29-نوفمبر-2021

الخلفاوي: الديكتاتورية الليبرالية مطروحة في تونس وهذا خطير ومتداول ويمكن أن يكون نتيجة صفقة

 

أربعة أشهر منذ إعلان الرئيس التونسي قيس سعيّد إجراءات 25 جويلية وتعليق العمل بالدستور التونسي، ولا يزال التونسيون يتطلّعون إلى التغيير المنشود. 

في الأثناء، بلغت البطالة مستويات قياسية، ما يناهز المليوني تونسي عاطلون عن العمل، أكثر من 500 صنف من الأدوية مفقود حسب الصيدلية المركزية، وعادت الجماهير الغاضبة للحشد في الشوارع. كلها وغيرها مؤشرات تنذر بشتاء حارق، بينما لا يبدو، حتّى الآن، أي نور في آخر النفق. 

نحاور فيما يلي، محمّد الصحبي الخلفاوي، الباحث في العلوم السياسية، في محاولة لتشخيص الوضع الحالي واستشراف ما قد تحمله الأيام القادمة. 


  • صدرت منذ أيام قليلة قائمة البلدان المدعوة لقمة الديمقراطية التي تعتزم الولايات المتحدة تنظيمها، ولم تتم دعوة تونس لها، هل هذا يعني أن تونس خرجت من "النادي الديمقراطي"؟ 

بديهيًا، تونس ليست جزيرة معزولة. وهل نتطلّع إلى ديمقراطية على المنوال الغربي؟ قطعًا لا. لكل بلد خصوصياته لكن هناك شروط ضرورية لتصنيف بلد ما كبلد ديمقراطي: أحدها هو الخضوع للقانون. وأعلى القوانين المتفق حولها هو الدستور. 

حاليًا تم الخروج عن الدستور في تونس، وتحوّلنا نحو الديكتاتورية، مع خطر الانزلاق نحو الاستبداد. الولايات المتحدة ليست محدّدًا للديمقراطية. تمت دعوتنا أم لا، ليس هذا مهمًا بدرجة كبيرة. 

هل خرجنا عن الديمقراطية؟ ليس بالضرورة. بدليل حوارنا هذا، لكن بغياب الشروط الأساسية للديمقراطية، من الصعب الآن القول إننا لازلنا في النادي الديمقراطي، بغضّ النظر عن الموقف الأمريكي. 

الباحث في العلوم السياسية محمد الصحبي الخلفاوي: معظم الدول الغربية طالبت بالعودة للمسار الديمقراطي، وليس بالضرورة العودة إلى ما قبل 25 جويلية

  • منذ أشهر، تتناول عدّة صحف عالمية الوضع في تونس بطريقة سلبية نوعًا ما وخارج ما يعرف بالـ "الضوابط الدبلوماسية" عادة، وعندما تتقاطع عدّة صحف في بلد ما حول موقف محدّد، يمكن اعتبار هذا موقفًا رسميًا غير معلن، هل يمكن استنتاج أن تونس تعيش ما يشبه "العزلة الدولية"؟

بداية، عندما تتحدّث حنة آرنت عن الثورة، تقول إن الثورة تتحدّد أساسًا بكيف ننظر لها من الخارج. فلنعتبر من الهجرة غير النظامية، هل سمعنا يومًا بموجة هجرة غير نظامية نحو بلد غير ديمقراطي؟ كالصين وروسيا، برغم أنها بلدان ذات دخل مرتفع نسبيًا وبها رفاه اجتماعي. الهجرة غير النظامية عادة نحو أوروبا، اليابان، كندا…

بالنسبة لتقاطع مواقف الصحف، هو كما قلت. يمكن أن نستشف منها الموقف الرسمي. مثلاً، الأزمة الأخيرة مع ليبيا كانت نتيجة تصريحات إعلامية. من المؤكد أن الرئيس الفرنسي سيفتح عينيه على ما يكتب في لوموند مثلاً. كذلك الرئيس الأمريكي مع نيويورك تايمز. يعني على الأقل تؤثر هذه المواقف في السياسات الرسمية. 

التهليل لما حدث في تونس لم يأت من بلدان في رأس القائمة الديمقراطية على الأقل لكن معظم الدول الغربية طالبت بالعودة للمسار الديمقراطي، وليس بالضرورة العودة إلى ما قبل 25 جويلية. 

على المستوى الخارجي، نلاحظ مثلاً، وبتحفّظ تام، أن هناك نية لتخفيض التمثيل الديبلوماسي في تونس. في العرف الأمريكي، يتم الإعلان عن السفير الجديد ما قبل 3-6 أشهر من توليه مهامه. 

هناك أخبار أن دونالد بلوم سيغادر تونس في جانفي/يناير القادم. في حين أن العادة أن يغادر السفير في الصيف، هل مهم جدًّا رضا العالم الغربي على الوضع السياسي الداخلي؟ قطعاً لا. نحن بلد له سيادة مستقلة لكن علينا أن نستعد لما قادم. 

حتّى أختم، هل نحن في عزلة دولية؟ أعتقد أننا أقرب لذلك. حتّى الأنظمة المساندة لـ 25 جويلية، لم توفّر الدعم اللازم. على سبيل المثال، السعودية وفرت قروضًا ومساعدات لمصر وباكستان. علينا أن نعلم جيّدًا، أنه إذا كنّا نعتقد أننا قادرون على العيش في عزلة عن العالم، فالعالم أيضًا قادر على العيش بمعزل عنّا. لكن بالطبع يبقى السؤال من المستفيد من هذا؟ مؤكد أن تونس لن تستفيد من عزلة كهذه. والمؤكّد كذلك أن السياسة الخارجية أضاعت البوصلة، حيث لم تنجح لا في كسب دعم المساندين ولا المعارضين. 

الصحبي الخلفاوي: علينا أن نعلم جيّدًا، أنه إذا كنّا نعتقد أننا قادرون على العيش في عزلة عن العالم، فالعالم أيضًا قادر على العيش بمعزل عنّا. لكن بالطبع يبقى السؤال من المستفيد من هذا؟

نقطة مهمة أخرى، هناك تقارب شديد بين المحاور الإقليمية المتحاربة بالأمس. هناك إدارة جديدة في البيت الأبيض رافضة لسياسات الإدارة السابقة، إدارة ترامب. إن كانت تونس قد اكتسبت أهمية دولية في الفترة السابقة، فلأنها كانت عضوًا في مجلس الأمن. وهذه العضوية تنتهي في ديسمبر/كانون الأول المقبل. أعتقد أن على السلطة ومسانديها أخذ كل هذه العوامل بعين الاعتبار. وعليها كذلك أن تشرح لنا عن توجهاتها في المرحلة المقبلة، خاصة تعبئة الموارد، لأن هذا ما يمس السلم الاجتماعي، وهذا الأخطر. 

اقرأ/ي أيضًا: قانون المالية التعديلي 2021.. أرقام وملاحظات

  • أيام قليلة تفصلنا عن المهلة التي حددتها لجنة الكونغرس، الـ 45 يومًا، لتلقّي التقرير حول مدى مساهمة الجيش التونسي في التطورات الأخيرة في البلاد، بناء على مخرجات هذا التقرير، كيف ترون مستقبل العلاقات بين البلدين؟

إذا حاولنا قراءة المشهد بصفة عامة، هناك نوع من التخلي الدولي عن تونس، في مقابل محاور واحد هو الولايات المتحدة الأمريكية، وهذه الأخيرة، هي عامل محدد في قرارات المؤسسات المانحة بالتحديد صندوق النقد الدولي. ورغم أني معارض وبشدة لسياسات صندوق النقد، إلّا أنه وللأسف لا مفر من عقد اتفاق معه. 

لا أدري ما سيتضمنه التقرير لكن نظام بورقيبة عوّل على الجهاز الأمني. بن علي، بمساوئه واصل في نفس السياسة. وفي العشر سنوات الأخيرة، نجحنا في تحييد مؤسسة الجيش، والجيش لم يسع للسلطة على كل حال. ما يفسر الثقة المطلقة التي تحظى بها هذه المؤسسة. 

الخطيئة الأصلية التي قام بها سعيّد منذ 25 جويلية وما قبلها، هي إقحام الجيش في العملية السياسية. تساؤل حليف ما حول مدى مساهمة الجيش في العملية السياسية هي مسألة خطيرة وتضرّ بسمعة المؤسسة التي تحظى حتّى الآن بثقة داخلية، وباحترام إقليمي ودولي. ولنقلها بكل وضوح، ليس هناك أي جيش في المنطقة يحظى بثقة واحترام الجيش التونسي، لأنه الجيش الوحيد الذي يقوم بوظيفته كجيش. لهذا، فلنسعى للحفاظ على هذه السمعة.  

الخلفاوي: الخطيئة الأصلية التي قام بها سعيّد منذ 25 جويلية وما قبلها، هي إقحام الجيش في العملية السياسية. تساؤل حليف ما حول مدى مساهمة الجيش في العملية السياسية هي مسألة خطيرة وتضرّ بسمعة المؤسسة

  • يرى البعض أن الرأي العام العالمي في صف المعارضة تونسيًا. مثال ذلك ما حدث في السودان لكن لا نرى إلّا أصواتًا محتشمة معارضة داخليًا خاصة للقوى العلمانية واليسارية. كيف تفسّرون هذه الحالة؟

في البداية، ما الذي جعل حدث 25 جويلية ممكنًا؟ هل كنّا في حياة سياسية سليمة؟ أعتقد أن ما حدث هو تتويج لمسار تفكيك وإضعاف المجتمع السياسي، ليس من أطراف من خارجه، ولكن من مكوّنات هذا المجتمع ذاته. 

استنزفت هذه القوى رصيدها في معارك جانبية. أقصد حركة النهضة ورديفها ائتلاف الكرامة، وقلب تونس، بالتالي، حالة الضعف هذه ليست مرتبطة بحدث 25 جويلية بل بما كان يحدث قبله. هناك عدم قدرة للأحزاب السياسية على الانغراس المجتمعي. والحركة الوحيدة التي صمدت في العشرية الأخيرة، هي نفسها حركة النهضة قد فقدت بريقها وهي في تراجع مذهل على مستوى وطني. وهناك صعود لقوى جديدة لم تتشكل بعد في تشكيلات كلاسيكية أو غيرها، لكنها في حالة مخاض، تشبه ما قاله غرامشي: القديم لم يمت بعد والجديد لم يولد بعد وما بينهما تظهر الوحوش. ونحن في هذه الوضعية الآن. 

بالنسبة للسودان، لاقى الانقلاب قوى مدنية منظمة وقوية سبق واكتوت من الحكم الفردي والعسكري ولا تريد العودة له. اليوم في تونس، مازلنا في رأي عام متشكل مساند لقيس سعيّد. لكن هذه الشعبية بصدد التآكل. ما بعد سعيّد؟ لا أدري. وهذا خطير. لأن الطبيعة تأبى الفراغ. لكن على القوى المدنية وكل الطبقة السياسية، أن تستوعب درس 25 جويلية. 

السؤال الأساسي الذي يجب طرحه: ما الذي جعل التونسيين يساندون قيس سعيّد؟ هناك حالة ألم شديدة أحسها التونسيين دفعتهم للتحرك بتلك الانفعالية، وليضعوا كل الطبقة السياسية في سلة واحدة، بغض النظر عن مدى مساهمتهم في السلطة طيلة العقد الماضي. على من كان في السلطة أن ينسحب: يقوم بمراجعاته، يجدّد دماءه... وعلى من لم يكن في السلطة لكن صورته ارتبطت بالسلطة أن يقوم بمراجعاته لأن مجال الفعل السياسي لا يزال متوفرًا.

الخلفاوي: مازلنا في رأي عام متشكل مساند لقيس سعيّد لكن هذه الشعبية بصدد التآكل، ما بعد سعيّد؟ لا أدري وهذا خطير لأن الطبيعة تأبى الفراغ

في الأثناء، هناك قوى جديدة بصدد التشكل، أفراد يتحرّكون بالأساس لأنه لا يمكن بناء حياة سياسية سليمة دون أحزاب وتنظيمات. العداء للأحزاب قد يفهم من المواطنين، لكنه لا يفهم عندما يأتي من رأس السلطة. 

وبالمناسبة، الحزب بالضرورة لا يعني الصيغة التي نعرفها لكن الانتظام هو شكل من أشكال التحزّب. اليوم، الكل متورطون في إفشال المسار السياسي والبناء الديمقراطي: من كانوا في السلطة، من كانوا خارجها والسلطة القائمة. لهذا، أخشى أن نواجه تعبيرات جديدة غير معقلنة تأتي على الأخضر واليابس لن نستطيع التعامل معها، وهذا أخطر ما يمكن أن يحصل. 

  • لو جرت الرياح بما تشتهي سفينة الرئيس التونسي سعيّد، هل من الممكن أن تتحول تونس إلى دكتاتورية ليبرالية؟ 

ما يعرف بالنابليونية، الدكتاتورية الليبرالية هي مثال مريح للكثير من الأشخاص، من يريدون بناء سلطة قوية بالأساس، كالمثال التركي. النظام في تركيا اليوم ليس مستبدًا. هناك انتخابات نزيهة وشفافة. رأينا عندما أعاد الحزب الحاكم الانتخابات خسرها. هناك محكمة دستورية قوية لكنها أكثر بلد به صحفيون في السجن. بوتين كذلك يربح الانتخابات بطريقة شفافة ونزيهة، ولكن أغلب المعارضين في السجن. والمجر كذلك، ليس هناك صحف معارضة لأوربان. مودي في الهند أيضًا. 

الحفاظ على الشكل التنافسي للانتخابات ليس كاف للديمقراطية. لهذا، السقوط في هذا المثال ممكن. وأعتقد أنه يمكن أن يقبل دوليًا لكن من يمكن أن يقف دون هذا؟ وحدها القوى الحية المؤمنة بالديمقراطية. الديكتاتورية الليبرالية مطروحة وهذا خطير ومتداول بالمناسبة. يمكن أن يكون نتيجة صفقة أي الحفاظ على الحد الأدنى من التنافسية الانتخابية، لكن في نظام حكم فردي وبرلمان محدود الصلاحيات. 

الخلفاوي: الديكتاتورية الليبرالية مطروحة في تونس وهذا خطير ومتداول بالمناسبة. يمكن أن يكون نتيجة صفقة أي الحفاظ على الحد الأدنى من التنافسية الانتخابية، لكن في نظام حكم فردي وبرلمان محدود الصلاحيات

  • يراهن بعض المتابعين، داخليًا وخارجيًا، أن الأزمة الاقتصادية ستكون مقتل "الحلم السعيّدي" بل يرون أن هناك تراجعَا في حدّة الخطاب هذه الأيام، ما رأيكم في هذه الفرضيات؟ 

قيس سعيّد يرى أن الدولة يجب أن تلعب دورًا في الاقتصاد. نتفق معه تمامًا في هذا، لكنه لا يرتقي لدرجة إيديولوجيا اقتصادية، الشعارات لا تكفي. ما يجب هو تحويل القول السياسي إلى فعل تقني اقتصادي. 

للأسف الشديد، طيلة العشر سنوات، حولنا الفعل التقني الاقتصادي إلى قول سياسي. يقوم سعيّد بترويج أقوال عامة دون خطة اقتصادية محددة. السؤال المطروح: كيف يمكن التعامل مع الأزمة؟ نحن نعيش أزمة اقتصادية ستكون انعكاساتها حادة اجتماعياً وقد تمس كل الشرائح والطبقات، قد تهدد الدولة وليس سعيّد وحلمه فقط.

اقرأ/ي أيضًا:  مختصون في الاقتصاد:"قد نصل إلى مرحلة العجز التام ولا مفرّ من إصدار العملة"

أعتقد أن حتّى معارضي سعيّد لا يتمنون هذا. في 2011، تحرك الناس ضد نظام وحافظوا على الدولة، في 25 جويلية الماضي كذلك. إذا تعمّق المأزق الاقتصادي، قد تنسف الدولة، السقف الذي يضمنا جميعًا، لهذا يجب القيام بحوار واتفاق حقيقي يطرح إصلاحات جدية، مع تشريك المكونات السياسية، والاجتماعية تحديدًا. أعتقد أن على سعيّد تحويل القول السياسي إلى فعل تقني وأعتقد أنه غير قادر على ذلك. 

الخلفاوي: إذا تعمّق المأزق الاقتصادي، قد تنسف الدولة، السقف الذي يضمنا جميعًا، لهذا يجب القيام بحوار واتفاق حقيقي يطرح إصلاحات جدية، مع تشريك المكونات السياسية، والاجتماعية تحديدًا

  • في ذات السياق، اعتبر رمضان بن عمر، المتحدث باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، أن رفض تنفيذ ما جاء في القانون 38 هو رسالة للخارج، تحديدًا لصندوق النقد. هناك رفض داخلي لسياسات التقشف التي يفرضها الصندوق بينما هناك محاولات لإغواء هذه المؤسسات، هل تعتقدون أن سعيّد قادر على إدارة هذه التناقضات؟ 

في لحظة ما، اتفقت عديد المكونات في الساحة حول ضرورة غلق البرلمان. طيب، كيف ستكون إدارة الصراع الآن؟ الطريقة التي يدار بها الصراع الآن هي طريقة فوقية. هل هناك تراجع في حدة الخطاب الموجه للخارج؟ نعم. أبرز دليل: الرسالة التي وجهتها نجلاء بودن للصندوق وللأسف ليس هناك حل آخر. المشكل هو، كيف توجه خطابًا للاستهلاك الداخلي ضد المؤسسات المانحة ووكالات التصنيف وفي نفس الوقت، تبحث عن التفاوض معها. ولماذا توجيه رسالة لمؤسسة مالية خارجية لا نعلم فحواها وخطوطها العريضة؟ 

  • في مقالكم "Non, Kais Saied n’est pas schmittien"، استنتجتم أن قيس سعيّد "لا يحمل أي إيديولوجيا أو مشروعًا سياسيًا واجتماعيًا"، في حين هو يقول إنه صاحب مشروع وإن عملية التصويت لصالحه في الانتخابات الأخيرة هي تفويض من "الشعب" لتنفيذ مشروع يريدونه ويعرفه هو. كيف تصفون ما يقول؟

هي الديماغوجيا وهي آلية من آليات الخطاب الشعبوي. أن تقول للناس ما يريدون سماعه. كل الشعبويين ديماغوجيين لكن العكس غير صحيح. بورقيبة كان ديماغوجياً، ولم يكن شعبويًا. 

  • نظريًا، في العلوم السياسية، تعتبر ظاهرة les suprêmes majoritaires، أي عند فوز مترشح في الانتخابات الرئاسية بنسبة تفوق الـ 50% بكثير، حجة ضد للمترشّح أن عملية التصويت كان ضدّية، أي ضد مترشح وليس مع مترشّح. فعن أي مشروعية يتحدّث إذًا سعيّد وفق تقديركم؟

سنة 2002، عندما ترشح لوبان للدور الثاني ضد شيراك في الانتخابات الفرنسية، انتصر الأخير بنسبة 82%، أرعبت هذه النتيجة شيراك نفسه. النسبة التي فاز بها سعيّد هي دليل عن وجود خلل في العملية السياسية بل وجود مترشحين كسعيّد والقروي في الدور الثاني دليل قاطع على وجود خلل. اليوم مثلاً في فرنسا، ووفق استطلاعات الرأي، من المتوقع أن ينجح إريك زمور في العبور للدور الثاني ما دفع الأكاديميين والباحثين للبدء في البحث عن ماذا يحدث داخل المجتمع الفرنسي. نحن لم نطرح هذا التساؤل أصلاً.

النسبة التي حازها سعيّد في الدور الثاني تسمح له فقط بتمثيل هذه الإرادة الشعبية لا بتجسيدها، وهذا الأخطر. مهما كانت نسبة الفوز، مهمات الرئيس محددة بالدستور الذي وقعت الانتخابات وفقه. أما أن يعتقد سعيّد أنه قادر على تجسيد الشعب، وأن تكون إرادته هي إرادة الشعب، فهذه مسألة غاية في الخطورة. 

الخلفاوي: مهما كانت نسبة الفوز، مهمات الرئيس محددة بالدستور الذي وقعت الانتخابات وفقه أما أن يعتقد سعيّد أنه قادر على تجسيد الشعب، وأن تكون إرادته هي إرادة الشعب، فهذه مسألة غاية في الخطورة

في الديمقراطية، كل منتخب هو مفوّض للقيام بمهام محددة بالدستور فقط. ولا أحد فوق الدستور وهذا هو معنى دولة القانون يعني أن السلطة السياسية مطالبة بإنفاذ القانون، ومطالبة بالالتزام به كذلك. 

  • في ورقة بحثية نشرها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، يرى الباحث في علم الاجتماع سفيان جاب الله أن أحداث 25 جويلية، هي انتصار للدولة، بما هي مجموع الموظفين والأجهزة على النظام السياسي والحكومة والبرلمان وباقي المكونات السياسية، ما رأيكم في هذه القراءة؟ 

السؤال ليس لماذا فعل قيس سعيّد ذلك، سعيّد كان يستبطن القيام بما قام به منذ البداية لكن أرى أن التساؤل الأخطر هنا لماذا حظي ما قام به سعيّد بمقبولية شعبية؟ لأنه بالنهاية، الجسم الإداري، بمختلف مكوناته، هو جزء من "الشعب". 

مسار 25 جويلية هو مسار كامل ساهم فيه سعيّد وساهمت فيه كذلك كافة المكونات السياسية ما سبّب حالة حنق شعبي كبير. هل هو انتصار للإدارة؟ أعتقد لا. الإدارة الآن في حالة ترقّب. وأعتقد أن حزب الإدارة في تونس حزب قوي جدًا قادر على تعطيل أي نظام. والإدارة بالمناسبة لا تحمل فكرًا ديمقراطيًا فهي فطريًا في خدمة النظام القائم لكن إذا ما تواصل الحال كما هو الآن، الإدارة ستكون عنصرًا مهمًا في المعادلة القائمة.

  • في الواقع، يظهر سعيّد بمظهر المعادي للنخب: كبار الموظفين والبيروقراطيين. عادة ما يسمي الشعبويون هؤلاء بالدولة العميقة. كيف تفسّر التحالف الحالي بين كبار الموظفين وسعيّد؟ 

الإدارة وجدت لخدمة النظام لا الدولة التونسية. عملية الإصلاح التي لم تحصل والتي طالبت بها عديد القوى المدنية عطّلتها حركة النهضة عندما ظنّت أنه يمكن استغلال الجهاز الإداري بالطريقة التي وظفّها نظام بن علي. 

الخطيئة التي قامت بها حركة النهضة، ومع كل جسم سياسي تولّى السلطة، هي الاعتقاد أنه لا يمكن حكم تونس إلا بالطريقة التي حكم بها بورقيبة وبن علي بينما المطلوب هو عملية تحديث وعصرنة للدولة. 

عملية الإصلاح الإداري لم تحصل وقد عطّلتها حركة النهضة عندما ظنّت أنه يمكن استغلال الجهاز الإداري بالطريقة التي وظفّها نظام بن علي

أعتقد أن سعيّد لم ينطق بتاتًا بكونه معاد للنخب لكن سلوكه وتمظهراته توحي بهذا. على كل حال، النخب المقصودة ليست الإدارة. قيس سعيّد هو من النخبة بالمناسبة. حسب تعريفي، النخبة هي التي تمتلك وسائل إنتاج الثروة المادية والرمزية. وسعيّد كان أستاذًا بالتالي هو كذلك نخبة. الإدارة هي مجموعة من النخب، وهي لا تعادي سعيّد، لأن سعيّد نظريًّا لا يستبطن عداءها حسب رأيي. 

  • في كتابه "الأصول الاجتماعية للديمقراطية والدكتاتورية"، انتهى بارينجتون مور إلى أن "لا ديمقراطية دون برجوازية" فهل يمكن أن تترعرع الديمقراطية في دولة "الموظفين والعاطلين" (بالنظر للتركيبة الديموغرافية للفئة النشيطة: حوالي 5 مليون مواطن، ينقسمون بين أكثر من 3 مليون موظّف وتقريبًا 2 مليون عاطل عن العمل)؟ 

إذا أردنا الاستناد لبارينجتون مور، فلنستند أيضًا لسيمون مارتن ليبسات. في الحقيقة لم يطرح هؤلاء عملية الانتقال الديمقراطي لأنه قرار نخبوي بالأساس لكن هؤلاء تناولوا عملية تمتين الديمقراطية واستمرارها. 

لا أتبنّى أطروحات ليبسات، لكن هو يعتبر مرجعًا على كل حال. الأرقام حول القبول المواطني للديمقراطية مرعبة 30% من الأمريكيين يرفضون الديمقراطية، و40% في فرنسا. 

من كان يتصوّر أن ترامب قد يترأس الولايات المتحدة يومًا ما؟ لا يخفى على أحد أن الديمقراطية التمثيلية في أزمة. إذا لم يتم خلق طبقة مستفيدة اقتصادياً من الديمقراطية وتدافع عنها فلا تستمر الديمقراطية وهذا ما حصل في تونس. خلقت نوعًا من البرجوازية الطفيلية الاحتكارية كما لم نخلق مؤسسات لحماية الديمقراطية. 

الخلفاوي: الديمقراطية التمثيلية في أزمة في العالم وإذا لم يتم خلق طبقة مستفيدة اقتصادياً من الديمقراطية وتدافع عنها فلا تستمر الديمقراطية وهذا ما حصل في تونس

في اعتقادي، وأهم من كل هذا، هو وجود نخبة مؤمنة فعلاً بالديمقراطية. هناك من نادى من النخب بالتدخل العسكري في الحياة السياسية منذ ما قبل 25 جويلية. وهذا يطرح أكثر من سؤال. باختصار، لا يمكن أن تستمر الديمقراطية دون تحقيق رفاه اجتماعي واقتصادي يستفيد منه أوسع طيف ممكن من المجتمع. حققنا انتقالاً سياسيا، قطعنا شوطًا طويلًا في مجال الحريات، لكننا لم نجب عن السؤال الاجتماعي والاقتصادي. 

  • في حواركم مع مجلّة الفلسفة الفرنسية، philosophie magazine، سنة 2014، اعتبرتم أن دستور 2014 هو مكسب غير مسبوق في العالم العربي. هل مازلتم عند نفس الرّأي؟ وكيف تجيبون من يحيلون أسباب الفشل السياسي إلى الدستور؟ 

لا أزال عند نفس الرأي. دستور 2014 يحمل وزر، ليس كتابته، وإنما نسله. من يقول إن دستور 2014 هو دستور الإسلاميين، هم ناس: "ماهمْ فاهمينْ شيْ" حيث حسم الجدل الهووي في تونس، منذ التصويت على الفصل الأول. 

في النسخة الأولى، كان هناك تنصيص واضح على أن الإسلام دين الدولة ثم اختار المشرع أن يغيّر العبارة ليكون الإسلام دين تونس لا دين الدولة. باب الحقوق والحريات فيه فصل رائع هو الفصل 49. نعم، هناك صياغات سيئة في دستور 2014. وهل هناك دستور خال من الصياغات السيئة؟ الدستور يمكن تعديله، لكن ليس وفق رغبة فردية. الصياغات يمكن تحسينها. لكن أهم من هذا، لم يتم استكمال البناء المؤسساتي للدستور. كيف يمكن تقييم دستور لم يكتمل إنفاذه؟ 

  • هل استهانت الطبقة السياسية في تونس بالخطر الشعبوي؟

نعم استهانوا ولم يستشعروا الألم الذي أحسه المواطنين وصاروا في قطيعة مع المجتمع، ما دفع المواطنين نحو الحلول الراديكالية. 

  • كيف تفسّرون استمرار الصراع بين الإسلاميين والعلمانيين في حين يدور الصراع في الديمقراطيات حول العالم بين شعبويين وجمهوريين؟ 

النهضة مشكلة، وليست المشكل. مع الأسف، هناك علمانيون يتعاملون بمنطق تصفية الخصم السياسي عبر أجهزة الدولة (أعورلي عيني وأعور اللي مقابلني). مثلاً في ألمانيا، قبلت أنجيلا ميركل قانون زواج المثليين، رغم أنها ضده، باسم القيم المسيحية التي تحملها. ولم نر تحاملاً عليها. 

الخلفاوي: هل تخلت النهضة نهائيًا عن مشروعها الديني؟ لا أعتقد ذلك. آخر مثال رأيناه: في المظاهرات المناوئة لقيس سعيّد، رفعت شعارات من قبيل: "لا إله إلا الله وقيس سعيّد عدو الله"

من الطبيعي أن يكون هناك صراع بين محافظين وتقدميين أو غيرهم. التنظيمات السياسية هي تعبيرات عن توجهات مجتمعية، تنزع الصراع من المجتمع، وتحوله إلى صراع سياسي (شفوي الحوار، النقاش والجدل...). لكن يبقى السؤال هنا: هل تخلت حركة النهضة نهائيًا عن مشروعها الديني؟ لا أعتقد ذلك. آخر مثال رأيناه: في المظاهرات المناوئة لقيس سعيّد، رفعت شعارات من قبيل: "لا إله إلا الله وقيس سعيّد عدو الله". يعني بمجرّد خلاف سياسي ولو حاد، نتحول نحو التكفير. 

قيس سعيّد معاد للديمقراطية نعم، لكني كمواطن، لا أسمح بتكفيره. وهنا المشكل، حيث يعيد هذا المخاوف حول الحريات الفردية، والحريات بصفة عامة. إذًا السؤال المطروح: هل يقبل هذا الخصم، المحافظ أو الديني، في حال انتصر في اللعبة الانتخابية، بإعادة تنظيم لعبة جديدة يمكن أن يخسر فيها؟ هذه الأسئلة التي يجب الإجابة عنها، ومن الجميع بالمناسبة، لكي يتحوّل الجدل السياسي إلى جدل بين محافظين وتقدميين.

  • بالنظر لقوته كجسم وسيط، هل أخطأ الاتحاد العام التونسي للشغل "بمهادنة" قيس سعيّد؟ 

الاتحاد ليس شريكاً في البلاد، بل شريك في الدولة، وهو حريص عليها. للأسف، هناك صراعات داخل الاتحاد أصبحت محددة في سياساته الخارجية. هناك قوى تدفع نحو مساندة 25 جويلية، لكن من جهة أخرى لا يمكن التغاضي عن عدم تشريكه في القرار. حتّى أختم، يجب الإشارة، إلى أن من يريد أن يحكم، لا يمكنه القيام بذلك، دون الاتحاد العام التونسي للشغل، كما لا يمكن أن تنجح معارضة دونه. 

مراسل "ألترا تونس" وضيفه الباحث في العلوم السياسية محمد الصحبي الخلفاوي

 

اقرأ/ي أيضًا: ​

الاتصال والسياسة في تونس بعد 25 جويلية: من هم التونسيون ومن يمثّلهم؟

قراءة نقدية أولية في المشروع السياسي لقيس سعيّد..