"نحبُّ البلادَ... كما لا يحبُّ البلادَ أحدْ.. صباحًا .. مساءً.. وقبل الصّباحِ.. وبعد المساءِ.. ويوم الأحدْ.
هي كلمات قالها الراحل محمد الصغيّر أولاد أحمد في عشق هذا الوطن وكأنّما استشرف أنّه سيأتي أحد استثنائي في تونس يعبّر فيه الجميع عن حبّ هذا البلد. أقول "استثنائي" لأنّ صبيحة الأحد مقدّسة عند التونسي فعادة ما تكون صبيحة نوم وتكاسل بامتياز بعد أسبوع عمل متعب أو بعد إمضاء ليلة السبت في السهر والمسامرة.
أيمن طويري (مواطن تونسي) لـ"ألترا تونس": أبناء التضامن يريدون تغيير النظرة للأحياء الشعبية باعتبارها ليست نظيفة
وهذا حال ابن جارتي محمّد الذي عادة ما أسمع صراخه بعد انتصاف النهار، لكنه اليوم استفاق باكرًا واعترضني مسرعًا ليلتحق بأصدقائه الذين ينتظرونه في محطّة الحافلات. وعند سؤالي له عن وجهته قال لي" إنها حالة وعي في الحي ألم تسمعي بها؟". وأن يحدّثني في أيامنا هذه شاب في الرابعة عشرة من عمره عن الوعي فهذا في حدّ ذاته حدث، فهو خطاب غريب صادر عن شباب أغلب ما يقال عنه أنه سلبي ولا يكترث لما يدور حوله.
اقرأ/ي أيضًا: الحملات الشبابية المواطنية.. "حالة وعي" في مواجهة الوعي المعلّب
انطلقت مع محمّد للمكان الذي قرّر شباب خي التضامن التجمّع فيه للمشاركة في الحملة الوطنيّة للنظافة. وتعمّدت أن نسلك طريقًا مطوّلة لأرصد الأجواء في الحي. تراءت لي صور ومشاهد لم أتعوّد على رؤيتها سابقًا. فكان من المنتظر أن ترى شباب المعاهد أو ربّات البيوت أو الأطفال هم المشارك الرئيسي في مثل هذه الحملات. لكنّ الغريب اليوم أنه حتى الذين تعودنا رؤيتهم فاقدي الوعي بسبب الخمر أو المخدّرات كانوا هم الذين يقودون حالة الوعي اليوم.
فور وصولنا مكان التجمّع، كان الجميع متجنّدًا ليصنع التغيير في هذا الحي. حي شعبي عانى أهله من التهميش على امتداد عقود ولكنّ أهله اليوم يطمحون لرسم ملامح جديدة وصورة جميلة بجمال أرواح متساكنيه. وقفت على بعد أمتار أتابع الحركيّة وفي ذهني عديد التساؤلات. ما الذي يحدث في هذا الوطن؟ من الذين أيقظ في النفوس هذه المشاعر الفياضة التي تستشعرها في وجوه الناس أينما تحل؟
أجواء احتفاليّة، ضحك وقهقهات معدية تطال حتى المار بالصدفة عبر المكان، غناء بنشازه يصنع معزوفة أمل لاح في الأفق فصنع الحدث. فلا تعتقد أنّ تلك الفتاة التي تحمل مكنسة تجمّع الفضلات فقط، إنّها تكنس ألمًا وحزنًا وماض ملؤه الجهل والتهميش، أو أن ذاك الفتى الذي يدهن الرصيف يقوم بتجميله فقط، إنّه يجدّد الألوان في الأرواح ويزهّي نفوسًا ضاقت على مرّ السنون، وحتى تلك الطفلة الصغيرة التي ترسم بالفرشاة فهي لا تلوّن اللوحة فقط إنّما ترسم مستقبلا لبلاد مسح عنها الشباب غبارًا ليعود بريقها من جديد.
فيصل بوعلي (تاجر) لـ"ألترا تونس": الشباب اليوم أحسّ أن البلاد أصبحت ملكًا للشعب خاصة بعد الانتخابات الرئاسيّة
أيمن طويري (28 سنة/موظّف)، أحد المشاركين في الحملة الوطنية للنظافة، قال لـ"ألترا تونس" إنّ أبناء التضامن يريدون تغيير النظرة للأحياء الشعبية باعتبارها ليست نظيفة وأنّ سكانها غير متحضرين على حدّ تعبيره، مضيفًا أنّ الحملة لن تقتصر على هذا اليوم فقط ولن تقف حدّ التنظيف إنما سيقع التخطيط لبرنامج يمتد للسنوات القادمة.
"هناك حملات من بعض الإعلاميين الذين يعتقدون أنّ وراءنا "ماكينة" تدفعنا للقيام بمثل هذه المبادرات لكن الأمر عار من الصحّة فانتظامنا كان تلقائيًا ولا يوجد أي أطراف لا سياسية ولا حزبية ولا حتى جمعياتية تدعمنا"، هكذا أكّد أيمن عفويّة هذا التنظّم مبينًا أنّ السبب الأساسي وراءه هو أنّ الشباب أحسّ بتغيّر الخطاب والتمس فيه بعض الصدق حيث أنّ التونسي يتفاعل مع الخطاب الذي يسمعه سواء كان إيجابيًا أو سلبيًا ويتماهى معه ويكون صورة له، على حدّ قوله.
وختم حديثه قائلًا "نطلب من الإعلام أن لا يحبطنا وأن يشجعنا. يؤلمنا أن يقال إنها نفحة وإنها ستضمحل في الأيام القادمة. نبحث فقط عن كلمة تشجيع تجعلنا نواصل المسيرة لغد أفضل لتونس".
وعلى بعد بضع أمتار، كان الشاب فيصل بوعلي (تاجر) يفرّق الأقنعة والقفازات لمستحقيها. وفي حديثه لـ"ألترا تونس" قال إنّ الشباب اليوم أحسّ أن البلاد أصبحت ملكًا للشعب خاصة بعد الانتخابات الرئاسيّة وتحمسّ من كونه ساهم في إيصال رئيس للحكم وهذا ما خلق حالة الوعي هذه، وفق تصريحاته.
وأضاف "نستطيع تقديم الأفضل لهذه البلاد وأن نضحي لأجلها ويجب أن تنتظم مثل هذه المبادرات لضمان استمراريتها وفي الحي ستصبح أسبوعيّة وسنتوجه للمعاهد والمكتبة العمومية ولجميع المؤسسات التي تحتاج صيانة داخل الحي". وأكّد بوعلي أنّ البلدية ساعدت بما تملك من إمكانيات وأنّ هناك من تبرّع بمواد التنظيف والدهن واللوحات لصيانة المحطة، مضيفًا أنه حتى من لم يستطع المساعدة بالجهد البدني وزّع الماء والقهوة على المساهمين في الحملة.
وغير بعيد عنه، تواجدت مجموعة من الشباب الذين يتداولون دهن الرصيف نظرًا لقلة المواد المتوفرة، من بينهم تلميذ الباكالوريا أمير اللوبيري (18 سنة) الذي أكّد لـ"ألترا تونس" أنّ ما حصل للمشهد السياسي مميّز لذلك أراد الشباب أن يقوم بثورة حقيقيّة وتغيير شامل وكلي يبدأ بالمظهر إلى أن يصل إلى العقول.
اقرأ/ي أيضًا: النفاذ للخدمات وللمعلومة.. هاجس يقيّد ذوي الإعاقة في تونس
هديل القاسمي (شابة تونسية) لـ"ألترا تونس": الأهم من حملات التنظيف اليوم هو حالة الوعي التي يجب أن تطال الجميع كي لا يلوّثوا البيئة
وأضاف أنّ هناك صورة نمطية متداولة لحي التضامن رسمها الناس عنه قائلًا "ليس لنا أهدف من مثل هذه التحركات إلا كسر ذلك الإطار وتغيير الصورة المتداولة عن حي التضامن".
من جهتها، شاطرته صديقته هديل القاسمي الرأي إذ قالت من المؤلم أن يضعنا الناس في قوقعة ويحكموا علينا بمنظارهم. صحيح أن هذا الحي يضمّ أبناء الطبقة الفقيرة أو المتوسطة إلّا أن فيه فئة من الأشخاص تحاول جاهدة في كل يوم أن تصنع مستقبلًا أفضل".
وأضافت أنّ الأهم من حملات التنظيف اليوم هو حالة الوعي التي يجب أن تطال الجميع كي لا يلقوا الفضلات ويلوّثوا البيئة. وختمت حديثها بالقول "خرجنا للتنظيف لأنّنا نريد أن نتغيّر. تونس عزيزة على قلوبنا، ما ينقصها فقط هو المثابرة والشجاعة والوعي".
من الوجوه المعروفة بشغبها في هذه المنطقة سيف الدين الكوكي (عاطل عن العمل) إلّا أنّه اليوم كان مثالًا يحتذى به في النشاط والدفع الإيجابي لكل المجموعات، إذ تراه يتنقل من مجموعة لأخرى إما لتحفيزهم أو ليوزّع عليهم قوارير المياه. وفي تصريح له لـ"ألترا تونس" قال إن حالة الوعي يجب أن تطال رأس السلطة وأن يقع تنظيف المشهد من السياسيين "الموش نظاف". وأكّد محدثنا أنّ التضامن قد ساهم بشكل فعّال في الثورة التونسية وهو من سيقود ثورة الوعي عند متساكنيه، وفق تعبيره.
لم تغب المؤسسات الرسمية عن هذه المناسبة، إذ تواجد عدد من أعضاء المكتب البلدي بالتضامن. وفي حديث "ألترا تونس" مع رئيس بلدية التضامن رضا الشيحي أكد لنا أن البلدية تفاعلت إيجابيًا مع هذه المبادرة الشبابية وأنه فخور جدًا بأن يكون الشباب داعمًا للعمل البلدي ومبتكرًا لمثل هذه المبادرات.
رضا الشيحي (رئيس بلدية التضامن) لـ"ألترا تونس": البلدية لم تكن مستعدة ماليًا لهذ الحملة خاصة مع نهاية العام إلّا أنه سيقع إدراج مثل هذه المبادرات في ميزانية السنوات المقبلة
وأضاف الشيحي أنه اجتمع مع مجموعة من المشاركين في هذه المبادرة ووضع كل معدات البلدية تحت تصرف هؤلاء الشباب سواء على الميدان أو على المستوى اللوجستي، مؤكدًا أن التضامن في "عرس" ويجب التفكير في ديمومة هذه المسألة واستثمار حالة الوعي ودعمها وضمان استمرارها حتى مرة واحدة في الشهر ومع العمل اليومي للبلدية ستصبح مدينة التضامن في حلّة بهيّة، على حدّ تعبيره.
وأكّد رئيس بلدية التضامن أن البلدية لم تكن مستعدة ماليًا لهذ الحملة خاصة مع نهاية العام إلّا أنه سيقع إدراج مثل هذه المبادرات في ميزانية السنوات المقبلة. وختم حديثه قائلًا "إنّ سقف طموح الشباب عال وهو الدافع الأساسي للعمل فكلّما كان هناك ضغط للتحسين والتطوير هناك استجابة من طرفنا حتى تصبح مدينة التضامن نظيفة ومدينة نموذجية ومتميّزة".
اقرأ/ي أيضًا: