13-يناير-2019

تحولت المنطقة من مزار لعشاق الطيور والتخييم إلى مستقر للنفايات بشتى أنواعها (حبيب الدلنسي)

 

في ولاية متحوّلة كصفاقس، ثمة مواقع وأماكن تغيرت جدًا خلال بضعة عقود، عالم من المياه والطبيعة الساحرة تحول إلى مستنقعات لمياه الصرف الصحي ومصب للفضلات بشتى أنواعها، من منطقة طبيعية عذراء إلى مساحة خلفية لمواراة خطايا الصناعة وغيرها تجاه المحيط والبيئة.


على طول 10 كيلومترات على الساحل الجنوبي لمدينة صفاقس، تمتد السباخ الطبيعية والغابة المتوسطية والملاحات الكبرى للمنطقة الرطبة بطينة محيطة بموقعها الأثري البوني، إلى أن تتلاشى روعتها الجغرافية وقيمتها الايكولوجية والتاريخية على مشارف قرابة 90 مصنعًا تمكنت كورم خبيث.

على الرغم من أن مياه البحر والسباخ التي تغمر الجزء الأكبر من المنطقة تمثل عصب الحياة فيها، إلا أنها تحولت بمفاعيل التلوث إلى مصدر خطر على حياة آلاف الطيور المقيمة والمهاجرة كما على حياة البحارة البسطاء والباحثين عن رزقهم على ضفاف الشاطئ.

اقرأ/ي أيضًا: مياه صرف صحي وملوثات مصانع وتسربات نفطية.. كارثة تلوث شواطئ تونس

بحر أسود في صفاقس

من الحي السكني بمنطقة طينة يتراءى البحر عاليًا وممتدًا في الأفق، ورغم قصر الطريق الا أنه لم يكن من السهل علينا الوصول إلى الشاطئ. ففي شبه طريق ترابي، كنا مجبرين على الترجل والقفز بين جثث الحيوانات وأكداس الفضلات الصناعية، التي تُلقى دون أي وازع بالمسؤولية تجاه المكان والسكان.

المنطقة الرطبة بطينة تحولت إلى مصب للفضلات ومستنقعات للصرف الصحي (حبيب الدلنسي)

بالنظر إلى المواطنين، تلخص لنا إحدى المتساكنات في المنطقة علاقتهم بالبحر بالتأكيد أنها لا تتعدى توجههم إلى الشاطئ لغسل جلود الأضاحي في العيد، مبدية حسرتها على عدم قدرتهم على السباحة فيه نظرًا لرداءة المياه وخطورتها على صحة البشر.

ببلوغنا الشاطئ، تتكشف لنا الحقيقة صادمة وموغلة في القبح، البحر عن قرب لم يكن أزرقًا البتة لقد كان أسودًا قاتمًا ومتدرجًا في الأفق إلى الحمرة، وشاهدنا واديا كاملًا متدفقًا إلى البحر محمل بالفضلات البشرية ومكونات أخرى قيل لنا أنها مواد صناعية.

ضياع الرزق

على مسافة قرابة أربعين مترًا من الشاطئ ووسط هذا الوحل كان الستيني عمّ علي (اسم مستعار) يربط قاربه الصغير، انتظرناه حتى خرج لنستفسر منه وضعية الصيد في هكذا شاطئ.

بدت على عمّ عليّ علامات الإرهاق والضجر، كانت يداه وساقاه متسختان بعوالق سوداء "على الأغلب فضلات بشرية مصدرها ديوان التطهير"، كما يخبرنا.

يقول محدثنا لـ"الترا تونس": "لقد تراجع إنتاج السمك بصفة ملحوظة خلال السنوات الأخيرة، لم تبق في هذه المنطقة إلا الأسماك التي تتغذى على الفضلات وهي ذات جودة رديئة".

تراجع إنتاج السمك بصفة ملحوظة خلال السنوات الأخيرة (حبيب الدلنسي)

ويواصل متحسرًا": لم يعد البحارة الصغار مثلي قادرين على الصيد، فكما ترون، قضى التلوث على كل شيء هنا، البحر تصحر تمامًا على مساحات شاسعة، فقد ردم المحار والقشريات وماتت أغلب أنواع الأسماك وهاجرت البقية".

ويسترسل: "لقد كانت المرأة الواحدة قادرة على جمع ما يربو عن العشرين كيلوغرام في اليوم من المحار، أما اليوم فقد طوي ذلك الخير وحلت علينا اللعنة، لقد اختفى المحار تمامًا جراء موت الأعشاب البحرية على مدى شاسع، وما عادت بذلك النساء ترتاد البحر".

عم علي (بحار): قضى التلوث على كل شيء وقد ردم المحار والقشريات وماتت أغلب أنواع الأسماك وهاجرت البقية

ولكن الأمر لا يقتصر على صعوبة تحصيل الرزق فقط، بل يتعداه إلى الخطر على صحة البحارة، حيث يروي لنا العمّ علي ما تعرض له منذ سنوات إثر إحدى جولات الصيد، حينما عجز لأسابيع عن المشي جراء حساسية حادة أصابت الجزء السفلي من جسده بسبب تلوث المياه.

منتزه مهجور ومحمية تتحول إلى مصيدة

يظهر التناقض الكبير في المشهد حين نجد لافتات المحمية الطبيعية بطينة والمنتزه الحضري على أكداس الأوساخ وعلى حوافي الأودية الملوثة. فالمكان غارق في القذارة والروائح العطنة منبعثة بطريقة لا يمكن تحملها لأي وافد جديد على المكان.

رغم الوضع الكارثي الذي تمر به هذه المنطقة وانسحابه على كافة مناحي الحياة، وقد بات المنتزه مهجورًا والمكان قفرًا إلا من شاحنات الفضلات، لا تكاد السلطة المحلية تلقي بالًا لهذا الوضع المتأزم، الذي تحمّل الجمعيات البيئية المسؤولية الرئيسية فيه لمصنع "السياب" التابع للمجمع الكيميائي، وديوان التطهير الذي يربط قنوات المياه العادمة بالشاطئ دون أي احترام للمعايير الصحية.

اقرأ/ي أيضًا: مخالفات وانتقادات.. "الترا تونس" يرافق مهمة رقابية للشرطة البيئية

في حوار جمع "الترا تونس" بالناشط البيئي ومراقب الطيور حبيب الدلنسي، يؤكد محدثنا أن بين 40 و45 متر مكعب من المياه العادمة غير المعالجة لما يفوق أربعمائة ألف ساكن يتم سكبها في البحر يوميًا عبر القناة الموصلة بالشاطئ هو ما أثر على لون البحر وجودته.

ويتابع الدلنسي أن هذه الكميات الكبيرة من المياه الملوثة قد حولت لون البحر إلى الأسود على امتداد أكثر من اثني عشر كيلومترًا وعلى مدى كيلومترين إلى الداخل، وهو ما تسبب في تصحر البحر جراء الحالة السيئة للماء، حيث تتعرض الأسماك والنباتات البحرية للموت جراء المواد السامة والفضلات الصناعية الملقاة في البحر.

شركات بيع لحوم الدجاج تلقي بالفراخ المريضة بالمنطقة ما يتسبب في انتقال الأمراض إلى الطيور (حبيب الدلنسي)

وعن تأثير تلوث البحر على الطيور الموجودة بطينة، يؤكد الدلنسي، في البداية، إلى أن المنطقة تشهد ثراءً حيوانيًا يقل نظيره، فهي تجذب قرابة مائة نوع من الطيور بين مهاجرة ومقيمة وقد تراجعت نتيجة التلوث إلى المرتبة الثانية كأكبر مستوطنة في المتوسط لطائر النورس دقيق المنقار، إذ أن أربعة عشر ألفًا زوج من هذه الفصيلة لم تعد موجودة بطينة، وفق تأكيده.

ويوضح الناشط البيئي أن طيور كثيرة من التي تسبح في البحر أو تقتات على الأسماك تتعرض إلى خطر فقدان القدرة على الطيران نتيجة تعلق الزيوت الصناعية الموجودة في الماء بريشها أو حتى تعرضها لأمراض سببها التلوث.

ويضيف محدثنا أن الطيور تواجه أخطارًا في البر كذلك، حيث تسببت مصبات الفضلات بالجهة في انتشار الخنزير الوحشي والكلاب السائبة التي صارت تقتات على بيض الطيور وفراخها، مشيرًا إلى أن نشطاء أوروبيين قد عبروا عن امتعاضهم من هذه الآفة، إذ أن أنواعًا عدة من هذه الطيور المهاجرة تأتي من البلدان الاسكندنافية.

حبيب الدلنسي (ناشط بيئي): تسببت مصبات الفضلات في انتشار الخنزير الوحشي والكلاب السائبة التي صارت تقتات على بيض الطيور وفراخها

ويشير إلى مسؤولية بعض الشركات المتخصصة في بيع لحوم الدجاج وتلقي بالفراخ المريضة بالجهة ما يتسبب في انتقال الأمراض إلى الطيور مؤكدًا إصابة زهاء 350 طائرًا في وقت سابق بأمراض خطيرة بهذه الطريقة.

ويحمل الناشط البيئي المسؤولية إلى تواطئ الأمن وغياب الجمعيات البيئية، إذ يشدد على تورط الشركات الصناعية المحاذية وعلى رأسهم الحكومية، وهي "السياب" والمسلخ البلدي وديوان التطهير، مستشهدًا بما أكدته منظمة "Greenpeace" في دراسة أعدتها سنة 2007 عن مسؤولية التلوث بالمنطقة لهذه الأطراف.

ويوضح أن مصنع "السياب" مثلًا يلقي بفضلاته الكيميائية في البحر علاوة على مدخانتها الملوثة، بلا هوادة ودون أي حسيب أو رقيب، وهو ما انجر عنه ارتفاع معدلات إصابة الأهالي بالجهة بأمراض الحساسية والكلى بصفة ملحوظة، أين ينحصر أكثر من 45 ألف ساكنًا في مساحة 3200 هكتار تغطيها أبخرة المصنع.

"السياب".. ويتواصل مسلسل الهروب

مصنع "السياب" أو كما يلقبه سكان صفاقس "مصنع الموت" يمتد على مساحة 5600 هكتار على الشريط الساحلي الجنوبي لمدينة صفاقس، تنشط مداخنه منذ سنة 1952 ويعد أول وحدة لتحويل الفسفاط في تونس وينتمي للمجمع الكيميائي بصفاقس.

نتيجة سنوات من المطالبات بإيقاف نشاط المصنع لما تسبب فيه من تردي للأوضاع البيئية بالجهة، اتخذ النظام السابق بشأنه، سنة 2008، قرارًا بالغلق، تم الشروع فيه أواخر سنة 2010 عبر الانطلاق في تسوية الوضعيات الاجتماعية للعمال والاطارات.

هذا المسار شهد توقفًا إثر التحول السياسي بالبلاد نتيجة امتناع الذراع النقابي بالمصنع الذي رأى في الأمر "اضرارًا بمصالح العمال وسلبًا لأرزاقهم وتهديدًا لقوت عائلاتهم"، ليظل القرار وعدًا اتخذته الحكومات المتعاقبة بعد الثورة دون تطبيقه إلى هاته اللحظة.

أصابع الاتهام تتوجه لـ"السياب" في المسؤولية عن التلوث في طينة (حبيب الدلنسي)

في اتصال هاتفي بالمسؤول النقابي بالمصنع الكيميائي قاسم حمادي، نفى محدثنا وجود قرار بالغلق، معتبرًا أن الأمر لا يعدو أن يكون قرارًا بتحويل وحدة إنتاج الحامض الفسفوري بالمصنع إلى قفصة. 

وأشار حمادي إلى أن الاتفاق الممضى حاليًا مع حكومة يوسف الشاهد ينص على تركيز أنشطة بديلة بالمصنع غير ملوثة وهي إنتاج أحادي الفسفاط الرفيع الذي سيستخدم فيه أساسا جبل الفوسفوجيبس الموجود بالمصنع منذ عقود، ودون أية تفاعلات كيميائية ملوثة، منوهًا بأن هذا المنتج قد تلقى فيه المصنع شهادة تقدير عالمية.

وعن التلوث البحري، قال محدثنا إن المصنع "بريء من ذلك" وأن القناة الملوثة تعود لديوان التطهير، مشيرًا في الآن ذاته إلى أن التلوث الهوائي الناتج عن المداخن في حدود المعدلات العالمية ولكنه لم ينف حاجتهم إلى تركيب معدات تكنولوجية باهضة لتخفيف هذا التلوث والذي يرى بالعين المجردة.

قاسم حمادي (نقابي في "السياب"): المصنع بريء من التلوث والتلوث الهوائي الناتج عن المداخن في حدود المعدلات العالمية

وأضاف المسؤول النقابي في "السياب" لـ"الترا تونس" أن السياب قد أوقفت إنتاج حامض الكبريت والحامض الفسفوري منذ 2016 رغم أن نسبة التلوث الناجمة عنهما كانت عند الحد المسموح به، وفق تأكيده.

وإزاء اتهامات المجتمع المدني للمصنع وإدارته بالمسؤولية على النصيب الأكبر من التلوث بالمنطقة، يشير محدثنا أن المصنع قد راسل وكالة المحافظة على المحيط ثلاث مرات بغرض التثبت من حقيقة التلوث بالمصنع ولكنها تجاهلتهم نتيجة ضغوطات تتعرض لها، على حد تعبيره.

وفي النهاية، اعتبر حمادي أن نشاط المجتمع المدني تجاه المصنع تحركه مصالح رجال أعمال يرغبون في الاستفادة من شراء أراضي المصنع بعد غلقه، بأسعار رمزية، ومن ثمة تحويلها إلى مشاريع عملاقة تدر عليهم أرباحًا بالمليارات، وفق تعبيره.

يتأكد، في المحصلة، ضياع حق الطبيعة في حفظ المنطقة الرطبة بطينة من الاندثار جراء تنكر كل الضالعين عن تحمل مسؤولياتهم في منع عملية الخنق التي تتعرض لها المنطقة التي بدأت تفقد معالمها شيئًا فشيئًا. إذ تتحول من سباخ عامرة بالحياة إلى مستنقعات للأوبئة والروائح الكريهة، ومن مزار لعشاق الطيور والتخييم إلى مستقر للنفايات بشتى أنواعها وأشكالها، وليتأزم الوضع بالمنتزه الحضري بها أكثر فأكثر حتى تصير منارته المنتصبة، ذات يوم من شاهد على الازدهار إلى شاهد على الخراب. 

 

اقرأ/ي أيضًا:

أطنان من النفايات الخطرة في مياه تونس.. ما قبل الكارثة!

جزيرتا قورية.. نحو محمية طبيعية لحماية السلاحف البحرية