18-يوليو-2021

عيد الأضحى لسنة 2021 تزامن مع زيادة تفشي جائحة فيروس كورونا (صورة توضيحية/ ياسين القايدي/ الأناضول)

 

ينزع عيد الأضحى لدى العديد من التونسيين نزوع العادة وهو ما تصنفه الأنثروبولوجيا بـ"التقليد الراسخ في حضارة ما"، لارتباطه الوثيق بالمؤسسة الدينية باعتبارها مؤسسة مجتمعية ثابتة، حيث نجد أن الآلاف من أفراد المجتمع التونسي من تاركي الشعائر الدينية الإسلامية كالصلاة والصيام والزكاة.. يصرّون على الاحتفال بعيد الأضحى ويعتبرونه واجبًا دينيًا لا محيد عنه، فتجدهم من المجتهدين في اقتناء الأضحية ولوازمها ويتدبرون أمر العيد ولو كانت بهم خصاصة.

بعض التونسيين خيّروا التبرّع بثمن الأضحية مساندة منهم للمجهود المدني الذي يقوم به المجتمع التونسي أفرادًا وجماعات وجمعيات ومنظمات ومواطنين بالخارج

ومع بداية تفشي جائحة كورونا في 2020 تغيّر سلوك التونسيين تجاه عيد الأضحى فأصبح مشوبًا بالحذر والخوف من انتقال العدوى، كما أن أسواق بيع الدواب والماشية تمّ إخضاعها لبروتوكول صحي وقائي فتدنّت الأرقام والمؤشرات الخاصة بالعرض والطلب وضمن منشوراته للسنة الفارطة، قدم "الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري" (وهو منظمة نقابية مستقلة تعنى بالدفاع عن مصالح الفلاحين والبحارة) أرقامًا تشى بتدهور قطاع تربية الماشية الذي يعيش منه آلاف التونسيين المشتغلين بالفلاحة وخاصة في ولايات الوسط والشمال الغربي. 

لكن خلال السنة الحالية تغيّر حال التونسيين أكثر فأكثر في علاقتهم بعيد الأضحى حيث حتّمت الموجة العاتية لكورونا التي تعيشها تونس هذه الأسابيع، على اتخاذ الدولة المزيد من التدابير الاستثنائية بعد استشارة اللجان العلمية، خاصة وأنّ الجائحة حصدت آلاف الأرواح في وقت قياسي ممّا جعل منظمة الصحة العالمية مع نهاية شهر جوان/ يونيو المنقضي ترتب تونس الأولى عربيًا وإفريقيًا من حيث نسب الإصابات والوفيات.

اقرأ/ي أيضًا: المهن الموسمية في عيد الأضحى.. فرصة لاسترزاق بعض التونسيين

وقد ذهبت البلديات بمختلف الولايات إلى حصر الأسواق والبطاح (الرّحب) الخاصة ببيع الأضاحي بأن جعلت عددها محدودًا وكثّفت المراقبة بالالتزام بالبروتوكول الصحي، وشجعت على البيع الإلكتروني، وحاولت السيطرة على الأسعار وجعلت هامش الربح مريحًا بالنسبة للفلاح والمستهلك، وأوكلت مهمة تنظيم ذلك إلى "الشركة الوطنية للحوم" (شركة عمومية). لكن كل ذلك لم يمنع الوسطاء، وخاصة بضواحي العاصمة والمدن الكبرى من الدخول على الخط واستغلال ضعف الدولة في تطبيق القانون وتحويل أسطح منازلهم والأزقة التي يقطنون بها إلى نقاط بيع هامشية للأضاحي ليس فيها أي التزام بالبروتوكول الصحي.

ومع تزامن موعد عيد الأضحى للسنة الحالية 2021 مع ذروة الموجة الجديدة من فيروس كورونا المستمرة منذ أسابيع إذ حصدت أرواح آلاف التونسيين في وقت قياسي (17214 حالة منذ بداية الجائحة إلى حدود تاريخ 17 جويلية/ يوليو 2021 ثلثها مع الموجة الأخيرة)، فإن هناك جانبًا آخر من التونسيين خيّروا التبرّع بثمن الأضحية مساندة منهم للمجهود المدني الذي يقوم به المجتمع التونسي أفرادًا وجماعات وجمعيات ومنظمات ومواطنين بالخارج.. لمجابهة موجة كورونا بدعمهم للمستشفيات بالمعدات والمستلزمات الطبية دعمًا مباشرًا وعينيًا ضمن هبّة مجتمعية مفعمة بروح التضامن والتآزر. 

نبيل العموري (أستاذ تربية بدنية يقيم بتونس العاصمة) لـ"الترا تونس": بثمن أضحية العيد، اقتنيت مستلزمات وقائية لمستشفى محلي..

وجاءت هذه المبادرة بعد أن لمس الشعب التونسي أن القرار السياسي المتعلق بمقاومة الجائحة والسيطرة عليها يخضع للارتجال والابتزاز من قبل قطاعات اقتصادية ضاغطة وهو ما تراشق به سياسيون تونسيون ضمن تصريحات إعلامية عديدة في إطار أزمة سياسية خانقة تعصف بالبلاد منذ أشهر عديدة.

"الترا تونس" التقى المتبرعين بثمن الأضحية فكانت هذه آراؤهم: 

تحدث أستاذ التربية البدنية المقيم بتونس العاصمة نبيل العموري عن المعاناة الشاملة لجهة سيدي بوزيد وهي الجهة التي ينحدر منها ومازالت عائلته الكبرى تقيم بها مشيرًا بشكل مخصوص لوضع المؤسسات الصحية العمومية التي أصيبت بالاهتراء منذ سنوات وتنقصها التجهيزات والأطر المختصة وسيارات الإسعاف والأدوية، وقد عاين ذلك بنفسه عندما تنقل في السنة الفارطة مع والدته إلى مستشفى جلمة ولم تلق العناية الدنيا اللازمة مما اضطره لنقلها لمصحة خاصة. 

وأمام ما آل إليه الوضع الوبائي في البلاد، وتدهور الوضع الصحي العام والذي وصفه بالمخيف جرّاء تفشي المتحور الجديد لكورونا والمعروف بـ"دلتا" الذي عصف بالآلاف، قال إنه يعرف منهم العشرات من أصدقاء وزملاء في العمل وقرّر هذه السنة بعد أن استمع إلى نصاف بن علية وهي تتحدث عن انهيار المنظومة الصحية، أن يكون عيد الأضحى عيدًا خاصًا وذلك بتخصيص ثمن الأضحية لدعم مستشفى جهته، وذكر أنه قام باقتناء بعض المستلزمات من كمامات ومواد تعقيم وتنظيف.. وحملها بنفسه من دون وساطة.

منذر السياري (أستاذ رياضيات): "تصدقت بثمن الأضحية لدعم المجهود المدني للحد من كورونا.." 

أستاذ الرياضيات منذر أصيب بكورونا منذ أسابيع خلت وتعافى منها، لكن مخلفاتها مازالت بادية على وجهه وحركاته.. وقد تحدث لـ"الترا تونس" عن رحلة الألم الجسدي والنفسي التي عاشها وعاشتها معه عائلته وخاصة أيام إقامته بالمستشفى من أجل تلقي جرعات من الأكسجين بعد أن سجل جهازه التنفسي قصورًا ملحوظًا في التنفس جرّاء تعمق الالتهاب الرئوي، وأشار إلى الاكتظاظ الذي عرفته الغرفة التي كان يقيم بها، والإجهاد الذي بات يلوح على وجوه العاملين، والتعويل الكلّي على الأطباء الشباب وخاصة في الحصص الليلية.

منذر قرر وعائلته أن يكون المبلغ الذي كان مخصصًا لأضحية العيد بمثابة "الصّدقة" الموجهة إلى دعم المجهود الذي يقوم به المجتمع المدني التونسي لدعم المستشفيات وخاصة بالمدن الأكثر تضررًا مثل القيروان وسليانة وتطاوين. وذكر أن زميلًا له منخرط في جمعية تقوم هذه الفترة بجمع التبرعات من أجل اقتناء أجهزة أكسجين لعدد محدود من المستشفيات المحلية النائية، شجعه على التبرع لفائدتهم وقد اقتنع بذلك، وقام به عن طيب خاطر. وأضاف منذر أن عائلته مقتنعة بذلك وخصوصًا الأبناء، معتبرين أن التبرع بثمن الأضحية هو عمل إنساني نبيل لا يتنافى مع القيم الدينية الإسلامية.

إسلام بن صالح (طالب بمدرسة عليا للتمريض)  لـ"الترا تونس": "قمت بحملة في الحي حاثًا المواطنين بالتبرع بأثمان الأضاحي.."

إسلام شاب لم يتجاوز الثلاثين من عمره، وهو ناشط جمعياتي ومتطوع في العديد من التظاهرات والأحداث التي عاشتها تونس وهو ما جعله يكتسب بعض المهارات في العمل التطوعي والذي حمله بدوره إلى التكوين في مجال التمريض وذلك بعد أن تحصل على الإجازة الأساسية في الإعلامية المطبقة على اللغة الأنجليزية.. ومع تنامي أزمة كوفيد 19 في تونس وخاصة التأثيرات الفادحة التي خلفها المتحور "دلتا"، يقول إسلام إنه كثّف أنشطته مع أكثر من جمعية ومنظمة، فهو يقدم دروسًا في الإسعاف صلب نوادي الحماية المدنية ويسهم مع الهلال الأحمر التونسي في تنظيم الوافدين على مراكز التلقيح ضد كورونا ومع الكشافة التونسية في مجهودات التعقيم التي تقوم بها في المؤسسات التربوية.

وتابع الطالب الشاب: "كنت في الوقت نفسه أحث المواطنين في الحي الشعبي الذي أقطن به على تحويل ثمن أضحية العيد إلى دعم المستشفيات العمومية التي تبيّن أنها تعيش أزمة عميقة تتعلق أساسًا بتفشي الفساد في المنظومة الصحية التونسية.. وقد نجحت في عدة مرات من إقناع (أولاد حومتي) في تحويل ثمن الأضحية إلى شراء مكثف أكسجين عن طريق إحدى الجمعيات. يضيف إسلام "هذا هو اللي يدوم.. العيد في القلب وفي عمل الخير ومساعدة الناس وقت شدتهم موش في جلسات الشواء أيامات العيد..".

كوثر القليبي بن أحمد (رئيسة جمعية كن صديقي)  لـ"الترا تونس": "مواطنون تبرعوا بأثمان أضاحيهم وأضافوا عليها أموالًا أخرى دعمًا لمستشفيات جهوية ومحلية.."

وضحت رئيسة جمعية كن صديقي كوثر القليبي أن الجمعية ومنذ تفشي جائحة كورونا في تونس، خصصت حيزًا هامًا من أنشطتها الاجتماعية والثقافية للدعم والمساعدة على الحد من انتشار كورونا في المجتمع وخصوصًا بالمناطق التي تعيش هشاشة اجتماعية، وتضيف أنه بفضل المساعدات التي تلقتها منذ 2020 قامت بتدخلات بالأحياء الشعبية بالضاحية الغربية بالعاصمة (الملاسين، حي هلال، الطيران، الزهور، سيدي حسين..). 

لكن مع حلول الموجة الجديدة ووفود السلالات الجديدة لكورونا تقول بن أحمد إنهم وجهوا نداءً لتقديم المساعدات، ونجح النداء في الوصول إلى قلوب المواطنين وخاصة بعد تناقل الصور والفيديوهات التي تقدم الوضع بالمستشفيات ومراكز الصحة الأساسية بالمدن والقرى الداخلية.. حيث تبرع العديد من المواطنين وخصوصًا من جهة المرسى بأثمان الأضاحي، وأضافوا عليها مبالغ أخرى تمكنت من خلالها الجمعية من اقتناء مكثفات أكسجين وأدوية خاصة بمرضى كورونا وتم توجيهها على جناح السرعة إلى مستشفيات ولايتي باجة والكاف (تستور، السرس..). 

اقرأ/ي أيضًا: من بينها تعجيل الزواج وشفاء الصدفية وتسهيل النطق.. طقوس عيد الأضحى في تونس

وتختم كوثر القليبي تدخلها بالتأكيد على أهمية دور المجتمع المدني في مؤازرة مجهود الدولة وقت الأزمات وترى أن ذلك الدعم ما كان ليكون لولا الحس المدني والإنساني ومشاعر النبل التي يتحلى بها المواطن التونسي، والتي ترى أنه لا يتعارض مع الدين الإسلامي الحنيف الذي ينحى منحى اليسر في ظل الأزمات والكوارث.

إن تبرّع مواطنين تونسيين بثمن أضحية العيد التي عادة ما تعني الكثير بالنسبة للعائلات والأطفال، يعكس ما يحوز في الوجدان العميق للإنسان من قيم التضامن والتآخي والتّآزر والتّحابب.. وهي -لعمري- قيم لا تتعارض مع جوهر المؤسسة الدينية باعتبارها مؤسسة مجتمعية تربوية تحث على العيش المشترك وحسن الإقامة على الأرض وخصوصًا الدين الإسلامي الذي يعتبر الفعل التضامني الخيّر واحدًا من أسسه، فهو يشجع على الإيثار والإكرام.. لكن في الوقت نفسه، تقدم هذه الموجة المجتمعية التضامنية صورة على الخذلان الذي تعرض له المجتمع التونسي في ظل جائحة مبيدة من قبل السياسيين الذين لم يحسنوا إدارة الأزمة الوبائية وأثبتوا ارتباكهم وقصور رؤاهم وتصوراتهم.   

 

اقرأ/ي أيضًا:

جائحة كورونا تعمّق محنة أصحاب المهن الموسمية في عيد الأضحى بتونس

تراجيديا في عيد الأضحى: أطفال بلا خرفان!