عاد الهدوء النسبي إلى بعض الولايات التي شهدت تحركات احتجاجية خلال الأيّام الماضية، التي اندلعت خصوصًا في العديد من المناطق المهمشة سواء بالعاصمة أو ببعض المدن الأخرى في عدّة جهات. كما تسببت في العديد من الخسائر المادية، وفي إيقافات شملت عددًا كبيرًا من القصّر.
وقد أثارت التحركات الاحتجاجية الأخيرة انتقادات كبيرة، خصوصًا لدى من اعتبرها مجرّد أعمال تخريبية غايتها السرقة والاعتداء على الملك الخاص والعام. فيما اعتبرها البعض الآخر نتاجًا للأزمة الاقتصادية والبطالة، خاصة وأنها اندلعت في مناطق تعاني التهميش منذ سنوات وترتفع فيها نسب البطالة بشكل كبير.
أثارت التحركات الاحتجاجية الأخيرة انتقادات كبيرة، خصوصًا لدى من اعتبرها مجرّد أعمال تخريبية غايتها السرقة والاعتداء على الملك الخاص والعام، فيما اعتبرها البعض الآخر نتاجًا للأزمة الاقتصادية
وقد سبق للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية أن نبّه إلى خطورة تعمّق الأزمة الاقتصادية وانعكاساتها على المجتمع وعلى الفئات الأكثر هشاشة، لاسيما وقد رصد المنتدى أكثر من 7600 تحرك احتجاجي في تونس خلال عام 2020، مقابل 9091 خلال 2019، و9365 خلال 2018.
كما دعا المنتدى مؤخرًا "الاحتجاجات الاجتماعية لمواصلة نضالها مع احترام الممتلكات العامة والخاصة تأكيدًا لهدفها الأسمى في التغيير الحقيقي والقطيعة مع السياسات الاقتصادية والاجتماعية الفاشلة"، مؤكدًا دعمه لكل الاحتجاجات الاجتماعية المدافعة عن الحقوق والكرامة والمساواة أمام القانون.
اقرأ/ي أيضًا: أي عنوان للتطورات الليلية الأخيرة في تونس؟
وحمل المنتدى المسؤولية لـ"النخب السياسية التي تداولت الحكم والتي تواطأت وتسامحت مع الفساد وكرست اقتصاد الريع وسياسة الإفلات من العقاب وعدم المساواة في الحقوق وأمام القانون".
"الترا تونس" توجهت بجملة من الأسئلة إلى رمضان بن عمر، الناطق الرسمي باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، في علاقة بالتحركات الاحتجاجية الأخيرة، وردود الأفعال التي أثارتها سواء على مستوى الشارع التونسي، أو على المستوى الحقوقي والسياسي. فكان الحوار التالي:
- ماهي قراءة المنتدى للتحركات الأخيرة وأين يصنفها، هل هي مجرد أعمال تخريبية كما يصفها البعض، أم هي نتاج للحيف الاجتماعي وللأزمة الاقتصادية؟
إن الاحتجاجات الأخيرة في مختلف المناطق ليست مفاجئة حتى لدى الحكومة، التي للأسف استعدت فقط باستيراد معدات مقاومة الشغب، والتي تنقل رئيس الحكومة لاستقبالها في رسالة واضحة، بل هي نتيجة مسار من التهميش والإقصاء.
والصمت السياسي الرسمي تجاهها عند بداية الغضب والخروج الإعلامي لرئيس الحكومة دليل على عجز النخب الحاكمة عن إجابات حقيقية للدوافع الكامنة وراء موجات الغضب المتصاعد.
كما أنّ بعض ردود الأفعال التي تعكس قصورًا في الفهم ورغبة سريعة في الوصم، تركزت فقط على ما يرافق هذا الغضب من سرقة. وهو ليس استثناءً تونسيًا كما أنّه ليس تبريرًا بقدر ما هو إرجاع للنقاش لجوهره.
رمضان بن عمر (الناطق باسم منتدى الحقوق الاقتصادية): الصمت السياسي الرسمي عند بداية الاحتجاجات الأخيرة دليل على عجز النخب الحاكمة عن إجابات حقيقية للدوافع الكامنة وراء موجات الغضب المتصاعد
لقد كرست السنوات الأخيرة لدى فئات واسعة من الشباب أننا نعيش ديمقراطية واجهة، وأنّ الدّولة لا تؤدي دورها ووظيفتها بل هي في حدّ ذاتها عامل عنف اجتماعي (عدم المساواة، انعدام العدالة الزّبونية، المحاباة، سلطة الأقوى...)، بل تعمل في الاتجاه المعاكس لما أنشأت من أجله، أي التعديل الاقتصادي والاجتماعي.
إن العنف الاقتصادي والتّمييز الاجتماعي المقترنين بالاحتقار الطبقي أو الفئوي الاجتماعي نتيجة الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وضعف أداء الدولة أثناء الجائحة وتخليها عن فئات واسعة من الشعب والتعامل الأمني العنيف مع الاحتجاجات الاخيرة، جميعها ولدت شعورًا بالخزي والمهانة لدى فئات واسعة مما مهد لمشاعر الغضب والتعبير عنها عن طريق العنف.
اقرأ/ي أيضًا: أغنية "يا حياتنا"... ثورة جمهور الإفريقي على الفساد والظلم
وهكذا يتحوّل الحيّ، في المجتمع الشامل الذي يتبلور فيه الظّلم والإقصاء، إلى فضاء للمقاومة الجماعية.
كما أنّ هذه الاحتجاجات تثبت أنّ الوظيفة المهيكلة، التي يؤدّيها القانون لم تعد فاعلة في مناخ يسوده غياب العدل والتهميش، وفي أعقاب نظرة سلبية للغاية إلى البوليس والدّولة.
وهذه الاحتجاجات تنبه الفاعلين السياسيين إلى أنّ الفقر والإقصاء والتهميش لابد أن يقترنوا بطلب مزيد من الاعتراف والكرامة والعدالة، عبر سياسات اقتصادية واجتماعية أكثر عدلًا وإنصافًا.
رمضان بن عمر: لقد قدمت الحكومة إجابة أمنية بامتياز لأزمة اقتصادية واجتماعية، وبذلك تواصل سياسة الهروب من فتح ملف السياسات الاقتصادية والاجتماعية، بما يعكس انعدام الرؤية والبديل والتخطيط
كما أنّ زمنية الاحتجاج كانت تعبيرًا عن رغبة في المواجهة مع من يرمز لسطوة الدولة وعنفها في نظر المحتجين، ولتجنب ما تعرضت له الاحتجاجات "النهارية" من عنف، وتضاف الزمنية للقطيعة مع عناصر الاحتجاج الكلاسيكية من فضاء وآليات وأشكال.
- كيف تقيّمون تعامل الجهات الرسمية مع تلك التحركات؟
لقد قدمت الحكومة إجابة أمنية بامتياز لأزمة اقتصادية واجتماعية، وبذلك تواصل سياسة الهروب من فتح ملف السياسات الاقتصادية والاجتماعية، بما يعكس انعدام الرؤية والبديل والتخطيط. نحن إزاء حكومة تصريف أعمال تتهرب من تحمل أية مسؤولية.
كما أنّ عدم التفاعل مع خطاب رئيس الحكومة يؤكد أنّه لم يقدم إحابة حسب ما كان منتظرًا، ولم يزرع أملًا في فئات اجتماعية تحتاج اليوم إلى الاعتراف والإدماج والكرامة.
- كيف تفسرون مشاركة قصّر بشكل كبير في هذه التحركات؟
ما يُفزع أكثر ليس مشاركة القُصّر في هذه الاحتجاجات بل نسب الانقطاع المدرسي التي تتجاوز المائة ألف سنويًا، ومشاركة القصّر في عمليات الهجرة غير النظامية. إذ وصل إلى السواحل الإيطالية خلال سنة 2020 أكثر من 1900 قاصر، إضافة لانتشار استهلاك المخدرات في هذه الأوساط.
كل ذلك نتيجة سياسة ممنهجة عبر تخلي الدولة عن لتزاماتها تجاه هذه الفئات، خاصة وقد تم إغلاق أكثر من 63 مؤسسة معنية بالطفولة، نتيجة سياسة تجميد الانتداب، إضافة إلى الصعوبات المرتبطة بالمنظومة التربوية والمرتبطة بدور الدولة في الأحياء الشعبية والمناطق الداخلية.
- هل هناك تصاعد في وتيرة الاحتجاجات على خلفية الأزمة التي عمقتها جائحة كورونا؟
سجلنا في المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية 8759 احتجاجًا خلال سنة 2020 منهم 6438 احتجاجًا منذ شهر ماي/أيار 2020 أي منذ الخروج من الحجر الصحي الشامل، إضافة إلى ما رافق ذلك من هجرة غير نظامية، إذ وصل إلى إيطاليا 12883 مهاجرًا منهم 12674 مهاجرا منذ ماي 2020. بما يؤكد عمق الأثر الاقتصادي والاجتماعي ليس فقط للجائحة، بل أيضًا للأزمة السياسية التي انتهت بإسقاط حكومة إلياس الفخفاخ، والصراع الاحتجاجي الكرنفالي في مجلس نواب الشعب.
- هناك اليوم تحركات للمطالبة بإطلاق سراح الموقوفين، هل يمكن أن يكون الدفاع عن حقوق الإنسان بابًا قد يتخفى وراءه البعض للتبرير للأعمال التخريبية؟
لقد أثبتت الأزمات السابقة أنّ التعامل الأمني والقضائي مع الاحتجاجات الاجتماعية يُعمق القطيعة بين الفاعلين الاجتماعيين والدولة.
اقرأ/ي أيضًا: صاحب "أفروديت": اخترتُ الهامش.. ونحاول أن نفتح للأطفال نافذة أخرى على العالم
وإنّ تمسكنا بمبدأ عدم الإفلات من العقاب لا يمنعنا من أن نطالب باحترام ضمانات المحاكمة العاجلة وعلوية قرينة البراءة، وهي ضمانات يتمتع بها فقط البعض. ويصبح الإيقاف والاحتفاظ قاعدة خاصة للفئات الهشة.
رمضان بن عمر: أثبتت الأزمات السابقة أنّ التعامل الأمني والقضائي مع الاحتجاجات الاجتماعية يُعمق القطيعة بين الفاعلين الاجتماعيين والدولة
كما أنّ العنف مدان مهما كان مصدره، لكن محاولة تقديم الاحتجاج الأخير فقط كأحداث تخريبية هروب إلى الأمام ووصم. واندساس البعض في مثل هذه الاحتجاجات ليس استثناءً تونسيًا.
ومع تمسكنا بالحفاظ على الممتلكات العامة والخاصة ونبذ العنف، فإن هناك عنفًا للدولة وفي بعض وسائل الإعلام يقع تبريره بأنه تشهير بالتخريب.
- هل تتابعون مع بعض المحامين أو الحقوقيين المحاكمات اليوم وظروف إيقاف المحتجين؟
نحن نتابع إلى جانب شركائنا من المنظمات الوطنية والدولية ظروف المحاكمات، إذ تجاوز عدد الموقوفين 1000 شخصًا، ويمثل عدد القصر تقريبًا 30 بالمائة. ورافق ذلك تجاوزات بالجملة وإيقافات عشوائية، إذ تم الاحتفاظ بالأطفال بمركز الحجر الصحي دون إعلام الأولياء، ودون الاستماع لهم في غياب أوليائهم، ودون إعلام مندوب حماية الطفولة.
كما لم يتم احترام أحكام القانون عدد 5 أي لم يتم العرض عليهم إن كانوا يريدون تكليف محامين ورفض عرض من تعرض للضرب على الفحص الطبي.
إضافة إلى أنّ عديد المحاضر كانت غير مرقّمة وتتضمن معلومات عن ساعة الإيقاف غير مطابقة. وتم تفتيش محلات سكنى دون أذون وكيل الجمهورية والاحتفاظ بأشخاص دون أذون، والإمضاء على المحاضر دون التمكين من الاطلاع على فحواها.
اقرأ/ي أيضًا:
سردية اللعب في ليالي جانفي الطويلة..
حوار| منير حسين (منتدى الحقوق الاقتصادية): الحراك الاجتماعي يتعرض للهرسلة