ففي ذلك دليل آخر على عمق المأزق واختلاف التوجهات والخلفيات المستبطنة داخل العائلة الواحدة.

التدافع الحاصل صلب حركة النهضة من المؤكد أنّه ستكون له نتائج مستقبلية تنظيمية وفكرية واستراتيجية. حراك داخلي وأزمة متعدّدة الأوجه تطرح عديد التساؤلات والسيناريوهات. ففي حال انجاز المؤتمر في موعده وخروج الغنوشي الذي نجح رغم كلّ الهزات التي عرفتها الحركة في المحافظة على وحدتها، فإنّ ذلك سيفتح الباب على مصراعيه لمعركة الخلافة التي ستفرض على النهضويين البحث عن الحدّ الأدنى من التوافقات الداخلية لانتخاب قيادة تعمل على قاعدة المشترك وتحافظ على التنوع والتعدّد الموجود صلب الحركة التي تعزّزت في السنوات الأخيرة بشباب يتطلّع لفرض نفسه وخياراته البراغماتية صلب المؤسسات الداخلية. وهو جيل بدأ في خوض تجربة الولوج إلى  أجهزة الدولة في أسلاك وقطاعات مختلفة ما يجعله أكثر قابلية لتبني نهج سياسي عقلاني يمتزج فيه الطموح بمقتضيات التطوّر والتجديد الشكلي والمضموني لمجابهة تحديات الحكم في الداخل وفي علاقة أيضًا بالشركاء الخارجيين.

تطرح مسألة الانتقال بين الأجيال داخل النهضة أحد التحديات الصعبة التي ستعترض الحركة. انتقال سيفرض بالضرورة واقعًا داخليًا جديدًا سيصطدم بالأسس الفكرية والتنظيمية التقليدية التي كان لطفي زيتون من السبّاقين بالإشارة إليها ولو بشكل ضمني.

إنّ سيناريو إنجاز المؤتمر الحادي عشر لحركة النهضة في موعده القانوني سنة 2020 ما يعني خروج الغنوشي من قيادة الحركة التزامًا بالقانون الأساسي الذي لا يسمح له بالترشح مرّة أخرى لهذا المنصب المركزي الذي تفرّد به لعقود مديدة، بات يمثّل مسألة تؤرق جميع النهضويين بمختلف مجموعاتهم المتنافسة داخليًا. خلق هذا الوضع حالة من الحيرة والارتباك الذي يكاد يتحوّل إلى أزمة ثقة لاسيما في ظلّ بداية بروز تيار يدفع نحو امكانية تأجيل موعد المؤتمر تجنبًا لأزمة داخلية قد تؤثر على استعدادات الحركة لقادم الاستحقاقات الانتخابية التي ستكون لها استتباعات على مستقبل الحزب خلال السنوات القادمة.

يخوض الجسم التنظيمي لحركة النهضة معترك احتواء الخلافات الداخلية التي تنذر بهاجس انفراط عقد النهضويين بالتوازي مع مسار مواجهة نزيف الأزمة السياسية التي تمرّ بها البلاد وهو وضع صعب يفرض البحث عن أقوم المسالك لتأمين انتقال سلس على المستوى الحزبي الداخلي وفي علاقة بمستقبل التجربة الديمقراطية وطنيًا.

لا تعني نهاية حركة النهضة بالضرورة الزوال والأفول من الناحية الشعبية الانتخابية أو التنظيمية بقدر ما تعكس حتمية التجدّد فكريًا وسياسيًا لضمان البقاء والتغيير 

إنّه مخاض عسير سيؤدي بالضرورة إلى نهاية حركة النهضة في شكلها القديم بأي حال من الأحوال. لا تعني النهاية هنا بالضرورة الزوال والأفول من الناحية الشعبية الانتخابية أو التنظيمية بقدر ما تعكس حتمية التجدّد فكريًا وسياسيًا لضمان البقاء والتغيير في إطار الاستمرارية أو ربّما سيؤول بها الأمر للسقوط في غياهب الانشطار والترهل وهو من السيناريوهات الممكنة التي قد تساهم في إنتاج واقع جديد على مستوى التوازنات الحزبية في تونس.

نهاية حركة النهضة في صيغتها القديمة من منظور فلسفة التاريخ قدر لا مفر منه عاجلًا أو آجلًا. هذه النهاية الفلسفية يمكن أن تفسح المجال أمام النهضويين لولادة جديدة تواكب متطلبات المرحلة القادمة في تونس على مستوى المضامين والبرامج والعقل السياسي الذي يستشرف المستقبل تساوقا مع تطوّر الوعي المواطني التحرّري وحركة التاريخ في الدولة والمجتمع على حدّ السواء.

 

اقرأ/ي أيضًا:

طلاب قارعوا النظام لتغييره وانتهوا حراسًا لإدارته!

من أجل حوار وطني حول المساواة والحريات الفردية