10-يناير-2020

بلغت أغنية "يا حياتنا" أعلى درجات الخطاب السياسي الثوري (صورة أرشيفية/فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

"أيّها الحكّام، أيها النوّاب، هذا ما آلت إليه الأحوال، سرقة وسطو ورشوة واستخفاف.. لقد نهبتم الملايين، وتغافلتم عن الفاسدين، فدفعتم الشباب إلى الموت والهجرة والانحراف.. رغم ذلك سنظلّ متمسّكين بالحرية، وسندافع عن المظلومين، وسنرفع راية الحقّ.. أيها القاضي، نحن طلاب حقّ مللنا الكلام الفاضي، عبثا تريدون إسكاتنا، أنتم لا تعرفون عنادنا"، لا تظنّن، أيّها القارئ، أن هذا الملفوظ مقتطف من بيان شيوعي أو مأخوذ من خطاب حماسي لأحد رموز اليسار الراديكالي أو مقتبس من رسالة سرية لحركة شبابية ثورية، إنّما هو ترجمة لبعض العبارات من أغنية "ياحياتنا" التي أطلقها جمهور النادي الإفريقي.

 خرجت أغنية "يا حياتي" لعشاق الإفريقي من الحيّز الضيّق لأغاني "الفيراج" المرتبط بنتائج النادي ومشاغله المالية والإدارية وحلّقت في آفاق أوسع لتدرك أبعادًا وطنية فتحوّل "الفيراج" إلى منبر سياسي

اقرأ/ي أيضًا: كرة القدم في تونس.. غرام "بالروح والدم" وعنف وجهويات

يتكوّن نصّ الأغنية المنسوب تحديدًا لمجموعة أفركان وينرز( African winners) من اثني عشر مقطعًا وجيزًا عناوينها ، "أجدادنا"، "حُسّادنا"، " يا حياتنا"، "غناياتنا" ( أغانينا)، "الحالة"، "مولانا"، "بعتونا"، "خنقتونا"، "المنظومة"، "نتمنّى"، "يا القاضي"، "يا العالي".

تبدأ الأغنية الممتدة على حوالي خمس دقائق ونصف بإيقاع حزين جنائزي، ثمّ سرعان ما تنحو منحى احتفاليًا حماسيًا صداميًا، أمّا مضامينها ودلالاتها، فهي نضالية وثورية، تناقلها في البداية المولعون بكرة القدم لا سيما أحباء الأحمر والأبيض، ثم سرعان ما انتشرت بين جماهير الأندية الأخرى في تونس وخارجها، فشدّت إليها فئات من المتابعين للشأن العام من غير المولعين بكرة القدم، لتخترق أخيرًا مساحات أوسع ومجالات تفسيريّة وتحليليّة أعمق، وها قد تحولت إلى أغنية يردّدها عشرات الآلاف، وينظر فيها بتمعّن العديد من الواعين بالعلاقة الجدلية بين المجال الرياضي ومجالات أخرى اجتماعيّة ونفسيّة واقتصاديّة وسياسيّة.

أغنية "يا حياتنا"

 

من مشاغل الجمعية إلى القضايا الوطنية

تنفتح أغاني النوادي الرياضية على أربعة محاور أساسية تقليدية نموذجية، إذ تتضمن تعديدًا للألقاب والانتصارات، وفخرًا بالنجوم والهدّافين، وتطلّعًا إلى الفوز وتسجيل الأهداف، وتشنيعًا بالمنافسين وسخرية من أدائهم ونتائجهم، وتنهض هذه المحاور بوظائف إمتاعية تحفيزية من جهة واستفزازيّة إحباطيّة من جهة أخرى. بيد أن أغاني الملاعب الرياضية منذ عقود لم تخل شأنها شأن سائر الأعمال الفنيّة من العدول والانزياح في معانيها وأساليبها و مرجعياتها وأدواتها ومقاصدها.

 في هذا السياق، تندرج أغنية "يا حياتي" لعشّاق الإفريقي، فقد خرجت من الحيّز الضيّق المرتبط بنتائج النادي ومشاغله المالية والإدارية، وحلّقت في آفاق أوسع لتدرك أبعادًا وطنيّة، فتحوّل "الفيراج" إلى منبر سياسي، دليل ذلك أن نص الأغنية، قد خلا من الإشارات إلى النادي الإفريقي إلا في مناسبة واحدة تحديدًا في الفقرة الرابعة في مقام قضائي حقوقي بدا أبعد ما يكون عن الشأن الرياضي.

 تتحوّل مدارج كرة القدم في كلّ مباراة إلى محكمة يصدع فيها الجمهور بالاتهامات والإدانات التي تطال كل السلطات

ولو أخضعنا كلمات الأغنية إلى التفكيك المنهجيّ والقراءة الأسلوبيّة والدلاليّة لوقفنا على ثلاث قضايا خطيرة موغلة في المجالين السياسيّ والاجتماعي معجمًا ومعنى ومقصدًا. وترتبط القضيّة الأولى بمسألة التهميش، وقد حضرت في المقطع الأول، المعنون بـ "يا أجدادنا" وتجلّت خاصة في عبارة "حفرو ما نعيشو فيها كيما أندادنا، نحبو نخليو (نترك) عيشة (حياة) هانية (سعيدة) لولادانا"، وقام الخطاب في هذا الشاهد على الاستعارة، وشُبِّه المكان الذي يسكنه المهمشون بـ"الحفرة"، فكأن القاطنين به تم وأدهم أو دُفنوا أحياء.

 وقد تجسدت نفس الصورة في المقطع السادس من خلال عبارة "الشعب يصيح، البلاد صارت جبانة (مقبرة)،"الأخطر من هذا أنّ الخطاب يتضمّن إشارة إلى أنّ حياة هؤلاء المعذبين في الأرض يتم توريثها من جيل إلى آخر من الأجداد إلى الأبناء إلى الأحفاد.

ولئن نحا نص الأغنية في هذه الكلمات منحى بلاغياً مجازيًا، فقد اتخذ في المقطع الخامس أسلوبًا مباشرًا صريحًا من خلال الإشارة إلى التهميش الذي تعانيه الأحياء الشعبية، دلت على ذلك عبارة "شْحالْ من حومة عايشة تهميش وبطالة"، وقد انفتحت الأغنية على نماذج أخرى من الوقائع الدالة على التهميش، منها حادثة غرق البنيّة مها القضقاضي التي جرفتها السيول بعمادة البطاح من معتمدية فرنانة بولاية جندوبة في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني سنة 2019. كما تطرّقت الأغنية إلى فاجعة مقتل عشرات الفتيات والفتيان خلال رحلة إلى عين درهم في ديسمبر/ كانون الأول من نفس السنة، وقد لخّص مقطعا "خنقتونا" و"منظومة" هذا المآسي وغيرها في صور تقطر ألمًا وحسرة ونقمة، منها: "قدّاش (كم) من روح في الكار اللي قتلتوها، jamais (مستحيل) ننسى اللي ماتوا في الكميونة، الميمة (الأم) خذات ولدها في كردونه..حرام يموتو و تبقو عايشين انتوما ( أنتم)".

نهض هذا النص الغنائيّ الرياضي بوظيفة توثيقيّة، فترديد "يا حياتنا" في ملاعب كرة القدم في تونس سيساهم في تخليد تلك الكوارث التي حلّت بالبلاد التونسية خاصّة خلال العشريّة الثانية من القرن الحادي والعشرين، وتبعًا إلى ذلك يمكن أن تتحوّل مدارج كرة القدم في كلّ مباراة إلى محكمة يصدع فيها الجمهور بالاتهامات والإدانات التي تطال كل السلطات.

الفيراج فوق السلطات

القضيّة الثانية التي تصدّت لها أغنية "يا حياتنا" تتّصل بالرشوة والفساد، وقد شمل الاتهام جلّ أجهزة الدولة وسلطاتها التنفيذية والتشريعية والقضائية، فرجال الأمن المشار إليهم بكلمة "الحاكم"، لم يكفوا في كل "دورة" ( منعطف) عن طلب "الرشوة والجعالة"، أمّا النواب فلا همّ لهم غير المصلحة الذاتيّة والحزبيّة ديدنهم حسب نص الأغنية "سرقة وغورة ( سطو) وهوما ( هم)  يحبو الحصانة". أمّا القضاة فلم يسلموا من الإدانة واللوم، وقد ورد هذا اللوم في سياق الإشارة إلى قضيّة عمر العبيدي الذي مات إثر مطاردة بوليسية أرغمته حسب حسب رواية عائلته إلى الإلقاء بنفسه في الوادي مما تسبب في وفاته غرقًا، وقد تضمّن المقطع العاشر كشفا عن التمسّك بحق الشاب من خلال عبارة "عمر ولد الفيراج ان شاء الله في الجنة، نجيبو حقو لآخر دقيقة عندنا".

لا شك أن أغنية "يا حياتنا" قد بلغت أعلى درجات الخطاب السياسي الثوري وأخطرها وأوضحها، غير أنّ الناظر في سيرة جمهور النادي الإفريقي واجد محطات وعناوين عديدة تشده إلى الشأن السياسي والاجتماعي

الفساد المشار إليه في الأغنية بدا أعمق، لأنّه لم يكن عفويًا أو فرديًا أو عرضيًا إنّما كان واسعًا منظّمًا مافيوزيًا، وحضرت هذه المعاني في المقطع السابع، وعنوانه "بعتوها" وقد جاء فيه "نهبتوها (نهبتموها) ملايين للبراني (الأجنبي) عطيتوها، ورخيتو العين (تغافلتم) والسرقة دعمتوها، دخلتو الكوكا (الكوكايين) البلاد فزدتوها (أفسدتموها)". وتوجيه الأغنية الاتهام إلى الجميع نزّل "الفيراج" منزلة فوق كلّ السلطات، فقد جرّد هذه الأطراف من صفات العدل والنزاهة والوطنية والحوكمة الرشيدة والرحمة والإنسانية.

اقرأ/ي أيضًا: هل تستفيد الدولة من "درس" جماهير النادي الإفريقي؟

والقضيّة الثالثة سليلة الأولى والثانية، وهي تتّصل بتعديد ردود الفعل الناشئة عن التهميش والفساد، وقد لخّصتها الأغنية في ثلاثة، الأولى تتمثّل في الهجرة، وقد ورد هذا المعنى في عبارة " هججتونا (أطردتمونا) للغربة لزيتونا (دفعتمونا)"، وتمّ تفصيل هذا المعنى في المقطع الثامن وعنوانه " خنقتونا"، مطلعه "في بابور اللوح (مركب خشبي) ناس للحرقة ( الهجرة السرية) رميتوها". 

ولئن قام الموقف الأول على البحث عن خلاص دنيوي عبر الإفلات من "بلد الفساد والتهميش"، فقد قام رد الفعل الثاني على الخلاص الغيبي إذ تضمنت فقرة "مولانا" دعاء على الظالمين دلت عليه عبارة "الحرام يطيح فيكم يوم القيامة"، وفي المقابل أبان رد الفعل الثالث عن نفس انتقامي ثوري كشفت عنه عبارات من قبيل "يحبو يقاومونا وما يعرفوش عنادنا" و"هوني نحاربو على خواتنا.. واللي ماتو ديما عايشين بيناتنا".

مقاعد "الفيراج" كفضاء للتعبير الحرّ

لا شك أن أغنية "يا حياتنا" قد بلغت أعلى درجات الخطاب السياسي الثوري وأخطرها وأوضحها، غير أنّ الناظر في سيرة جمهور النادي الإفريقي واجد محطات وعناوين عديدة تشده إلى الشأن السياسي والاجتماعي، أشهرها نعته بـ"فريق الشعب"، وهو نعت ينزله في مواجهة ضمنيّة ضدّ السلطة، وقد حضرت في بعض أغاني جمهور الإفريقي قبل الثورة عبارات تؤكّد هذه السمات منها تلك التي تضمنت عبارة "الإفريقي لازيو روما.. سيب الجمهور يا حكومة".

ولئن بدت المواجهة في هذا الملفوظ ضدّ السلطة المستبدّة داخليًا، فإنّ المواجهة في مقامات أخرى قد اتسعت لتشمل الأنظمة العربيّة ففي 17 جوان/ حزيران 2017 رفع عشاق الأحمر والأبيض في نهائي الكأس أمام أنظار الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي شعارًا أدانوا من خلاله بعض دول الخليج التي فرضت حصارًا على قطر، وقد تضمن عبارة "كرهناكم يا حكام، تحاصرون قطر واسرائيل في سلام"، ولئن استنكرت بعض الأطراف هذا السلوك فقد اعتبرته جهات عديدة خطابًا حكيمًا ينطوي على دعوة ضمنيّة إلى الوحدة العربية وحثّا على تعديل بوصلة الصراع وترشيد المعارك والنزاعات والحروب، فالعدو الأصلي وفق هذه العبارة هو الكيان الصهيوني.

 لم تعد مدارج ملاعب كرة القدم مجرّد مقاعد للفرجة والثناء على اللاعبين والاستجابة إلى الإثارة والحماس والتشويق والتهيّج العصبي، إنّما تحوّلت إلى فضاء للتعبير الحر عن الاحتجاج والتمرّد وسائر ألوان الرفض

تفطّن العديد من المتابعين إلى أنّ بوادر كسر شوكة نظام بن علي قد بدأت في المدارج، ولئن تجسدت المواجهة بين جمهور الإفريقي والسلطة من خلال الأهازيج والأغاني، فقد بلغت مع جمهور الترجي الرياضي شيخ الأندية التونسية وأكثرها تتويجًا درجة أبعد وأخطر، ففي 8 أفريل/ نيسان 2010 حصلت مصادمات بين الأمنيين وأحباء الأحمر والأصفر أكّد بعض المطلعين أنّ أسبابها آنذاك لم تكن وثيقة الصلة بمجريات المباراة بن الترجي وحمام الأنف، إنما كان السبب الحقيقي حالة الاحتقان بسبب الظلم والاستبداد، وقد جسّدت جماهير الترجي هذه "الملحمة" فنيًا من خلال أغنية "يا الحكومة ما تقدر تحكمني". ولتخليد هذه الذكرى، احتفلت مجموعة "كورفا سود" (Curva sud) السنة المنقضية 2019  بمرور تسع سنوات على ما سمّوه ذكرى اندلاع "الثورة الترجيّة، الشرارة الأولى للثورة التونسيّة".

يتّضح من خلال هذه المعطيات أنّ مدارج ملاعب كرة القدم لم تعد مجرّد مقاعد للفرجة والتصفيق والثناء على اللاعبين والاستجابة إلى الإثارة والحماس والتشويق والتهيّج العصبي، إنّما تحوّلت إلى فضاء للتعبير الحر عن الاحتجاج والتمرّد وسائر ألوان الرفض، غير أنّ الرفض في تونس منذ عقدين تقريبًا لم يعد يقتصر على شجب قرارات حكام الساحة المستطيلة إنّما أصبح يطال كلّ الحكومات والسلطات. ويتّخذ هذا الرفض في الغالب الأعم طابعا فنيًا غنائيًا غير أنّه ينذر بتحوّلات قد تجعله ينحو منحى فعليًا حادًا عنيفًا يهدّد عرش المتربعين على السلطة، ويدعوهم بمنتهى الحزم الجمهوري إلى اتّخاذ الإجراءات الأنسب للحد من البطالة والتهميش والفساد.

 

اقرأ/ي أيضًا:

تونسي ساهم في بروزها.. المارادونية "ديانة" وفلسفة حياة!

ملاعب كرة القدم الخاصة.. قطاع مهمل وشغف يجذب الهُواة