21-أبريل-2021

من بين الاستثناءات المهمّة في هذا المسلسل حضور وجوه السّلطة بدون مكياج: الفاسد والشّريف، السّياسي العاجز والبيروقراطي المتخاذل (صورة من المسلسل)

مقال رأي

 

تصدير: "وأي مغامرة! ملحمة كونيّة بقدر ماهي مأساة تاريخيّة. يسمع فيها صوتًا خفيًّا يناديه إلى {هناك} فيستجيب مدفوعًا بشوق شديد ينبع من سعير الأجواء الإستوائيّة إلى مناطق الثّلوج {أنا جنوب يحن إلى شمال}: مناخ يسعى إلى مناخ حتى تتزاوج الأقاليم وتنتفي الضدّية فلا حر ولا جليد وإنّما الاعتدال" من تقديم الأستاذ توفيق بكّار لرواية موسم الهجرة إلى الشّمال.


  • التوقيت: 17:00. المكان: أحد أحياء الحزام لتونس العاصمة:

ما إن أغادر مكان العمل وأرتطم بالحياة خارج أسوار العدّاد الرّقمي للدّخول والخروج (pointeuse)، حتّى تعترضني أساطيل "البرباشة": عربات يدفعها سائقات وسائقون، حاملين ما ظفروا به من بحثهم في حاويات القمامة وعلى أطراف الطّرقات: قوارير الماء الفارغة، كراسٍ ودلاء بلاستيكيّة، علب أليمنيوم، بقايا الخبز... تلك هي بضاعتهم وما يحملون. أمضي في طريقي نحو المخبزة وتتبادر إلى ذهني الأسئلة المعتادة: هل هؤلاء على علم بالأزمة السّياسيّة في البلاد؟ أحوال الميزانيّة والمديونيّة؟ هل يعون ما يهذي به "الروبوكوب"؟ ماذا عن أحلام "الشيخ الطائش"، حماقات "البنت الممسوسة" وترّهات بقيّة الصبيان؟ أتجبّر على نفسي كالعادة وأجيبها: وماذا يفيدهم إن علموا ذلك؟ لا شي! ها أنا أفترض أنّي أعلم. فما الفرق بيننا؟ لا شي. هل يغيّر ذلك من واقعنا شيئًا؟ قطعًا لا.

 ظلّت السّاحة الإبداعيّة التّونسيّة ترزح لسنوات، ككلّ القطاعات، تحت وطأة ديكتاتوريّة ومقص رقابي خانق، ورغم ذلك كان هناك أعمال نجحت في مراوغة الرّقيب

أعود لنفسي محاولًا التفكّر بأحوالي. ثمّ أسارع الخطى بعد أن تذكّرت أنّ عليّ أن أساعد شريكي في السّكن في إعداد الفطور قبل أن يباغتنا الأذان كالعادة.

اشتريت الخبز وها أنا عائد أرى أبواب المطعم المجاور الذي تعوّدت أن تشغله جمعيّة خيريّة لتقديم مساعدات وجبات الإفطار. كاد المشهد ليبدو معتادًا لولا تفصيل جديد لفت انتباهي. كثير من التّونسيين: كهول وشبّان، نساء ورجال وأطفال! في العادة يقدّم هذا المطعم مساعداته إلى بعض الأجانب وبعض العمّال والطلبة. اليوم صارت عائلات تقصده طلبًا للمساعدة.

أبطأت السّير محاولًا التثبّت. عند نظري إليهم سارع بعضهم بارتداء الكمّامات التي رفعوها إلى أعينهم بينما بادر آخرون بالإشاحة بوجوههم إلى الاتّجاه المقابل. ربّما تذكّروا عند نظري نحوهم البروتوكول الصحّي. ربّما التفت من التفت نحو منادٍ لم أره. واصلت طريقي حاملًا هذه الـ"ربّما" وأخواتها، لأضيفها إلى "ربّما" أخرى رابضة في رفوف ذهني: ربّما كثرة "البرباشة" في السّنوات الأخيرة تعود إلى مردوديّتها في بيع البلاستيك الماديّة. ربّما كذلك تعود إلى تدهور الأحوال الاقتصادية. ربّما وربّما... وعندما وصلت الباب، تذكّرت قول توفيق بن بريك في روايته كوزاكي: "الحوت في الماء عطشان" وصلت وقد انفطر القلب وأنهك البال بالتّساؤلات والافتراضات.

اقرأ/ي أيضًا: هل تحوّلت الدراما التونسية إلى خطر يهدّد المراهقين؟

  • التّوقيت: 19:00. المكان: مطبخ المنزل.

كنّا قبل أيّام قد جهّزنا التلفاز لمشاهدة مسلسلات رمضان التي ننتظرها كلّ سنة. "الفن هو تجربة ما أحسسته بداخلك". هكذا أنهى المخرج الإيراني عبّاس كياروستامي فيلمه "كلوز آب". بعد أن بللت ريقي وقطعت صيامي بعد الأذان، رحت أتصفّح القنوات التّونسيّة علّني أضفر بما يؤنس إفطارنا ويعيد نوستالجيا رمضان الذي عرفناه في صغرنا. منذ الأيّام الأولى وأنا بين خيبة وأخرى. يبدو أنّه حتى "التيلي-بوبال" لا تنجح في هذا البلد. نطقت ساخطًا:

- لماذا صارت السيتكومات هكذا؟ ماهذه الرداءة؟ ابتدع الفرنسيّون تلفزيون القمامة ووقعنا نحن فيه.

- كيف لك أن تقارن؟ قال شريكي في السكن ضاحكًا. "زبلتهمْ نظيفة غادي". يا ليت لو نبلغ مستوى "التيلي-بوبال" كما يصوغونه هناك. وراء البحر.

أشعلت سيجارة الفطور الغادرة. أنفخ مع دخّانها خيبات يومي وعشيّته. أهذا ما يريد الجمهور فعلًا؟  تذكرت مقالة ألان دونو في نصّه "حكم الرّداءة"، في فقرة "جعل الطبقة الوسطى رديئة": "الطبقة الوسطى، المدجّنة بقوانين السّوق، ليست سوى مصدر للموارد الحيويّة لصناعة الدّولة". يحيل دونو أيضًا في ذات الكتاب إلى عالم الاجتماع الأميركي شارلز رايت ميلز: "مجموع مصالحهم لا يكفي لجمعهم، ومستقبلهم ليس بيدهم... تطلّعاتهم، إن وجدت، تتّجه نحو ماضٍ لن يوجد مجدّدًا، إذًا نحو حلم لن يتحقّق في مجتمع وهمي".

في "شقفْ الحرقة" نجد شابًا عشرينيًا يرجو الحلم الأوروبي، أمًّا عزباء هاربة من الوصم الاجتماعي، كهلًا ضريرًا يأمل أن يرى الأمل بعدما فقده، فتاة جامعيّة قرّرت أن تخوض تربّص "الهم" في بلاد "العكري"، وآخرين بلا ملامح...

فتحت هاتفي، ولجت إلى الفضاء الافتراضي، وجدت نقاشًا بيزنطيًّا محتدمًا بين ساخط على محتوًى لا يتناسب و"الشّهر الفضيل"، وتعليقات من نوع "ذلك هو الواقع". هل وظيفة الفنّ تنتهي عند تصوير هذا الواقع؟ طيّب يا سيدي صوّرتم الواقع ولكم جزيل الشّكر. هل نحن غرباء عن هذا الواقع؟ ألا نعرفه؟ ألا نعيشه؟ ألسنا غارقين فيه يوميًّا؟ وإلى متى ترويج البؤس المتلفز وسلعنة قضايا المجتمع؟ هل صار ارتهان الثّقافة لآليّات السّوق محتومًا؟ ماذا عن معالجة هذا الواقع؟ ماذا عن إنتاج القيمة؟ في كتاب ثروة الأمم، أشار أب الرّأسماليّة آدم سميث بكثافة إلى دور "الذّوق" في النموّ الاقتصادي. لكن أي ذوق؟ ذوقي؟ ذوق المخرج؟ ذوق النّاقد؟ معضلة أخرى أشد في عصر الفردانيّة المطلقة. واصلت تصفّح المنشورات في الهاتف إلى أن اعترضني خبر غرق 21 جثّة في محاولة فرار جماعي من جحيم إفريقيا الدّائم. ربّما عطش الحوت الذي تحدّث عنه بن بريك لأنّه أبى شرب ماء اختلط بما تبقّى من دماء من حاولوا الهرب من مصّاصي دماء البر.

اقرأ/ي أيضًا: "المايسترو".. حينما تفتح الدراما ملف مراكز الإصلاح في تونس

  • التّوقيت: لحظات بعد انتهاء مسلسل الحرقة. المكان: مكان ما داخل حيرتي:  

في "شقفْ الحرقة" نجد شابًا عشرينيًا يرجو الحلم الأوروبي بعدما أضناه الكابوس التّونسي، أمًّا عزباء هاربة من الظنون والأحكام المجتمعيّة، كهلًا ضريرًا يأمل أن يرى الأمل بعدما فقده في "البلادْ"، فتاة جامعيّة قرّرت أن تخوض تربّص "الهم" في بلاد "العكري"، وآخرين بلا ملامح، وأجانب هاربين من البؤس الإفريقي الذي لا ينتهي، وبحارين وربّان "رايس" قرّر هو الآخر أن "يحرق"، وجروًا وفيًّا لصاحبه أبى إلّا أن يرافقه... من بقي ولم ينضمّ لهذه الرّحلة؟ حتّى الحشيش (الزّطلة) كان حاضرًا أيضًا.

يقدّم المسلسل مقاربة دراميّة لسيكولوجيا الهامش بحوارات غنيّة بين شخصيّات قام بأدائها ممثّلون أبدعوا في تقمّص أدوارهم بعناية

في اليابسة الجنوبيّة أيضًا حكايات: أهل يعانون الفقد، سلطات تتخبّط بين الحيرة والفساد... نعرف الباقي فلِمَ نعيده.

أمّا في اليابسة الشمالية: جحيم "الغربة" ينتظر.  

يقول جيمس بالدوين: "هذا هو الشّاغل الحقيقي الوحيد للفنّان، أن يعيد تكوين هذه الحياة مشكّلًا ذلك النّظام الّذي يسمّى الفن"، هذا ما نجح فيه مخرج مسلسل "الحرقة"، الأسعد الوسلاتي، عبر حبكة دوستويفسكية دراميّة توليفتها من كلّ الفئات الهشّة تقريبًا مع قضاياهم: الفقر، البطالة، الخوف، التحرّش، العنف، فساد السّلطة، حيرة الشّباب، "تعلّمْ عومْ"، العنصريّة، ضحايا الحروب، قضايا الهجرة هنا وهناك... الأداء الدّرامي هو الآخر من أروع ما يكون، والجميل هو ظهور أبناء التكوين الأكاديمي المسرحي الاحترافي... يبدو أنّ فريق الإنتاج لا يملك إنستغرام كبقيّة فرق إنتاج مسلسلات "الواقع" و"سلطة المشاهدين وأرقام المشاهدة".

اقرأ/ي أيضًا: مسلسل "نوبة".. الحنين الأبدي إلى "المزود" بحبل درامي ساحر

"إنّ الكلام على الكلام صعب" (أبو حيّان التّوحيدي). من بين الاستثناءات المهمّة في هذا العمل، حضور وجوه السّلطة بدون مكياج: الفاسد والشّريف، السّياسي العاجز والبيروقراطي المتخاذل.  يقول ألونزو هاريس (دينزل واشنطن) في أحد مشاهد فيلم "Training Day": "كي تحمي الخروف عليك أن تمسك الذّئب، ولا يمسك بالذّئب إلّا ذئب". استحضر المخرج مشهدًا مشابهًا أثّثه كاتب السّيناريو بحوار بين البحّار و"شافْ المركزْ": "الحرّاق ما خرج إلّا ما إنتم سيّبتوا اللعب... تحب اتّبع... شد راس الفتلة".

يقدّم المسلسل مقاربة دراميّة لسيكولوجيا الهامش بحوارات غنيّة بين شخصيّات قام بأدائها ممثّلون أبدعوا في تقمّص أدوارهم بعناية. كذلك، تضمّن متن السّيناريو مقاربة مختلفة عن السّائد، أميركيّة على الأرجح، للمعالجة الثّقافيّة للقضايا المجتمعيّة: بدل التّركيز والانشغال فقط بدراما الضّحايا، وقع طرح صيرورة "الأشرار": أي محاولة الإجابة عن كيف صار "الأشرار" أشرارًا؟ يقول الرّايس "صاروخ" (مهذّب الرّميلي) صارخًا: "الموتْ خلّيتها ورايا في تونس وممكن راهي تستنّا فيّا في إيطاليا ويمكن البحر أرحم منهم الاثنين." يبدو أنّ الكلّ ضحايا، بدرجات!

تضمّن متن السّيناريو مقاربة مختلفة عن السّائد، أميركيّة على الأرجح، للمعالجة الثّقافيّة للقضايا المجتمعيّة: بدل التّركيز والانشغال فقط بدراما الضّحايا، وقع طرح صيرورة "الأشرار"

كتب نيتشه يومًا في كتابه الأول "ولادة التراجيديا" حول تأثره بالإبداع الفني الإغريقي فقال: "لا بد وأنهم عانوا كثيرًا لينتجوا مثل هذا الإبداع". ظلت الساحة الإبداعية التونسية ترزح لسنوات، ككلّ القطاعات، تحت وطأة ديكتاتورية ومقص رقابي خانق، ورغم ذلك كان هناك أعمال نجحت في مراوغة الرّقيب، كمسرحيّة كلام النّاس لتوفيق الجبالي أو مسرحيّة "حمّة الجريدي"، وبعثت الأمل في أنّه لو انزاح الدكتاتور لتنفّس الكتّاب والفنّانون.

 لكن فور أفول ظلام الدّكتاتور، أشرقت دكتاتوريّة المشاهد برعاية المستشهرين. وانحسرت الدراما في إنتاج "الواقع". شكرًا يا سيدي، نعرف هذا الواقع، ونعيشه، ولا جديد تحت الشّمس. لكنّ أليست أولى مهمّات المثقّف هي تفكيك هذا الواقع والبحث في أسبابه على الأقل، وربّما طرح تصوّرات ومقاربات لحلول قد تلهم الجمهور؟ الجواب قد يكون في الحلقات القادمة التي تبدو واعدة.  على أنغام موسيقى الجنريك التي قام بتأليفها المايسترو رياض الفهري وأدّتها فرقة الأوركسترا السمفوني بموسكو،  انتهت الحلقة تاركة فيَّ حيرة وشغفًا مع فسحة أمل أنّ لنا أيضًا القدرة على الإبداع والإنتاج.

  • التّوقيت: 23:00. المكان: ميتا-الحلم.

"غدًا يوم جديد" (عنوان لعبد الحميد بن هدوقة).

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"

 

اقرأ/ي أيضًا:

مسلسلات رمضان 2021 في تونس.. جواسيس و"بوليس" وعودة للتاريخ

الدراما التلفزية في تونس.. كيف نشأت؟ وما وضعها اليوم؟