مقال رأي
تفجرت إلى العلن مرة أخرى، وأمام قواعد لا تزال متشبثة بكثير من نوستالجيا "الحزب الرباني"، صراعات النهضة الداخلية. حتى خصومها، الذين تمنعهم حساسيتهم المؤدلجة النظر إليها بشكل منهجي موضوعي، يعتقدون أن هذه الصراعات وهمية. عريضة المئة وردّ "الجلود الخشنة" للزعيم، يمثلان حلقة أخرى في مسار لم يبدأ الآن.
كتبت في صيف 2019 سلسلة مقالات حول الأوضاع الداخلية لحركة النهضة، خاصة في سياق إجراء الانتخابات الداخلية لقائماتها للانتخابية التشريعية. ركزت بشكل خاص على المصير الذي ينتظر راشد الغنوشي، رئيس الحركة، على ضوء قراءة نتائج الانتخابات الداخلية. المفاجأة في تلك النتائج كانت فوزًا واضحًا لما أسميته حينها "التيار الإصلاحي" (وهي تسمية أصحابه له) مقابل "خط الشيخ"، بمعنى من تموقع مع توجيهات رئيس الحركة.
سقوط مرشحي الشيخ في الانتخابات الداخلية للتشريعيات السابقة عكس الوضع الهش للرجل داخل حركة يملك نظريًا مفاصلها المالية والتنظيمية إضافة إلى كونه الإحداثية الأساسية في علاقتها بالخارج
سقوط مرشحي الشيخ عكس الوضع الهش للرجل داخل حركة يملك نظريًا مفاصلها المالية والتنظيمية إضافة إلى كونه الإحداثية الأساسية في علاقتها بالخارج، وهو النظير الذي يتحدث إليه قادة ومسؤولي وسفراء الدول عندما يتحدثون إلى الحركة. هو أيضًا المشرف على مسار "التوافق" الذي فكك خصومه، وهو الذي أشرف على فوز الحركة في الانتخابات البلدية.
اقرأ/ي أيضًا: قيادات من النهضة تدعو الغنوشي إلى عدم الترشح لرئاسة جديدة للحزب
كل ذلك لم يمنع تراجع نفوذه. الأمر جلل، وتلك الانتخابات الداخلية أشرت على أمر جلل. وهو ما يفسر مسارعته إلى حذف النتائج و"تعديلها" بتسبيق قيادات نهضوية أقرب إليه، واعتبر الانتخابات الداخلية "استئناسًا" لا غير وهو ما خلف حالة احتقان قوية بقيت ارتداداتها لأشهر، وإن بقي أغلب خصومه في داخل الحركة صامتون ينتظرون اللحظة المناسبة، لم يتمالك آخرون أنفسهم، وأشهرهم "مهندس التنظيم" عبد الحميد الجلاصي، ليسارع بالاستقالة وتوجيه النقد العلني المتواتر للشيخ.
عرفت الأستاذ راشد الغنوشي منذ فترة طويلة نسبيًا. أقدر الرجل شخصيًا وأعتقد عمومًا أنه شخصية محورية داخليًا وإقليمياً تستحق التمعن المعمق وأن انخراطه في الصراع السياسي الراهن ربما أضعف إمكانية تقدير وتقييم مساره بشكل موضوعي وجدي وأنوي في مستقبل ما القيام بذلك من موقع المؤرخ والباحث وليس السياسي.
أشرت الصيف الماضي أنه من الواضح أن راشد الغنوشي يواجه خيارات صعبة في مفترق 2019-2020 وربما الأصعب في سيرة طويلة ومعقدة، إذ دائمًا الأصعب ليس البدايات بل النهايات. أعتقد أن أحد أخطائه أنه راهن، بقوة دفع ربما من بعض المقربين منه، على إمكانية ترشحه للرئاسية سنة 2019 رغم أني أعرف أنه قبل ذلك لم يكن ينوي أصلاً البقاء في تونس وكان يفضل التركيز على اعتزال بعيد عن تونس وعن السياسة في إطار "علمي" أو ديني. أصبحت الأسئلة التي تواجه الرجل في رأيي لا تتعلق بمسائل تفصيلية بل بمسالة أساسية: كيف سيتذكره الناس؟ ومن ثمة كيف سيعتزل وأين سينهي حياته السياسية؟
يبدو أن إصرار الغنوشي على التموقع على رأس السلطة وعلى رأس الحزب مكوّن تفجير لأكثر تنظيم سياسي معاصر في تونس تماسكًا حتى الآن وقوة على الميدان
توقعت أيضًا تركيزه على رئاسة البرلمان كهدف أساسي بعد تلاشي طموحه للترشح للرئاسية وصعوبة القبول به في رئاسة الحكومة. لكن ما لفت انتباهي حينها ولا يزال هي العلاقة المفارقة بين الشيخ وبورقيبة. في كل الحالات لا يمكن تشبيه الغنوشي ببورقيبة، إذ السياق يمنع هيمنته على سلطة الدولة، ولا يُعرف عنه في كتاباته وممارسته السياسية على الأقل ميلاً لذلك، لكن توقعت أنه من المحتمل جدًا أن ينتهي بورقيبياً على مستوى الحزب إذا واصل بذات الطريقة في تدبير الوضع التنظيمي الداخلي، إذ الإصرار على التموقع على رأس السلطة والتموقع على رأس الحزب. يبدو ذلك مكوّن تفجير لأكثر تنظيم سياسي معاصر في تونس تماسكًا حتى الآن وقوة على الميدان سواء اختلفنا معه أو اتفقنا.
اقرأ/ي أيضًا: ديلو: الأيام القادمة صعبة في حركة النهضة
أشرت مرارًا إلى أن القضية الرئيسية للشيخ لم ولن تكون أي أمر آخر باستثناء المؤتمر الحادي عشر وأن قضية منعه من مواصلة الرئاسة هو ما سيكون محددًا لعديد الخطوات والمبادرات وهو محدد خطاب الرجل ونسقه السياسي، إذ يمكن أن تخسر كل شيء وتتجاوز أن بقية دفة الحركة بين يديك، لكن إن خسرت دفة الحركة وبقيت مثلاً في الدولة فلا ضامن للبقاء فيها. الضامن هو دفة الحركة، أو هكذا يفهم الشيخ توازناته.
ساهمت عوامل من خارج الحركة مثل صراعات تشكيل الحكومة وجائحة كوفيد 19 في توفير الظروف الملائمة لتأجيل مؤتمر النهضة، بيد أن ترك التاريخ دون أجل محدد، وعدم اختيار تاريخ واضح له، رغم أن أحد مجالس الشورى الأخيرة حدد الفترة بنهاية العام، كلها عوامل تشير إلى أن مؤتمر النهضة لن يُعقد، على الأقل بالنسبة للشيخ، وهو "آمر الصرف" (يستوجب مؤتمر حزب كبير مثل النهضة بانتخاباته القاعدية وتحضيراته المادية ربما أكثر من مليار من مليماتنا)، إلا إذا حصلت الترتيبات التي تجعله يواصل الإمساك بالدفة. وهذا يعني اما ورقة "التمديد" او ورقة سميتها سابقا بخيار "ميدفيديف-بوتين"، اي بقاء الامر والنهي بيد الشيخ لكن في موقع اخر ليس رئاسة الحركة. عبارة "المؤتمر سيد نفسه" التي يتمسك بها مناصرو الشيخ تعني توفير الترتيبات لتعديل النظام الداخلي في هذا الاتجاه.
عوامل عدة تشير إلى أن مؤتمر النهضة لن يُعقد، على الأقل بالنسبة للشيخ، وهو "آمر الصرف" إلا إذا حصلت الترتيبات التي تجعله يواصل الإمساك بالدفة
من الواضح أن المعارك في البلاد خاصة محاولة سحب الثقة من الغنوشي في رئاسة البرلمان كلها ساعدته على تأجيل معارك الداخل وتوفير حزام تعاطف قوي لقواعد الحركة فرض حتى على خصومه في الداخل مساندته وتأجيل الهجوم. وهو لن يتوقف عن توظيف معارك الخارج في تعديل نسق هجمات الداخل. الأمر الآخر أن "جبهة خصومه" ليست متماسكة بشكل كبير، إذ فيها من لا يزال متحسساً من أي ظهور علني لخلافات "الجماعة"، إذ التحول الأهم في مسار النهضة والذي لم ينضج بعد هو تحولها من "الجماعة" إلى "الحزب"، مثلما هو تحوّل الغنوشي من "الشيخ" إلى "الرئيس" لم ينضج بعد.
النهضة الآن ليست نهضة التأسيس العقدي أيام "الجماعة الإسلامية"، وليست نهضة الصعود "الثوري-الطهوري" أيام "الاتجاه الإسلامي" والعمل السري، وهي ليست نهضة "المحنة" والسجون والمنافي. في هذه المراحل الثلاث الكبرى بقيت النهضة تحتاج لحظة "الجماعة" والأمان الذي يمنحها إياه وجود القائد "الشيخ" الواحد.
خلال كل تلك الفترة كانت بعض الرموز تمثل إحداثيات ثابتة ومنهما الشيخين صالح بن عبد الله والشيخ العكروت، لكن ما ورد في شأنهما في رسالة "الجلود الخشنة" يوحي أننا في زمن آخر. الآن نحن إزاء نهضة عاشت الحكم وشبكة مصالح تتجاوزها وتؤثر فيها وحسابات إقليمية معقدة. المؤتمر 11 سيجيب على كل حال إن كانت النهضة ستبقى بذات القدرة على لملمة الخلافات منذ أربعين عامًا، أم دخلت مسارًا جديدًا.
اقرأ/ي أيضًا:
كيف تحوّلت "حكومة الرئيس" إلى حكومة تدعمها النهضة وقلب تونس؟
حوار|عبد اللطيف المكي: لا يمكن عزل النهضة وهكذا نُقاوم موجة ثانية من كورونا