بعد تبرئته مؤخرًا في قضية رفعت ضده وهو النائب بالبرلمان المنحلّ ورئيس لجنة الإصلاح الإداري ومكافحة الفساد به وعضو المكتب السياسي لحركة الشعب، يكشف بدر الدين القمودي خلفيات القضية التي رفعت ضده وموقفه من اتهام البرلمان المنحلّ بالفساد ورأيه في المسارات المقبلة في الحوار التالي:
- تم الحكم بعدم سماع الدعوى في القضية التي رفعتها ضدكم إحدى شركات الزيت النباتي، لو تذكرنا بحيثيات القضية خاصة أنها متعلقة بملف حساس وحيوي يمثل اليوم معضلة المائدة التونسية؟
هذه القضية تعود أطوارها إلى شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2020 لما توجهت في إطار العمل النيابي إلى كل من وزيري التجارة والمالية بأسئلة كتابية حول متابعة لملف مرتبط بالزيت النباتي يتعلق بشركة موجودة في تونس العاصمة قامت بالتلاعب بالزيت المدعم الموجه لعامة المواطنين بما يقارب 500 مليون دينار، وذلك بعد أن قامت هذه الشركة بتحويل الزيت النباتي المدعم إلى زيوت ميكانيكية.
وكان عون الديوانة المراقب للشركة تفطن إلى أن صاحب الشركة يجمع يوميًا ما بين 50 و70 ألف لتر من الزيوت ليست مستعملة بل هي زيوت مدعمة لم يتم استعمالها بعد.وقامت التفقدية العامة للديوانة بأبحاثها وخلصت إلى تغريم الشركة بما يقارب 8 مليارات من المليمات والمحكمة الابتدائية ببن عروس أدانت هذه الشركة بأحكام بالسجن والغرامة.
القمودي: لجنة مقاومة الفساد بالبرلمان لعبت دورًا كبيرًا وتمكنت من تسليط الضوء على عشرات الملفات، لكن مآلها كان دائمًا مرتبطًا بمدى توفر إرادة سياسية لمحاربة الفساد
وأنا كنائب في مجلس نواب الشعب توجهت آنذاك بأسئلة كتابية لوزارتي المالية والتجارة للمطالبة بمعرفة الإجراءات المتبعة ضد أعوان الدولة الذين تواطؤوا في هذه القضية. وهو عمل عادي في إطار مهامي البرلمانية. لكنني فوجئت بعد ذلك بدعوى قضائية ضدي بتهمة الإساءة لسمعة الشركة وكانت هناك أطراف في حكومة هشام المشيشي داعمة لصاحب هذه الشركة وكان قد حاول الاتصال بي أكثر من مرة، والحقيقة أنني رفضت ذلك.
وتبقى معضلة الزيت النباتي المدعم في تونس قائمة وأشكال التلاعب به متعددة، فجزء يقع تهريبه إلى مصانع الدهن وجزء آخر إلى المطاعم والنزل وبتواطؤ مع أطراف داخل الإدارة والحكومة.فهناك مصانع موجودة من أجل تعليب الزيت النباتي غير المدعم لكن بجوارها ثمة مصانع لتعليب الزيوت النباتية المدعمة ويقع تهريبها وتعليبها، وتم اكتشاف هذا في أحد المصانع في الوطن القبلي وقبلها في مصنعيْن بصفاقس. وهو ما يمثل ملف فساد كبير لم يعالج إلى حد الآن بسبب ضعف المراقبة والمتابعة من الإدارة.وبالتالي تدفع المجموعة الوطنية أموالًا طائلة من أجل دعم الزيت النباتي وفي نهاية المطاف لا تصل إلى المواطن وإنما تذهب هذه الأموال إلى بارونات الفساد.
- ترأستم لجنة مكافحة الفساد صلب البرلمان المنحل وكشفتم عن عدد مهم من القضايا هل لديكم معلومات عن مصير تلك الملفات ومآل القضايا؟
أذكّر أولًا بالدور الكبير الذي لعبته لجنة الإصلاح الإداري والحوكمة الرشيدة ومقاومة الفساد صلب البرلمان المنحلّ وذلك من خلال فتح عشرات الملفات، على غرار صفقة الكمامات والتلاعب بها، وملف النفايات وقد فتح تحقيق قضائي ووقع إيقاف وزير وهو إلى حد الآن قابع في السجن إضافة إلى إطارات عليا من الدولة. كذلك ملف القمح الفاسد القادم من أوكرانيا والذي تبين من خلاله أن الدولة التونسية لا تراقب المواد الموردة. أذكر أيضًا ملف البنك الفرنسي التونسي والأموال المنهوبة والأملاك المصادرة. وكل ملف كان يطرح علينا، كنا نتدخل بالسرعة المطلوبة وعملنا كان يتكامل مع الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد وكذلك الهيئات الرقابية ونتابع تقاريرها وتقارير دائرة المحاسبات، إلى جانب عملنا كنواب ودورنا الرقابي. كذلك ملف مياه الشمال بسد سيدي سالم وتلويثها بمياه الصرف الصحي بمحطات التطهير، وغيرها من الملفات.
لكن مآل هذه الملفات يرتبط بمدى توفر إرادة سياسية لمحاربة الفساد وهذه الإرادة يجب أن تنعكس على دور القضاء في متابعتها وفتحها وهذا مرتبط أيضًا بالمؤسسة القضائية المختصة بمتابعة هذه الملفات وهو القطب القضائي المالي الذي وضع لهذا الغرض لكن لم يتم تمكينه من الإمكانيات البشرية والفنية حتى يضطلع بدوره كما يجب.
- أمام كل هذه الملفات التي عملتم عليها هل تعتبرون أن من الإجحاف اعتبار مجلس نواب الشعب مؤسسة فاسدة لم تقدم شيئًا لخدمة البلاد؟
القمودي: ما يروّج من تعميم ووصم للبرلمان بأنه وكر للفساد هو كلام مغلوط.. وأنا متأكد لو أن البرلمان كان موجودًا في هذه الفترة لوجد حلولًا لعدة ملفات
للأسف الشديد إن ما يسود في الساحة الإعلامية والسياسية من تعميم وتعويم ووصم للبرلمان التونسي بأنه وكر للفاسد ومأوى لـ"الكناترية" هو كلام مغلوط، لكن الجلسات العامة طغت عليها حالة الفوضى والصراع السياسي بين بعض الأطراف وكانت يُنقل للمشاهد على المباشر وهو ما رذّل الفعل البرلماني بشكل كبير وجعل المواطن يعتقد أن البرلمان انحرف عن دوره. لكن الصورة الحقيقية الأخرى لم يقدمها الإعلام ولا الفاعل السياسي، فهناك لجان كانت تشتغل ليلًا نهارًا كلجنة الصحة مثلًا وكذلك لجنة الإصلاح الإداري وكنا نعقد الجلسات حتى في العطلة البرلمانية. ولدينا بالصور والفيديوهات أدلة على أعمال اللجان والنواب لا يمكن إنكارها ولا يمكن أن نرذل البرلمان ونعتبره في المطلق سيّئًا.
وأنا متأكد لو أن البرلمان كان موجودًا في هذه الفترة لكان تدخل في إيجاد حلول لعدة ملفات.
- كنائب في البرلمان ورئيس لجنة مكافحة الفساد به هل تعتقدون أن حل هذه المؤسسة كان حلًّا لا بدّ منه لمواجهة الأزمة التي تمر بها البلاد؟
للأسف نتائج انتخابات 2019 وتركيبة الكتل دفعت بالبرلمان في أزمة سياسية، وخاصة فيما يتعلق بالتحالفات التي وقعت، الأمر الذي كان مبررًا لما وقع يوم 25 جويلية/يوليو 2021. لكن المشكل ليس هنا لأن أي نظام سياسي يمكن أن يتعرض لحالات استثنائية من أجل المصلحة الوطنية ومستقبل أفضل واستتباع هذه المرحلة بمحطات أخرى تنهي الحالة الاستثنائية حتى نعود للحالة العادية.
القمودي: "لا بدّ من المسارعة بإنهاء هذه الحالة الاستثنائية العابرة والظرفية وإنجاز انتخابات تعيد الحياة البرلمانية لتلعب دورها كما يجب خلال الأشهر القادمة"
وهنا أؤكد أنه يجب أن نسارع بإنهاء هذه الحالة الاستثنائية العابرة والظرفية وإنجاز انتخابات تعيد الحياة البرلمانية لتلعب دورها كما يجب خلال الأشهر القادمة. لكن أيضًا نحن نرى حالة من الفراغ كان يفترض أن يتم ملؤها بطريقة أو بأخرى يعني بعد حل البرلمان مع حل هيئة مكافحة الفساد إلى جانب ملاحقات للنواب على خلفية أعمالهم البرلمانية وأيضًا ملاحقة المبلغين عن الفساد دون حماية، في ظل كل هذا كان على السلطة التنفيذية أن توفر لهم الحماية لأنهم لعبوا دورًا هامًا على امتداد السنوات الفارطة لكشف الفساد والفاسدين. فمن حين لآخر يقع التنكيل بهم لهذا يجب أن نسارع للخروج من الحالة الاستثنائية.
- مرارًا وجه الرئيس قيس سعيّد اتهامات للبرلمان بأنه وكر للفاسدين تباع فيه الأصوات وتشترى، هل هذا واقع الحال فعلًا؟
لا شك أن المناخ السياسي والانتخابي سمح بوصول فاسدين لسدة البرلمان عبر انتخابات تباع فيها الأصوات وتشترى، لكن لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن نعمم هذه الظاهرة فليس كل النواب فاسدين والدليل على ذلك الأدوار التي لعبوها ولا يزالون يلعبونها. هناك مبالغة وشطط فالشرفاء كثيرون داخل البرلمان ومن لديه ادلة وملفات فعليه أن يتقدم بها للقضاء ضد أي نائب فاسد.
- بعد جملة الإجراءات التي اتخذها الرئيس وآخرها تكوين لجنة لكتابة الدستور، هل تعتقدون أن البلاد تسير في الاتجاه الصحيح وأن كتابة الدساتير تتم بهذا الشكل؟ وهل أن الأزمة في الدستور؟
الأزمة في تونس مركبة وجزء منها في النظام السياسي للأسف، شاهدنا جملة المطبات التي وقعنا فيها ونجد أن الوضع صيغ بشكل ترضية الكتل الموجودة دون مراعاة الجانب الاقتصادي والاجتماعي للبلاد، مما تسبب في أزمة سياسية وطبعًا هي ليست أزمة دستور فقط ويمكن أن يعالج عبر تعديله أو بوضع دستور جديد.
القمودي: أرى أن الأزمة الأساسية ليست في الدستور بل هي أزمة اقتصادية واجتماعية، وهي القضية الأعمق التي تستوجب حوارًا
وبالنسبة للصيغ الممكنة فمعروفة في العالم، إما أن تقوم لجنة فنية بصياغة دستور يعرض على الاستفتاء أو يقع تعديله ويعرض على الاستفتاء ونعود إلى الحياة السياسية بشكل عام.
أما الصيغة المطروحة اليوم في تونس فهي لجنة فنية تعد المسودة لكن هذا لا يمنع من إشراك الطيف السياسي والإعلامي والمجتمع المدني لإبداء رأيهم، وهو ما نرجوه في قادم الأيام وأن تقام طاولات مستديرة حتى يبدي المواطن رأيه من خلال التجربة السابقة لدستور 2014 ويُفتح نقاش عام.
وعمومًا، أرى أن الأزمة الأساسية ليست في الدستور بل هي أزمة اقتصادية واجتماعية، وهي القضية الأعمق التي تستوجب حوارًا.
ونرجو أن يكون معمقًا مع الفاعلين السياسيين والاقتصاديين والاجتماعيين حتى نجد حلًا للأزمة ونستطيع أن نخرج منها، دون أن ننسى أن النظام الانتخابي الذي أفضى إلى الوضع السياسي المتعفن الذي عرفناه قبل 25 جويلية/يوليو يحتاج إلى مراجعة تمنع وصول الفاسدين إلى البرلمان وتوفر الضمانات الكافية لانتخابات عامة وحرة وشفافة ونزيهة تتساوى فيها الفرص، وأنّ على الإعلام أن يلعب دور الحياد.
كذلك المناخ الانتخابي يحتاج إلى مراجعة مع أهل الذكر والمواطنين، ونتمنى أن يكون بصيغة تشاركية تقطع مع الماضي، وتفتح لتونس آفاقًا أفضل، فهي لديها كل الإمكانيات حتى تستغني عن القروض والتداين بعد معالجة مشكلة الحوكمة في مؤسسات الدولة. لذلك لا بدّ من مراجعة خياراتنا الاقتصادية الكبرى وأن نقطع مع النظام الريعي الذي تتحكم فيه عائلات كبرى وننفتح على نظام يوفر الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية ويجعلنا نضع أيدينا على ثوراتنا المنهوبة.
- ما أعلنه قيس سعيّد في كل خطاباته تقريبًا منذ 25 جويلية/يوليو 2021 هو أن اللحظة حانت لمحاسبة الفاسدين والمحتكرين والناهبين لثروات الشعب لكن لم نر إلى هذه اللحظة أي فعل حقيقي لمحاسبة هؤلاء؟ هل تأخر الرئيس؟
في الحقيقة محاربة الفساد كان شعارًا مركزيًا ارتكز عليه 25 جويلية/يوليو 2021، وهناك دعوة للمحاسبة وجميعنا استبشر خيرًا بأن المحاكم ستفتح أبوابها لتحاسب هؤلاء اللصوص، لكن يبدو أن السلطة السياسية وجدت نفسها أمام مطبات عديدة في طليعتها التعطيلات المرتبطة بالسلطة القضائية.
ورأينا بعض المحاولات لترتيب الجسم القضائي لكن للأسف إلى حد هذه اللحظة لم نر الملفات الكبرى أمام أنظار القضاء التونسي وهي هينة في اعتقادي لأن التباطؤ في المحاسبة لا يمكن تبريره مطلقًا مهما كانت الأسباب والعراقيل لأن عامل الزمن مهم جدًا.
القمودي: الدولة العميقة هي التي تتحكم في المشهد السياسي والإدارة التونسية وتنسج خيوط اللعبة، وإرادة رئيس الدولة تصطدم بهؤلاء
كما أشير كذلك إلى أن الدولة العميقة هي التي تتحكم في المشهد السياسي والإدارة التونسية وتنسج خيوط اللعبة، وإرادة رئيس الدولة قيس سعيّد تصطدم بهؤلاء وها نحن نرى الاحتكار والحرائق والتهريب وكله بتأطير من هؤلاء وهي تسعى لعرقلة مسار 25 جويلية لأن الشعارات التي رفعت ستشكل تهديدًا إذا ما نفذت لوجود هذه اللوبيات والعائلات الكبرى التي تتحكم في الاقتصاد التونسي.
- هذه "الدولة العميقة" التي تقول إنها تهدد المسار، يسوّق الرئيس أنه بصدد مقاومتها. فهل هو قادر على ذلك بمفرده؟
للأسف أزمة كالتي تعيشها تونس لا يمكن إدارتها بإرادة منفردة. وكان بالإمكان تشكيل جبهة سياسية داعمة من أجل حماية مسار 25 جويلية ونحن كحركة الشعب مازلنا ندافع عن المسار وليس عن الرئيس ونريد أن تخرج البلاد من الأزمة. إلى جانب الإدارة المنفردة للمسار والأداء الحكومي الضعيف الذي لا يتماشى مع مسار 25 جويلية ولا الأزمة التي تواجهها البلاد. فماذا فعلت وزارة الفلاحة في وقت تشهد فيه البلاد أزمة غذائية؟ وماذا قدمت وزارة المالية؟ كيف تتعاطى مع ملف العدالة الاجتماعية؟ فضلًا عن أن الدولة لا تزال تتغذى من اقتطاعات الموظفين لكن كبار الشركات لا تلاحق ونحن في أزمة مالية ناتجة عن سوء توظيف للجباية على المطالبين بها. فعوض الزيادة في الأسعار كان على وزارة المالية أن تحقق العدالة الجبائية وأن توفر مواردًا.
القمودي: نأمل أن يتم تحوير وزاري قادم يأتي بإصلاحات عميقة تتماشى مع مسار 25 جويلية وإلا فإن تونس مقبلة على أزمة اقتصادية حادة
عمومًا، نأمل أن يتم تحوير وزاري قادم يأتي بإصلاحات عميقة تتماشى مع مسار 25 جويلية/يوليو وإلا فإن تونس مقبلة على أزمة اقتصادية حادة بعد الزيادة في الأسعار وفي نسبة الفائدة المديرية.
- حركة الشعب أيدت مسار 25 جويلية/يوليو ودافعت عنه بل اعتبرت نفسها من مؤسسي هذا المسار. هل مازلتم كذلك؟ وما رأيكم في المسارات المقبلة في علاقة بالهيئة المعنية بـ"الحوار" لإعداد دستور جديد؟
القمودي: نأمل أن يكون الحوار جادًا ومنفتحًا على القوى السياسية المساندة لمسار 25 جويلية والمنظمات.. ونرفض أن ننخرط في حوار شكلي وصوري
نحن نأمل أن يكون هذا الحوار منفتحًا، في الحد الأدنى، على القوى السياسية المساندة لمسار 25 جويلية باعتبارها معنية به ويضم منظمات وطنية ومختلف الأطراف الفاعلة في الساحة. ونأمل أيضًا أن يكون الحوار جادًا وفعالًا ونرفض أن ننخرط في حوار شكلي وصوري، وهو لم ينطلق بعد ولا يمكن الحكم عليه. أما الاستفتاء، فإن المشاركة فيه ضرورية والموقف من المحتوى لم يقدم بعد حتى نحكم بـ"نعم" أو "لا".