26-يوليو-2020

ميلودي بوزيد الرئيس المدير العام لقطاع المناجم بوزارة الطاقة والمناجم والطاقات المتجددة

 

كلمة الفسفاط في تونس كانت وما تزال منذ النصف الأول من القرن العشرين مشحونة بدلالات وقصص وحكايات تتخطّى كونها مجرّد معدن طبيعي قابل للاستخدام في مجالات شتّى صناعية وفلاحية وطبيّة وغيرها.

الفسفاط في تونس عنوان لا يحيل إلى الإنتاج والتشغيل والربح والخسران، إنما هو مرجع مثقل بهموم الحاضر والماضي، همومٍ أمنية وعسكرية وماديّة وسياسية واجتماعية تشكلت في محطات عديدة من خلال مقاومة المستعمر والثورة على الاستبداد والتصدّي لكلّ أشكال التهميش والحيف الاجتماعي والتمييز الجهوي.

ميلودي بوزيد (مدير عام المناجم في وزارة الطاقة): الوضعية الحالية لقطاع الفسفاط كارثية بل هي أشبه ما تكون بالانتحار الجماعي

مناجم الفسفاط في قفصة مؤسسات مثمرة منها يستمد الاقتصاد التونسي أحد شروط استقراره وانتعاشته غير أنّ هذه المراكز تبدو سريعة " الالتهاب الاجتماعي"، فجلّ الانتفاضات والاحتجاجات في الجهة تنبع منها أو تصبّ فيها.

ما يحرج "القفاصة" الذين تحدّث إليهم "ألترا تونس" هو الإمعان في توجيه الرأي العام نحو الحديث عن أرقام الخسائر اليومية بسبب تعطّل الإنتاج، وما يضاعف الشعور بالخيبة والقلق بالنسبة إلى المحتجين تلك التلميحات التي توحي بأنّ الراغبين في التشغيل يتطلعون إلى وظائف الأجور فيها أضخم بكثير من حجم العمل المنجز.

ولأنّ المشغل عميق ومعقّد وخطير وكثير التواتر، التقى "ألترا تونس" ميلودي بوزيد الرئيس المدير العام لقطاع المناجم بوزارة الطاقة والمناجم والطاقات المتجددة الذي لمسنا لديه معرفة دقيقة بالعديد من التفاصيل ذات الصلة بموضوع الفسفاط لا تقتصر على الأبعاد الإدارية والمالية إنما تنفتح على الاجتماعي والنقابي والأمني والسياسي. وفيما يلي حوارنا معه:


  • تعطّل الإنتاج بصفة غير مسبوقة في شركة فسفاط قفصة خلال هذا الشهر ( جويلية/ تموز). كيف تقيّمون هذا الحدث؟

مرّ الإنتاج خلال الأشهر السبعة الأولى من سنة 2020 بثلاث مراحل، من الاستقرار النسبي خاصّة في شهري جانفي وفيفري إلى التراجع في فترة الحظر الصحّي بنسبة تراوحت بين 30 و40 في المائة، بعد رفع الحظر كنّا نأمل في تحقيق قفزة نوعية في الإنتاج، لكن اندلاع الاحتجاجات الاجتماعية بداية من 26 ماي/ أيار خيب هذه التطلعات، فتسبب ذلك في النزول إلى أدنى درجات الإنتاج. ففي شهر جوان، لم يتخطّ الإنتاج 140 ألف طن، وكنا نأمل في بلوغ 500 ألف طن، ولم تتجاوز الكمية التي تمّ نقلها 10 آلاف طن، وقد راهننا على نقل 450 ألف طن.

تراجع الإنتاج بلغ هذه الفترة درجة قد تجعل الشركة عاجزة على تغطية مصاريفها، وهو ما ينذر بانهيار القطاع نهائيًا، الوضعية الحالية يمكن اعتبارها كارثية، بل هي أشبه ما تكون بالانتحار الجماعي.

اقرأ/ي أيضًا: بعد الأعمال التخريبية الأخيرة.. متى يقع حلّ أزمة نقل فسفاط قفصة؟

  • الاحتجاجات وتعطيلات الإنتاج ليست ظاهرة جديدة، ما الذي يجعلك تصف الوضعية الحالية بالانتحار الجماعي؟ ما سرّ هذا الفزع؟

القلق الذي يراود كلّ العارفين بواقع الحوض المنجي لا يرجع فقط إلى تراجع الإنتاج إنما يعود خاصّة إلى تضخّم الأعباء المالية فقد ارتفعت كتلة الأجور بشكل لا يتناسب مع حجم المداخيل.

ميلودي بوزيد: ارتفعت كتلة الأجور بشكل لا يتناسب مع حجم المداخيل

  • هل تقصد شركات البيئة التي تمّ استحداثها؟

شركات البستنة لا تخلو من أهمية في مستويين على الأقلّ، الأوّل بيئي صحي جمالي والثاني اجتماعي تمثّل في فتح باب الرزق لحوالي 13 ألف من طالبي الشغل. والمشكلة تكمن في عدم تفعيل هذا المشروع، وهو ما يجعل المجموعة الوطنية تخسر تلك الطاقات البشرية التي يمكن توظيفها في أنشطة أخرى تكون مفيدة منتجة، كما تتسبب هذه الوضعية في حرج بالنسبة إلى العمال أنفسهم.

  • ما طبيعة الحرج الذي يواجهه العامل وهو يتقاضي أجرًا دون جهد يذكر؟

أنا أعرف جيدًا أبناء هذه الجهة من الجنوب التونسي، فهم يتصفون بعزة النفس والأنفة، وقد تحدثت إلى العديد من العمّال المُعينين في شركات البستنة، فأشعروني برغبة ملحة في تخطّي هذا الوضع، وقد قال لي أحدهم حرفيًا: "نحب نخدم، نحب نعرق على شهريتي، مانيش طالب صدقة، مانحبش ناخذ فلوس حرام!".

  • ما الذي يدفع شركة فسفاط قفصة إلى تحمّل كلّ هذه الأعباء الماديّة والاجتماعية؟

شركة فسفاط قفصة تكاد تكون المشغلّ الوحيد في الجهة، فجلّ الاحتجاجات ذات الطابع الاجتماعي تراهن على تدخل هذه المؤسسة التي تقوم بتأمين ثلاثين ألف موطن شغل بكلفة أجور تبلغ 500 مليون دينار.

ميلودي بوزيد: شركة فسفاط قفصة تكاد تكون المشغلّ الوحيد في الجهة

  • كيف السبيل إلى تخفيف العبء على قطاع الفسفاط في هذه المدينة؟

ثمة ثلاثة حلول، الأوّل اجتماعي آني يتمثل في بثّ الوعي بخطورة ما يجري فتعطيل أنشطة قطاع الفسفاط من شأنه أن يزيد معضلة البطالة تعقيدًا، فلا بد أن نحافظ على المكتسبات في انتظار إثرائها وتنويعها وتوسيعها. 

والحل الثاني سياسي ذلك أن مناقشة موضوع البطالة في قفصة ينبغي أن يكون على مستوى حكومي تساهم في معالجته كلّ الوزارات بمجهود متظافر ومتناغم.

والحل الثالث يرتبط بالمنوال التنموي فتطوير البنية التحتية في الجهة كفيل بالدفع نحو إنشاء المشاريع القادرة على استيعاب العاطلين من مختلف القطاعات والاختصاصات، فيتقلص حينئذ الضغط الاجتماعي على قطاع الفسفاط وتنعم قفصة بما يساهم في تحسين الخدمات وتطويرها وتنويعها، وهو السبيل الأمثل لضمان جودة الحياة في هذه الجهة المحرومة.

أحمد الزوابي مع ميلودي بوزيد الرئيس المدير العام لقطاع المناجم بوزارة الطاقة والمناجم والطاقات المتجددة

  • ما الذي عطّل إنجاز هذه الحلول حسب رأيك؟

الحق أقول إن العجز عن تنفيذ الحلول الاستراتيجية لمعضلة البطالة التي أثرت في نشاط قطاع الفسفاط يرجع إلى سببين: الأول يتمثل في عمل الحكومات تحت ضغط اجتماعي شديد يدفع المسؤولين إلى اتخاذ قرارات غالبًا ما تكون متسرعة ترقيعية والثاني يرتبط بغياب الاستقرار السياسي ممّا يحول دون اتخاذ إجراءات طويلة المدى ومتابعة إنجازها.

اقرأ/ي أيضًا: حوار| فوزي محفوظ: ملف القطع التراثية المهربة بيد القضاء وتراثنا مهدد

  • ما هو الإجراء الأمثل الذي تراه مناسبًا للجهة؟

يمكن للدولة أن تخصّص جزءًا من عائدات الفسفاط لتطوير البنية التحتية والنهوض بالتنمية في الجهة، هذا المشروع لا بدّ أن يكون استراتيجيًا يمكن تعميمه على جلّ الجهات التي تنعم بالثروات الطبيعية مع الأخذ بعين الاعتبار الدعم الموصول للمناطق المحرومة من مصادر الثروة.

ميلودي بوزيد: الاحتجاجات العمالية والاجتماعية مشروعة والحل يكمن في التوعية والحلول الزجرية ليست كفيلة بمعالجتها

الحكومات متحولة متقلّبة لكن الدولة قائمة، ما الذي يحول دون تنفيذ هذا المنوال وغيره من الإجراءات الكبرى. أحببت أم كرهت المشاريع العظمى لا بدّ أن تكون سليلة رؤية سياسية واقتصادية واجتماعية شاملة، تكون مدعومة بوعي شعبيّ وخبرات إدارية وعلمية.

  • تعرضت قاطرة تابعة لفسفاط قفصة منذ حوالي شهرين إلى الإحراق المتعمد، هل دفعكم ذلك إلى اتخاذ المزيد من إجراءات الحماية تحسبا لتكرر الحادثة؟

بصرف النظر عن المسار القضائيّ لقضية إحراق القاطرة التابعة لفسفاط قفصة، فإنّ دعم إجراءات الحراسة والتوقي بات ضروريًا. وينبغي في هذا السياق أن نأخذ بعين الاعتبار تطوّر الجريمة وأساليبها، هذه الإجراءات تأخذ بعين الاعتبار أربعة عناصر على الأقل هي الحراسة والإضاءة والأسوار وكاميرا المراقبة.

  • ما الذي يفسر عجز أجهزة الدولة عن القيام بدورها في الحدّ من أسباب تعطيل العمل؟

الاحتجاجات العمالية والاجتماعية كما قلت لك مشروعة ولها خاصّة في قفصة حاضنة شعبية تدعمها لا أرى أنّ الحلول الزجرية كفيلة بمعالجتها، الحل يكمن في التوعية.

ميلودي بوزيد: لا بدّ من الاعتراف بأنّ بعض النواب بصرف النظر عن انتماءاتهم الحزبية لم يبخلوا عن القيام بدورهم الحواري التوعوي

  • لكن في المقابل قرأنا بيانًا صادرًا عن وزارة الطاقة والمناجم والطاقات البديلة فيه توعد بتطبيق القانون على من يعطّل العمل؟

هذا البيان ينطبق على من يتوخّى العنف والتخريب والاعتداء على ملك الغير وقد رفعت الإدارة العامة للشركة حوالي 900 قضية للتصدّي إلى هذه الأطراف، أمّا باقي المحتجين فأنا مصرّ على أن السبيل الأمثل للتواصل معهم هو الحوار والتوعية.

  • ما هي الأطراف التي يمكن أن تساهم في المسعى التوعوي؟

لا بدّ من الاعتراف بأنّ بعض النواب بصرف النظر عن انتماءاتهم الحزبية لم يبخلوا عن القيام بدورهم الحواري التوعوي، كما نراهن على المجتمع المدني ونعوّل على الإعلام ونطلب من البعض التحري في نقل الأخبار والتصريحات في غير تحريف لأنّ المسألة حساسة مهنيًّا واجتماعيًا وجهويًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

حوار| محمد صالح العياري (خبير جبائي): هذه الإجراءات اللازمة للإصلاح الجبائي

عمر بن موسى (خبير في الهيدرولوجيا): مخاطر لانتشار كورونا في مياه الصرف الصحي