19-أغسطس-2018

عائلات تونسية معوزة لا تقدر على شراء أضحية وتلبية رغبات أبنائها (ياسين القايدي/وكالة الأناضول)

 

على أعتاب الأعياد يشتدّ الحنين إلى أشخاص أخذهم الموت بعيدًا عنا، فنحاول أن نبحث في الزوايا والتفاصيل عن بعض من رائحتهم، عن طرف الخيط الذي يكسر جدار الحنين ويجعلنا نلتقي أطيافهم ولو لحين.

عيد الأضحى، هو تلك المناسبة التي تستعر فيها نار الشوق إلى جدي، ثلاث سنوات مرت على رحيله، هذه السنة حملني الحنين إلى "رحبة" الخرفان التي تقع على مقربة من حينا الشعبي، كان جدي يزورها لاختيار خروف العيد، ذهبت أبحث عنه بين الشيوخ، لعلي أشم رائحة عطره. لكن يبدو أن الأقدار جعلت الحنين سببًا لأرى وجهًا جديدًا لـ"تراجيديا عيد الأضحى"، غير ذلك الذي وسم بموت جدي.

وأنا أتأمل كبار السن ممن يرتدون "الدنڨري" الذي كان جدي يحبه كثيرًا، وأتجول بين تفاصيلهم علي أجد ما يحيلني إلى "سيدي"، قطع بكاء طفل صغير حبل الوهم، اتسعت حدقة عيني وأنا أشاهد طفلًا لا يتجاوز عمره الخمس سنوات يشد والده من أسفل قميصه ويبكي بحرقة وبين الشهقة والأخرى يقول "هيا نروحو بالعلوش".

نسيت جدي ولوعة الفراق وأسرتني دموع الصبي، ما أقسى دموع الأطفال، اقتربتُ منه قليلًا وربت بيدي على رأسه دون أن أنطق بكلمة أعرض عني بوجهه في البداية، ولكنه سرعان ما تشبث برجلي وكأنه يمسك عروة وثقى "تاتا قول لبابا يشريلي علوش". لا أعلم كيف تمكنت من قطع الطريق على الدمع المترقرق في عيني، لا أعتقد أن في هذه الحياة مشهد أقسى من بكاء طفل يرى في خروف العيد لعبة، ووالد يعجز عن شراءها وأنا بينهما لا أملك إلا أن ألعن الواقع، أو ألكي لبكاء الطفل الصغير، ولكن الدموع لا تشتري خروفًا.

لا تستطيع عديد العائلات الفقيرة في تونس شراء الأضحية في عيد الأضحى بسبب أوضاعها المادية الصعبة

الطفل أمامي متشبثًا بساقي والخروف الذي استهوى الطفل خلفي، وأنا أستجمع قوتي لأسأل الأب ما الخطب، حاولت أن أرتب الكلمات قدر الإمكان لأن وقعها أحيانًا أحد من السيف المهند، لم يتبادر إلى ذهني سوى سؤال وحيد قد يبدو غبيًا "علاش يبكي الطفل؟". ولكن يفرض علينا الواقع أحيانًا أن نتقدم بخطوات مبعثرة، المهم ألا نبقى حيث نحن، لم ألبث طويلًا حتى سمعتُ الرد من الأب الذي اكتفى بالقول إن ابنه يريد خروفًا لكن اوضاعه المادية لا تسمح بشرائه ومنذ أن حل بائعو الخرفان بالمكان يحضره يوميًا ليختار خروفه على أمل أن يعود به معه إلى المنزل كل يوم ولكنه يتفنن في اختلاق الاعذار في كل مرة لكي لا يبكيه ولكن الأمر انتهى في النهاية ببكائه.

الأب خالد عامل يومي وله 4 صبيان والطفل الذي يريد الخروف أصغرهم. بدا ظهره منحنيًا، لقد تقرحت كفوف يده، فقميصه المهترئ، وحذاؤه المثقوب وبقايا الشمس على وجهه، هي تفاصيل تحكي معاناته مع الواقع، معاناة عمقتها براءة طفله الذي لا يريد من هذا العالم إلا القليل، لا يريد إلا خروفًا يرى فيه لعبته.

الأب عاجز عن تلبية رغبة ابنه ولا يملك إلا أن يحضره يوميًا الى الرحبة، ويوهمه بأن الخروف الأبيض الذي أعجبه ملكه وأنه فقط ينتظر الوقت المناسب ليحضره إلى المنزل. وكانت الأعذار الواهية تقنع الصبي في كل مرة لكنه أصر قبل العيد بأربعة أيام على اصطحاب الخروف معه، ارتجفت شفتيه وهو يحكي قصة عجز تكرّرت لسنوات ولا يعلم متى تشارف على النهاية، لا شيء يختلف من سنة إلى أخرى عدا أن أولاده الثلاث كبروا واستوعبوا ان الخروف لن يطأ منزلهم وأخاهم الصغير لا يستوعب الأمر بعد، هو يريد أن يتجول بخروفه مثل أترابه.

خالد عامل يومي غير قادر على شراء الأضحية: "كل ما يقرب العيد الكبير نتمنى الموت بش ما نشوفش دموع ولدي"

ينقطع صوت خالد وهو يقول "كل ما يقرب العيد الكبير نتمنى الموت بش ما نشوفش دموع ولدي"، وأنا أيضًا تمنيتُ أن أكون ترابًا في تلك اللحظة، يا لقسوة أن تبيع الوهم لطفل صغير، ولكن ابتسامة الرضا على شفتيه تشفع لك خطيئتك. تركت الوالد يربت على وجنة ابنه ويمضي به إلى غياهب الحلم ومضيت إلى العمل وقد نسيتُ وجع الفقد، لكنني خرجتُ من "الرحبة" محملة بقسوة الواقع، ومنكسرة كأب عاجز عن قول الحقيقة لابنه.

لم تنته التراجيديا عند حكاية خالد وابنه، فقد قررت العودة مجددًا إلى الرحبة لا لكسر جدار الحنين وإنما للبحث عن أطفال بلا خرفان، لأستوعب وجه الحياة القاسي، وربما لأخفف عن أم أو أب وقع الخصاصة وأبيع الوهم إلى أطفالهم عوضًا عنهم.

 

 

 

لا أعلم إن كان الأمر منطقيًا أم لا، ولكن سيماء الفقراء تظهر في عيونهم، هي نظرة ثاقبة ومنكسرة في ذات الآن تمازج فيها عزة النفس بالحاجة. كل هذه الصفات رأيتها مجتمعة في عيون امرأتين تجران أذيال الأسى وراءهما ويسبقهما إلى الخرفان 5 أطفال، فيض من النظرات البريئة والابتسامات العذبة يبثها الأطفال وهم يلاعبون الخرفان، وهالات من الحزن ترتسم على وجهي المرأتين.

اقتربت منهما لأستفسر عن سبب كل هذا الحزن، ولم أنس أن أرتّب كلماتي حتى لا أزيد هذا الواقع مرارة، المرأتين أختين، إحداهما مات زوجها في حادث سير والأخرى يعاني زوجها من مرض مزمن أقعده عن العمل، هما أصيلتا إحدى مدن الشمال الغربي، قدمتا إلى العاصمة من أجل البحث عن عمل يؤمن قوت أطفالهم، الأولى تدعى منية وهي أم لـثلاثة بنات أعمارهن على التوالي 4 و6 و8 سنوات، والثانية تدعى خديجة أم لتوأم يبلغان من العمر 7 سنوات.

بعد الانتهاء من أعمالهن في منازل الأغنياء، تحضر كل من خديجة ومنية أطفالهما للتنزه في "الرحبة" ليمتعوا أنظارهم بالخرفان التي لا تعرف إلى منزل الأختين التين تقطنان سويًا طريقًا. كم جميل أن تسمع قهقهات الأطفال وهم يلعبون وكم مؤلم أن ترى الدمع في أعين أمهات لا يملكن ثمن إسعاد أبنائهن بشراء خروف العيد.

منية وخديجة شقيقتان قدمتا من الشمال الغربي للعمل في العاصمة لا يستطيعان شراء الأضحية لعائلتيهما بسبب أوضاعهما المادية الصعبة

الأختان تنتظران كل سنة هبات مشغليهم في الأعياد، فالأجرة التي تتقاضيانها لا تغطي مصاريف الكراء ونفقة الأطفال وعلاج زوج خديجة، لذلك أوجدتا حيلة إحضار الأطفال إلى "الرحبة" يوميًا للعب مع الخرفان حتى التعب، وإذا ما تساءلوا لماذا لا يصحبون الخرفان إلى المنزل تقولان إنّ المنزل الضيق اللذان يكتريانه لا يسع الخروف وأنه من الأنسب أن يضل في "الرحبة" مع بقية الخرفان. تتداول الأختان على الحديث وكأن الكلام عن الحاجة والخصاصة قد أعياهما ولا ترفعان أعينهما عن الأطفال، اللذين ربما أحسوا بوجع الحاجة لكنهم لم يستوعبوه لصغر سنّهم.

تركتهم يضحكون وانصرفت، في الحقيقة لم أرد أن أمكث في المكان أكثر وأشاهد الدمع في أعينهم وهم يغادرون "الرحبة" بلا خروف، لست بتلك القوة التي تجعلني أصمد أمام حزن 5 أطفال، فأنا هشّة جدًا وفي عيني غيم ماطر، وفي "الرحبة" ما عدت أبحث عن طيف جدّي فما أخفّ وجع الفقد أمام وجع الموت حيا، وما أقسى أن يتمنى أحدهم الموت لأنه لا يملك ثمن خروف يرسم البسمة على شفاه ابنه.