28-نوفمبر-2019

تعد السبخة محطة رئيسية لآلاف الطيور المهاجرة بعضها من الأصناف المهددة عالميًا (رجاء غرسة/ألترا تونس)

 

تنتشر، كل صباح، الآلاف من الطيور على ضفاف سبخة السيجومي، جنوبي العاصمة تونس، أسراب من النحام الوردي ترتكز سيقانها الطويلة على أرض السبخة وفي حركة نشيطة تبحث في الماء عما يملأ معدتها، وغير بعيد منها مجموعات من البطّ تسبح نحو العمق وتطارد بمنقارها ما اعترضها من قوت. ضجيج الطريق السيارة لا يسمح بتمييز أصوات الطيور، لكنها تبدو مستجمّة غير مبالية بأصوات السيارات، ولا شاحنات تلفظ مخلفات البناء ولا عمل آلات الحفر على مقربة منها.

تنتشر كل صباح الآلاف من الطيور على ضفاف سبخة السيجومي (رجاء غرسة/ألترا تونس)

 

يغري المشهد المتناغم في الماء بالتقرب أكثر والتمعن في هذه الكائنات التي تهنأ بعالمها المائي الخاص وكأن لا شيء يعنيها، قبل أن ترفض الأسراب المختلفة هذا اللقاء المباغت وتهم بمغادرة الضفاف سريعًا نحو وسط السبخة.

ترفع، في الأثناء، جمعيات بيئية في تونس ناقوس الإنذار من مشروع استصلاح وتهيئة سبخة السيجومي مؤكدة أنه يهدد التوازن البيئي في السبخة التي تعد محطة رئيسية لآلاف الطيور المهاجرة بعضها من الأصناف المهددة عالميًا.

اقرأ/ي أيضًا: المنطقة الرطبة بطينة.. بشاعة الصناعة وإجرام اللامسؤولية

سبخة السيجومي.. محطة لآلاف الطيور المهاجرة

تقدّر جمعية أحباء الطيور أعداد الطيور المهاجرة والمشتية بالسبخة بـ 90 ألف موزعة على 60 نوعًا من الطيور بعضها من الأصناف المهددة عالميًا، حسب ما أفاد به "ألترا تونس" منسق الفريق العلمي بجمعية أحباء الطيور هشام الزفزاف.

وفي جانفي/ كانون الثاني 2019، قدّرت الجمعية الوحيدة في تونس المعنية برصد وتعداد الطيور المهاجرة في تونس وجود 80471 طائرًا مائيًا مشتيًا وقارًا موزعًا على 35 نوعًا منها 9819 نحام وردي و66220 طير بطّ متنوع مقابل أقل من 25 ألف طائر في الحديقة الوطنية بإشكل التي اُنشئت من أجل هذه الطيور.

تقدّر جمعية أحباء الطيور أعداد الطيور المهاجرة والمشتية بالسبخة بـ 90 ألف موزعة على 60 نوعًا من الطيور بعضها من الأصناف المهددة عالميًا

تقع سبخة السيجومي في دائرة مدينة تونس العاصمة، ويتراوح ارتفاعها بين 8 و10 أمتار عن مستوى سطح البحر وهي بحيرة مغلقة تستقبل مياه العديد من المجاري المائية الصغيرة فضلًا عن المياه المستعملة في الأحياء السكنية المتاخمة غير المرتبطة بقنوات التطهير.

وصنُفت السبخة، سنة 2000، كمنطقة مهمة للمحافظة على الطيور والتنوع البيولوجي. ثم صنفت بتاريخ 7 نوفمبر/تشرين الثاني 2007 ضمن تصنيف "رامسار" وقدرت مساحتها في ذلك الوقت بـ 2979 هكتار، من بين 41 موقعًا في تونس على مساحة جملية تقدر بـ 1888 هكتار.

حازت سبخة السيجومي المرتبة الرابعة ضمن المناطق الرطبة الهامة بالنسبة إلى الطيور المائية في كامل شمال إفريقيا (رجاء غرسة/ألترا تونس)

 

و"رامسار" هي معاهدة دولية للحفاظ والاستخدام المستدام للمناطق الرطبة من أجل وقف الزيادة التدريجية لفقدان الأراضي الرطبة وتدارك مهامها الأيكولوجية وتنمية دورها العلمي والاقتصادي والثقافي، وفق ما جاء في موقع الأراضي الرطبة لأجل منطقة متوسطية مستدامة. كما حازت سنة 2013 على المرتبة الرابعة ضمن المناطق الرطبة الهامة بالنسبة إلى الطيور المائية في كامل شمال إفريقيا.

ونظرًا لخصوصية المناخ التونسي المتوسطي، تستقطب السبخة أكثر من 140 صنف من الطيور المهاجرة الشتوية ليستطيع تكوين مخزون من الدهنيات تساعده على العودة إلى موطنه الأصلي في أوروبا وغربي آسيا حيث يعشش ويتكاثر.

ويبرز رسم بياني لجمعية أحباء الطيور تذبذبًا في أعداد الطيور بالسبخة وأنواعها منذ سنة 2003.

جمعية أحباء الطيور: المشاريع في تونس لا تهتم بالبيئة

اختلفت الرؤى، في الفترة الأخيرة، حول الحياة البيئية بالسبخة وتأثيراتها المرتقبة على الطيور المائية القارة والمهاجرة، خاصة مع تقدم مراحل دراسة مشروع استصلاح وتهيئة سبخة السيجومي في ظل التحفظ على المشروع في علاقة بتأثيراته البيئي.

وقد وجهت جمعيات علمية وبيئية، في هذا الجانب، رسالة مفتوحة مشتركة الى وزارات التجهيز، والإسكان، والبيئة والفلاحة عبرت فيها عن انشغالها من المنحى الذي اتخذته دراسة مشروع تهيئة السبخة وحذّرت من آثارها البيئية على المنطقة.

هشام الزفزاف (جمعية أحباء الطيور): المشاريع في تونس تولي الأهمية الأولى للاقتصاد وليس للبيئة في ظل التغاضي عن الاتفاقيات الدولية

وفي تصريح لـ "الترا تونس"، أرجع هشام الزفزاف، منسق الفريق العلمي بجمعية أحباء الطيور، تحفظ الجمعية الموقعة أيضًا على الرسالة، إلى كون دراسة المشروع لا تأخذ بعين الاعتبار التنوع البيولوجي وعدة معطيات متعلقة منها العمق الضروري الملائم للسبخة، مشيرًا الى التجاهل وانعدام الجدية في التعامل مع هذا الملف.

حذرت الجمعيات البيئية من تأثير مشروع تهيئة سبخة السيجومي على التوازن البيئي (رجاء غرسة/ألترا تونس)

 

اقرأ/ي أيضًا: الطبيعة تنتصر.. إعادة توطين "غزال الأطلس" في جبال سليانة بعد انقراض فاق القرن

وأكد المنسق العلمي للجمعية أن المشاريع في تونس تولي الأهمية الأولى للاقتصاد وليس للبيئة في ظل التغاضي عن الاتفاقيات الدولية الموقع عليها من طرف الدولة التونسية. وأفاد أن الجمعية بصدد استكمال دراستين حول النباتات والكائنات الحية في السبخة وأخرى عن كميات المياه الموجود والنظام الهيدرولوجي لتوجيهها للوزارات ذات العلاقة.

في المقابل، دافع عادل العزابي، رئيس جمعية متساكني المروج 3 (منطقة قرب سبخة السيجومي) عن أحقية سكان المنطقة في تهيئة السبخة التي شهدت ردمًا عشوائيًا لـ 520 هكتارًا منها، وأكد أن إقامة المشروع لا تتعارض مع وجود الطيور المهاجرة ولا تخل بالوضع البيئي في ظل الإبقاء على 700 هكتار منها.   

رئيس جمعية متساكني المروج 3: مشروع تهيئة سبخة السيجوني لا تخل بالوضع البيئي ولا تهدد الطيور المعاجرة في ظل الإبقاء على 700 هكتار

وانطلقت دراسة مشروع تهيئة وتثمين سبخة السيجومي في أواخر 2015 ليتم في أفريل / نيسان 2017 المصادقة على المشروع الذي يهدف إلى تحسين الحماية من الفيضانات وإلى تطهير سبخة السيجومي من مصادر التلوث ويرمي إلى مصالحتها مع محيطها العمراني والبيئي، وفق المُعلن.

وفي وقت سابق، قدّر وزير التجهيز والإسكان نور الدين السالمي كلفة استصلاح سبخة السيجومي على غرار بحيرة تونس، والتي كانت في ثمانينيات القرن الماضي في حالة بيئية سيئة، بحوالي 330 مليون دينار في إطار الشراكة بين القطاعين العام والخاص.  

شبكة "فايقين لبيئتنا": ضرورة مراعاة الثراء الطبيعي النادر

من جهته، قال المنسق العام لشبكة الجمعيات البيئية "فايقين لبيئتنا" سليمان بن يوسف في تصريح لـ"الترا تونس" إن "الحذر واجب لعدم تكرار أخطاء الماضي مع هفوات الاعتداء العمراني على السبخة بتوسع عمراني عشوائي سبّب الخلل لشبكة المنطقة الرطبة".

دعت الجمعيات البيئية لمراعاة المعطيات البيئية والمناخية في إنجاز المشاريع (رجاء غرسة/ألترا تونس)

 

وأوضح أن المشاريع المستقبلية بالسبخة تستوجب مراعاة معطيات متنوعة مجتمعة منها الأيكولوجي والاجتماعي والثقافي والمناخي مؤكدًا أنه "لا بد من تشريك المعنيين قبل الحسم في الفرضيات والسيناريوهات ومراعاة الثراء الطبيعي النادر". وشدد على ضرورة التأكد أيضًا من أن أيّ من المشاريع المقترحة للترفيه والسياحة والتنمية لا تشكل خطرًا بيئيًا لكي لا يتم استبدال إشكال بآخر، وفق قوله.

سليمان بن يوسف (فايقين لبيئتنا): الحذر واجب لعدم تكرار أخطاء الماضي مع هفوات الاعتداء العمراني على السبخة بتوسع عمراني عشوائي سبب الخلل لشبكة المنطقة الرطبة

ودعا محدثنا، في ذات السياق، إلى "القطع مع النموذج السابق الموجه للاستجابة الحاجيات الراهنة والحلول السهلة وتصويب التنمية التقليدية نحو اعتماد نموذج مجدد يرنو للتركيز على الطاقات البديلة والأنشطة المحددة والمشاريع ذات المقاربات الألمانية في رؤية أجندة 2030، والأهم ترسيخ بعدي التوازن والحكومة وتشريك واستشارة الفاعلين بعيدًا عن السياسات الأحادية المسقطة". وأكد، في ذات الإطار، على ضرورة مراجعة جذرية للمنوال التنموي التونسي لتجاوز حالات النمط السابق الذي أدى لكوارث بيئية في ظل عدم مراعاة الاستدامة، وفق قوله.

 

اقرأ/ي أيضًا:

عصافير نادرة في المزاد.. إطلالة على سوق الطيور بسوسة

جزيرتا قورية.. نحو محمية طبيعية لحماية السلاحف البحرية