مقال رأي
شكّل مؤخرًا حدث انطلاق محاكمة المتهمين في جريمة اغتيال الزعيم صالح بن يوسف التي وقعت في مطلع ستينيات القرن الماضي بألمانيا، ضمن مسار العدالة الانتقالية وفي إطار دائرة قضائية مختصة بتونس العاصمة، مناسبة جديدة لاستئناف جدل قديم ما انفك يطفو على السطح حول شخصية الحبيب بورقيبة أوّل رئيس للجمهورية التونسية بعد الحصول على الاستقلال سنة 1956.
كانت مسألة إثارة مواضيع متعلقة بالزعيم الحبيب بورقيبة سواء في وسائل الإعلام أو حتّى في الفضاءات الفكرية والعلميّة على امتداد فترة حكم زين العابدين بن علي من المحرّمات. فقد سعى النظام النوفمبري الحاكم وقتها بشتّى السبل إلى تضييق الخناق على مختلف محاولات ردّ الاعتبار لـ"المجاهد الأكبر" و"محرّر المرأة التونسية" غداة المحنة التي عرفها في فترة الإقامة الجبرية والحصار السياسي والإعلامي والحقوقي الذي ضرب عليه إلى غاية يوم وفاته وحتّى بعد أن فارق الحياة.
شكّل مؤخرًا حدث انطلاق محاكمة المتهمين في جريمة اغتيال الزعيم صالح بن يوسف مناسبة جديدة لاستئناف جدل قديم ما انفك يطفو على السطح حول شخصية الحبيب بورقيبة
غير أنّ ذلك لم يمنع من قيام بعض المؤسسات البحثية والمؤرخين بمحاولات مضنية للنبش في تاريخ الرئيس السابق الحبيب بورقيبة وفترة حكمه بما فيها وما عليها. كانت مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات من بين المؤسسات العلمية القليلة التي خصّصت حيزًا هامًا للنبش في ذاكرة وتاريخ زمن حكم بورقيبة. كما كان المؤرخ القدير الهادي التيمومي من أوائل الباحثين الذين تجاسروا على نشر دراسة تاريخية علميّة حول تاريخ تونس البورقيبية بمساعدة من دار محمد علي للنشر لصاحبها النوري عبيد.
انتظر التونسيون طويلًا لكي يتمّ الإفراج عن حقّهم في إعادة قراءة تاريخهم لاسيما المتعلق بالفترة المعاصرة والرّاهنة دون أيّ تحفظات مسقطة أو قيود مفروضة. لقد مثّلت الفترة التي تلت منعطف ثورة 2011 منطلقًا جديدًا للحفر مرّة أخرى في تاريخ الزعيم الحبيب بورقيبة بحثًا عن حقائق غيّبت لسنوات في رفوف الأرشيفات وصدور أصحاب الشهادات الشفوية الموضوعية.
اقرأ/ي أيضًا: في ذكرى الحبيب بورقيبة.. جروحٌ تونسية باقية
كان سياق ما بعد الثورة بمثابة الولادة الجديدة لبورقيبة. وقد انقسم الشارع السياسي التونسي وقتها بين من يرى أن "البورقيبية في خطر" مادام هناك من يريد تحريف التاريخ وطمس دور الزعيم في بناء تونس المستقلة والحديثة بهدف "أخونة البلاد" ، وبين من أعلن "نهاية البورقيبية" بعد أن طلع البدر من مطار تونس قرطاج الدولي ذات يوم من أواخر شهر جانفي/كانون الثاني 2011 معتبرًا أن معسكر "الهويّة والإسلام" في طريقه للانتصار على بقايا سدنة معبد "التغريب والعلمانية".
بهذه الشاكلة كثيرًا ما حاد النقاش حول فترة حكم بورقيبة عن الضوابط الموضوعية ليتحوّل إلى مجرد ثرثرة سياسوية ودغمائيّة أيديولوجية لا علاقة لها بالوقائع التاريخية والأدوات العقلانية للفهم والتحليل وإبداء الرأي. صحيح أنّ بورقيبة من الشخصيات الإشكالية وهو ما يفسر كلّ هذا الصخب السياسي و الجدل التاريخي حول "أب الأمّة التونسيّة" كما يصفه البعض. لكن ما نلاحظه اليوم من خلال مختلف ردود الفعل حول محاكمة المتهمين في جريمة اغتيال الزعيم صالح بن يوسف هو لا يرتقي قطّ لدرجة التباين السياسي في وجهات النظر أو القراءات حول حصيلة تقييم فترة هامة من تاريخنا القريب. إنّنا إزاء ضرب من ضروب الانتهازية السياسيّة في أبهى تجلياتها وإلا كيف يمكن أن نفهم موقفًا يعتبر فيه صاحبه أنّ هذه القضيّة هي عبارة عن عمل قضائي عبثي وأخرى تصف المحاكمة بالمهزلة؟
إنّنا إزاء ضرب من ضروب الانتهازية السياسيّة في أبهى تجلياتها وإلا كيف يمكن أن نفهم موقفًا يعتبر فيه صاحبه أنّ قضيّة اغتيال صالح بن يوسف هي عبارة عن عمل قضائي عبثي وأخرى تصف المحاكمة بالمهزلة؟
لا مناص من التأكيد على أنّ عمليّة اغتيال الزعيم صالح بن يوسف كانت جريمة دولة بامتياز. إذ أنّ ملابسات الجريمة وطريقة التخطيط لها وتنفيذها تمت على مستوى عال داخل أطر أجهزة السلطة القائمة وقتها برئاسة الحبيب بورقيبة الحاكم بأمره الذي كان يعلم الجهر وما يخفى عهدئذ. فهل من الممكن القفز هكذا بجرة قلم على حقائق تاريخية من هذا القبيل لمجرد تغليب مصلحة أصحاب حسابات سياسية وانتخابية ضيّقة يراد من خلالها التنكيل بذاكرة وطنية مازالت جريحة ومكلومة؟
اقرأ/ي أيضًا: الدعوات لإعادة كتابة التاريخ: إنصاف للحقيقة أم تصفية لحسابات سياسية؟
يعكس هذا الجدل العقيم حول محاكمة المتهمين في قضيّة اغتيال الزعيم صالح بن يوسف باعتباره مواطنًا تونسيًا قبل أن يكون واحدًا من أبرز رموز النضال الوطني ضدّ المستعمر الفرنسي، التعثّرات والشوائب التي تكتنف مسار العدالة الانتقالية في تونس الذي أضحى حبيس قواعد الربح والخسارة لبعض الأحزاب المتنافسة على السلطة قبيل موعد الانتخابات المرتقبة دون الأخذ بعين الاعتبار الحاجة لمعرفة الحقيقة ومحاسبة المذنبين ولو رمزيًا حتّى تتجنّب الأجيال المقبلة منزلق إمكانية تكرار نفس الأخطاء والتجاوزات والجرائم.
من الواضح اليوم أيضًا وجود عديد الأطراف السياسيّة التي لا تتورّع مجددًا عن محاولة توظيف الرمزية التاريخية والشعبية للزعيم الحبيب بورقيبة قبيل الانتخابات المقبلة بمختلف الطرق وأقذع الأشكال وأحيانًا من خلال كلمة حق يراد بها باطل. يبحث هؤلاء عن مداخل لتكرار سيناريو الباجي قائد السبسي وحركة نداء تونس التي وظّفت في وقت سابق لاسيما خلال فترة الصراع مع حركة النهضة وبقية أحزاب الترويكا أيّما توظيف التراث البورقيبي المشترك الذي يفترض أن يكون جامعًا بين عموم التونسيات والتونسيين، المعارضين فيهم لبورقيبة قبل المتشيّعين له.
لقد آن الأوان للخروج بالزعيم الحبيب بورقيبة من بوتقة التقديس أو الشيطنة وقبل كلّ ذلك من الضروري تخليصه من براثن السياسيين الانتهازيين
لقد آن الأوان للخروج بالزعيم الحبيب بورقيبة من بوتقة التقديس أو الشيطنة وقبل كلّ ذلك من الضروري تخليصه من براثن السياسيين الانتهازيين الذين بان بالكاشف أنّ لهم كلّ الاستعداد لتوظيف التاريخ ورموزه بأسوإ الطرق وأكثرها تشوّهًا فقط من أجل المصالح الآنية ضيقة الأفق والتي لا علاقة لها بالمعطيات الموضوعية والعقلانية.
إنّ في عمليات السطو على التراث الوطني المشترك من قبل بعض السياسيين الانتهازيين مقدمات لتزييف الوعي وتزوير التاريخ وتشويه المستقبل. ونحن لا ندري إن كان مكر التاريخ بالمعنى الهيغلي للكلمة هو الذي يمكن أن يبرّر خلفيات ومحركات الزجّ بصهوة حصان بورقيبة مجدّدًا في المزاد الانتخابي حتّى إن كان ذلك دون مراعاة مقتضيات الحتمية التاريخية التي وضعت على الهامش.
خلاصة القول بورقيبة زعيم وطني يدين له التونسيون بالكثير من المزايا والمنجزات لكنّه ليس فوق المحاسبة التاريخية وهو أكبر من أن يتمّ وضع حصانه في مزاد انتخابي بطريقة تنمّ عن إفلاس سياسي لأصحابها.
اقرأ/ي أيضًا: