"مجيد" رجل من عمق هذا الوطن، قادم من الجنوب، يربي النحل في بيئة صادقة "لم يطلب يومًا شيئًا من الدولة" هكذا يقول في أحد مشاهد مسلسل "حرقة"، لكن هذه المرة جاء يدق الأبواب بحثًا عن ابن غادره وهو كل حياته، عن شاب من هذا الوطن قرر الهجرة غير النظامية دون أن يعلم والده الذي انقلبت حياته رأسًا على عقب، وفي بحثه عن ابنه يكتشف خفايا الوطن المزدحم بالماسي، بالفساد، باليأس، بالعجز.. الوطن الذي يلتهم البحر أبناءه.
مجيد شد المشاهدين فتمنى كثيرون أن يكون والدهم ورأى فيه آخرون آباءهم وأحبه آخرون لأنه عكس صورتهم، إذا تكلم تصغي لقوله وإذا صمت قادرة تعابير وجهه على قول أكثر من الكلام وإذا مشى جر في خطواته أذيال خيبة شعب بأكمله.
الممثل رياض حمدي: العمل الفني مطالب بأن يعكس فكرًا وتساؤلًا حقيقيًا حول المعنى وماهية الأشياء، فبالنسبة لي مثلًا العمل المسرحي الذي لا يخرج الناس في مسيرات ولا يدفعهم للثورة ولتغيير واقعهم ليس فنًا
مجيد شخصية جسدها الممثل رياض حمدي في مسلسل "حرقة"، وهو أستاذ جامعي في اختصاص الكوميديا يدرّسها بالمعهد العالي للفن المسرحي، وشهادة ختم الدروس التي تخرج بها من المعهد كان موضوعها "الممثل المرح".
وقد تحصل على الماجستير متناولًا موضوع "توجيه الممثل وجدلية النظري والتطبيقي وهي التي حملته إلى رسالة الدكتوراه ليكون موضوعها الارتجال المسرحي كمسار إبداعي أو الإنشائية الارتجالية.
أصيل مرناق وانطلاقته كانت مع مسرح الهواة، انخرط في المسرح الوطني مع الفاضل الجعايبي وقدم معه عدة أعمال، وكان أول ظهور له في مسلسل المايسترو.
وتحصل الممثل رياض حمدي على دوره في مسلسل "حرقة" على جائزة أفضل ممثل في المسلسلات الرمضانية التونسية في الدورة السادسة من مسابقة "رمضان اوارد" الي تنظمها مجلة تونيفيزيون بالشراكة مع إذاعة الشباب.
"الترا تونس" التقى رياض حمدي وكان الحوار التالي:
- ألا يبدو أن قدومك للتلفزة جاء متأخرًا؟ هل هو اختيار أم اضطرار؟
كنا كجيل مسرحي نخاف من التلفزة لأنها تعكس صورة النظام بـ"سيستامه"، لهذا كنا نخافها فهي سيئة السمعة بالنسبة لنا.
كنا نخاف أن يبتلعنا السيستام لأننا غير قادرين على فرض منطق وتصور وأفكار. فعوض أن نقدم مشروعًا نجد أنفسنا منخرطين في منظومة دعائية تصدر أعمالًا لا ترتقي لأن تكون حاملة لخطاب يعكس تصوراتنا وتكون طريقًا للفن الذي نطمح إليه والذي يحمل رسالة.
- كنتم تخافون التلفزة وترفضون العمل فيها، لكن أعتقد أن التلفزة أيضًا كانت ترفضكم، أليس كذلك؟
أول مسرحية صعدت بها على الركح لوحدي في مسرح الهواة، وهي "فص ذاب" تعرضت فيها للمنع وللرقابة وأذكر أن لجنة التوجيه المسرحي مدتني بورقة كتب فيها المشاهد التي يجب أن أحذفها ووقعت على الورقة إلا أنني أثناء العرض ودون شعور كنت أعرض تلك المشاهد المحذوفة.
اقرأ/ي أيضًا: الجمهور التونسي و"كان يا ما كانش".. تصالح ونفور
الرقابة كانت في المسرح أيضًا وليست في التلفزة فقط، لكن هذه الأخيرة كنا لا نفكر فيها أصلًا لأن ما نشاهده لا يمكن أن ننخرط فيه فهي محسوبة على النظام وتصدر خطابًا لتوجيه الرأي العام وتذر الرماد على العيون وتوهم بما يوازي الحقيقة أو يشابهها.
ولو أن بعض الآثار التلفزية ارتقت جماليًا إلى مستوى جيد وحتى لو كان مستوى الخطاب بالإيحاءات جيدًا، لكن أعمال في حجم "المايسترو" أو "حرقة" فإنها تعتبر سابقة في تاريخ التلفزة التونسية على مستوى الموضوع المطروح والخطاب.
رياض حمدي: أعمال في حجم "المايسترو" و "حرقة" تعتبر سابقة في تاريخ التلفزة التونسية على مستوى الموضوع المطروح والخطاب
- بعد مشاركتك في مسلسل "حرقة" والنجاح الذي حققتموه، هل يمكن أن نتحدث عن بداية جديدة ونقلة نوعية في مسيرتك؟
"الناس ما تعرفنيش" فقد شاركت في أعمال مسرحية كانت تعرض أمام شبابيك مغلقة لكن أيضًا قدمنا أعمالًا مسرحية مع الفاضل الجعايبي أمام 9 آلاف متفرج كما قدمنا عروضًا في الخارج.
لهذا أعتقد أن مرحلة تكوين الذات ليست مطروحة وأنا تجاوزت هذه المرحلة، لكن ربما هو نقلة نوعية على مستوى الطرح كمشروع فني.
هذا ويبقى المسرح هو المرجع الأساسي ولا يمكنني أن أبتعد عنه خصوصًا وأنا الآن بصدد الدخول في مشروع الإخراج والدراماتولوجيا، ولدي مشروع كامل بصدد أن يرى النور.
- ما الذي أضافته لك التلفزة؟
التلفزة تجربة لم أتوقعها، لكن إذا عرضت علي أعمال طرحها بقيمة "حرقة" وطُرحت عليّ شخصيات حاملة لخطاب بعمق وتأثير مماثل لشخصية مجيد فأنا مستعد لخوض التجربة.
رياض حمدي: اشتغلت على الشخصية من جانبها الاجتماعي والاقتصادي والفكري حتى أكون "مجيد" بتلك اللهجة والطاقة والتلقائية وبذلك الوعي البسيط. وكنت وراء "مجيد" أتبعه بالنص وبالحركات وحتى في صمته
- شخصية الأب القادم من الجنوب بذلك الصفاء وبتلك اللوعة على فقدان ابنه التي حملها "مجيد" نجحتَ في إقناع المشاهد بها، ما سر ذلك؟
أنا اشتغلت على هذه الشخصية من جانبها الاجتماعي والاقتصادي والفكري حتى أكون "مجيد" بتلك اللهجة بطاقته بتلقائيته وبراءته بذلك الوعي البسيط، فهو انطوائي وكان ابنه الشريان الوحيد الذي يربطه بالحياة.
اقرأ/ي أيضًا: "الفوندو".. قسوة الظاهر وهشاشة الداخل
ولهذا كان لا بد أن أصل إلى شخصية مجيد وأتماهى معها وأعتقد أني فعلت ذلك.
ولقد كنت وراء "مجيد" أتبعه بالنص وبالحركات وحتى في صمته.
- مجيد قال جملًا عديدة شدت المشاهدين، أيها التي ظلت عالقة فيك؟
فعلًا هناك جملًا كثيرة، لكن أبرز التي ظلت عالقة في بالي: "التفش تعرفي التفش حني تفش.. رانا منسووا شي وحتى كيف يضيع واحد منا منحسوش بيه"، وأيضًا "الدولة هذه ما تربطنا بيها كان بطاقة التعريف".. وبالفعل كانت جملًا مفاتيح مهمة جدًا.
- كأكاديمي ومتخصص، لماذا نجح مسلسل "حرقة" رغم الحرقة التي خلفها لدى المشاهد؟
منذ البدايات، مع نشأة المسرح كانت التراجيديا وبطل العمل التراجيدي هو نصف آلهة ونهايته مأساة، الحرقة والألم والفاجعة أساس العمل الفرجوي منذ القديم والغاية منه التطهير، فالمشاهد يتماهى مع البطل فيخاف أن يؤول إلى ما آل إليه البطل ويشفق عليه لكنه يستدرك ويقول "الحمد لله منيش أنا في بلاصتو".
رياض حمدي: هناك حبكة درامية تشد المشاهد وهو ما وفر ظروف النجاح، زد على ذلك مهارة وحرفية الأداء الواقعي وعمل المخرج على تقنيات الوثائقي، كما اختلط الممثلون بشخصيات حقيقية وهو ما خلق التماهي
وفي مسلسل حرقة طرحنا مأساة أبطالها التراجيديون كثيرون منهم مجيد ونعمة وحتى "الحرّاق"، فمصيرهم مأساوي منذ البداية.
زِد على ذلك ظاهرة "الحرقة" يعرفها القاصي والداني وأكثر من 50 بالمائة من الشعب التونسي عانى منها الويلات والحرقة بنار "الحرقة". لهذا حينما تجتمع كل هذه العوامل فإن العمل سينجح في شد المشاهد. لكن أيضًا هذا الموضوع سلاح ذو حدين، فإذا تناولته بسطحية وإسفاف دون بحث حقيقي سوف ينقلب السحر على الساحر ويصبح ضدك.
لهذا حاول العمل أن يوفر عوامل النجاح وهي العوامل التقنية شكلًا ومضمونًا، أولًا السيناريو كتب بما يسمى السيناريو المتوازي أي أن هناك ما يقارب خمسة خطوط متوازية تلتقي في النهاية.
وهناك حبكة درامية تشد المشاهد وهو ما وفر ظروف النجاح، زد على ذلك مهارة وحرفية الأداء الواقعي وعمل المخرج أيضًا على تقنيات الوثائقي، كما اختلط الممثلون بشخصيات حقيقية وهو ما خلق التماهي والشد بغاية الإيصال، وحتى نصل إلى مرحلة الحقيقة وليس التمثيل.
فالفنان مطلوب منه أن يطرح مشروعًا فنيًا حقيقيًا يلتزم بقضايا الواقع، وعلى الفنان أن يمسّ الواقع. كفانا ذر رماد على العيون، وكفانا من التنميق المبالغ فيه. العمل الفني مطالب بأن يعكس فكرًا وتساؤلًا حقيقيًا حول المعنى وماهية الأشياء، فبالنسبة لي مثلًا العمل المسرحي الذي لا يخرج الناس في مسيرات ولا يدفعهم للثورة ولتغيير واقعهم ليس فنًا.
اقرأ/ي أيضًا:
كاتب سيناريو مسلسل حرقة لـ"الترا تونس": حاولنا أن نخفّف جرعة الألم في المسلسل