منذ آلاف السنين ظلت سبخة "حلق المنزل" جنوبي مدينة هرقلة صامدة أمام غزوات الطبيعة والبشر. كلما عبرت نحو هرقلة ترى هناك الجسر الروماني الذي يعود إنشاؤه إلى القرن الثالث أو الرابع ميلادي. جسر يفصل بين البحر المتوسط وتلك السبخة المترامية الشطوط، ذات اللون الأزرق الباهت، على ضفافها نباتات تتطعّم الملوحة، و طيور مهاجرة تجد دفء بيضها في هذا المجال الأخضر. وهناك جنوبيّ مدينة سيدي بوعلي، تنحدر دلتا وادي السد الذي تصب مياهه في سبخة "حلق المنزل" أو كما يسميها البعض حقل المنجل. سبخة تمتد على مساحة 1450 هكتارًا و تتوزع إداريًا بين معتمديتي سيدي بوعلي وهرقلة.
ظلت سبخة "حلق المنزل" صامدة كمنطقة رطبة تعتبر متنفسًا طبيعيًا لكامل المنطقة حتى حاصرتها "الحضارة الملوّثة"، فهتكت جمالها وأسرت من إشعاعها البيئي في مجالها الطبيعي الجميل. فاختنقت شرقًا بسد منافذ مياه البحر من منشأة صناعية، وغربًا بسكب المياه المستعملة، وجنوبًا بإلقاء النفايات ومخلفات البناء على ضفافها، حتى ضاق الطير ذرعًا بفعل البشر.علاوة على التغيرات المناخية في السنوات الأخيرة وارتفاع درجة الحرارة.
اختنقت سبخة "حلق المنزل" بسد منافذ مياه البحر من منشأة صناعية شرقًا، وبسكب المياه المستعملة غربًا، وبإلقاء النفايات ومخلفات البناء على ضفافها جنوبًا
صيحة فزع أطلقها المجتمع المدني وناشطون في المجال البيئي بعد أن سجلوا تهديدات جدّية لسبخة "حلق المنزل" مما دفعهم إلى الاستنجاد بالقوانين والاتفاقيات الدولية التي وقعت عليها تونس لإنقاذ ما تبقى من هذه المنطقة الرطبة المدرجة في السجل العالمي.
انتقلنا إلى سبخة "حلق المنزل" في إحدى الأمسيات لنلمس التهديد الجدي لهذه المنطقة الطبيعية. وكانت لنا معاينات أولية مجردة، إذ استقبلتنا أطنان من فواضل البناء والأتربة ومخلفات أشغال الطرقات ملقاة على مئات الأمتار في ضفاف السبخة.
اقرأ/ي أيضًا: أطنان من النفايات الخطرة في مياه تونس.. ما قبل الكارثة!
كما عاينّا من أعلى الجسر انسدادًا بين البحر والسبخة مما يجعلها معزولة تمامًا وذلك بفعل منشأة صناعية منتصبة بالجهة مختصة في مجال تربية الأحياء المائية، كما عاينا جفافًا في المسالك المائية النافذة للسبخة وروائح كريهة نتيجة الطحالب الجافة والطيور النافقة.
تعتبر سبخة "حلق المنزل" منطقة رطبة مصنفة عالميًا من ضمن 24 منطقة في تونس مدرجة تحت اتفاقية رامسار وهي اتفاقية دولية ترمي إلى حماية المناطق الرطبة ذات الأهمية العالمية
أما جنوبيّ مدينة سيدي بوعلي، فإن سكب مياه التطهير في وادي السد المتصل بحلق المنزل قد خلّف تلوثًا كبيرًا وأثر في التربة والمائدة المائية والتواجد الحيواني بهذه المنطقة. ولعلّ التوسع العمراني كان له الأثر الأسوأ على هذا المجال البيئي الطبيعي الذي تعايش مع جغرافية الجهة رغم الحصار.
وتعتبر سبخة "حلق المنزل" منطقة رطبة مصنفة عالميًا من ضمن 24 منطقة في تونس مدرجة تحت اتفاقية رامسار RAMSAR (إيران) وهي اتفاقية دولية وضعت سنة 1971 ترمي إلى حماية المناطق الرطبة ذات الأهمية العالمية، وقد انضمت تونس لهذه الاتفاقية سنة 1981 إثر إدراج بحيرة إشكل في قائمة المناطق الرطبة.
ورغم ما اطلعنا عليه في اتفاقية "رامسار" من حوكمة المناطق الرطبة، فإن ما لاحظناه من خلال معاينات سبخة "حلق المنزل" لا يستجيب إلى أدنى قواعد الحوكمة الرشيدة في حمايتها وذلك نتيجة التجاوزات التي لا تلقى تفاعلًا سريعًا من سلط الإشراف المتدخلة في الشأن البيئي وصعوبة استصلاح المناطق الرطبة المتدهورة وغياب الشفافية في كشف المتجاوزين من المستثمرين الخواص أو مرافق التطهير المنتصبة في المناطق العمرانية المتاخمة للسبخة.
اقرأ/ي أيضًا: مصب "برج شاكير".. كارثة بيئية تفضح سياسة الدولة في التصرف في النفايات
ولمزيد من الاطلاع على خصائص سبخة "حلق المنزل"، اتصل "الترا تونس" برئيس جمعية البحوث والدراسات في ذاكرة سوسة خالد عيسى، الذي أشرف على تنظيم يوم تحسيسي حول سبخة "حلق المنزل" بمناسبة اليوم العالمي للمناطق الرطبة، وأكد التهديدات الجدية التي تحف بهذه المنطقة بسبب انعدام الرقابة، مشيرًا إلى أن "أبرز تهديد لسبخة حلق المنزل يتمثل في محطة التطهير بسيدي بوعلي التي تلقي الأوساخ والمياه المستعملة غير المعالجة والتي تمر بين وادي السد والسبخة".
رئيس جمعية البحوث والدراسات لـ"الترا تونس": أبرز تهديد لسبخة حلق المنزل يتمثل في محطة التطهير بسيدي بوعلي التي تلقي الأوساخ والمياه المستعملة غير المعالجة والتي تمر بين وادي السد والسبخة
ولفت خالد عيسى إلى أن "وادي السد المتصل بالسبخة مصنفٌ بدوره ضمن اتفاقية رامسار للمناطق الرطبة ذات الأهمية العالمية، وبالتالي فهو يستوجب العناية وفق المقاييس الدولية".
كما أشار خالد عيسى إلى أن "الفصل بين السبخة والبحر بسبب مصنع لتربية الأحياء المائية يهدد الوضع البيئي"، مشيرًا إلى أن "مظاهر ذلك جليّة من خلال ركود المياه من جهة البحر والروائح الكريهة المنبعثة منها".
أما التهديد الثالث، حسب قوله، فيتمثل في "إلقاء مخلفات تجهيز القنطرة الحديثة من فواضل البناء والأوساخ على ضفاف السبخة من جهتي هرقلة وسيدي بوعلي، ممّا تسبب في خلق منطقة مشوهة بيئيًا في ظل غياب تدخل جدي من سلطة الإشراف وعدم رفعها رغم المراسلات المحرّرة في الغرض".
وفي تصريح لـ"الترا تونس"، أفاد فوزي يونس، ممثل الإدارة الجهوية للوكالة الوطنية لحماية المحيط، بأن "المناطق الرطبة قد حازت باهتمام السلط، خاصة وزارتي الفلاحة والشؤون المحلية والبيئة، من أجل التصرف المستديم في المناطق الرطبة بالبلاد التونسية"، مشيرًا إلى أن "بالإضافة للـ24 منطقة رطبة مصنفة، يمكن أن تنخرط ضمن اتفاقية رامسار 34 منطقة أخرى مشابهة"، على حد قوله.
أما عن التهديدات، فقال يونس إن "من أهم عوامل تدهور المناطق الرطبة، العوامل الطبيعية على غرار التغيرات المناخية والفيضانات والانجراف البحري".
أما بخصوص العوامل البشرية، فلفت محدث "الترا تونس" إلى أن قُرب مناطق العمران من المناطق الرطبة يشكّل تهديدًا فعليًا لها، ولعل إلقاء النفايات السائلة أو الصلبة يعدّ جزءًا كبيرًا من المعضلة، فضلًا عن استعمال المبيدات بشكل غير مدروس".
اقرأ/ي أيضًا: "المد الأحمر" في تونس .. الأسباب والانعكاسات
من جهته، قال مختار رواق، رئيس دائرة الغابات بسوسة، في تصريح لـ"الترا تونس": "تشتمل ولاية سوسة على 6 مناطق رطبة تمسح 15% من المساحة الجملية للولاية أي قرابة 38400 هكتارًا، تخضع جلها لتصرف الإدارة العامة للغابات".
ممثل الإدارة الجهوية للوكالة الوطنية لحماية المحيط بسوسة لـ"الترا تونس": قُرب مناطق العمران من المناطق الرطبة يشكّل تهديدًا فعليًا لها، ولعل إلقاء النفايات بها يعدّ جزءًا كبيرًا من المعضلة
وتابع القول: "سبخة حلق المنزل تأوي العديد من الطيور المهاجرة، أبرزها النحام الوردي، وكذلك بعض النباتات المغمورة والعائمة ونباتات شبه عائمة و أخرى أرضية"، مؤكدًا أن "إدارة الغابات تعمل على المحافظة على الخصائص الطبيعية من الاعتداءات وكل ما يخالف القوانين الواردة في مجلة الغابات"، وفق قوله.
واعتبر محسن كلبوسي، باحث بمعهد العلوم الفلاحية بشط مريم، أن "الفضاء المحيط بالسبخة فيه حضور بشري مكثف، مضيفًا أن "سكب الفضلات بها من شأنه أن يقلّص من عدد الطيور الوافدة إليها وقد يدفعها ذلك إلى عدم التعشيش بالمنطقة".
وأردف كلبوسي، في ذات الصدد، أن تقلّص المياه بسبخة "حلق المنزل" يشكّل تهديدًا لها أيضًا، لاسيما وقد يسبب ذلك في المستقبل ارتفاع الملوحة، مما قد يدفع الطيور التي لا يمكنها تحمل درجة عالية من الملوحة إلى الهجرة، كما أن هناك نوعية من الكائنات المائية المجهرية التي تتغذى منها الطيور قد تتقلص وربما تنقرض، ناصحًا الخبراء والمختصين بدراسة هذه المتغيرات وإيجاد الحلول لهذا "الموروث الطبيعي"، حسب تقديره.
من جهتها، أكدت رئيسة بلدية هرقلة ليلى مراد أن "المجال الإداري لسبخة حلق المنزل ينقسم بين بلديتي هرقلة و سيدي بوعلي"، معتبرة أن "سكب النفايات ومخلفات الأشغال العامة الكبرى يمثل مصدرًا للتلوث في ضفاف السبخة، ناهيك عن كون انسداد القنال الرابط بين البحر والسبخة بفعل تواجد مصنع تربية الأحياء المائية يشكل أحد أبرز العناصر المؤثرة في الخصائص الطبيعية للمنطقة".
اقرأ/ي أيضًا:
حماية للطيور في سبخة السيجومي... هل تستجيب الحكومة لنداءات الجمعيات البيئية؟