"الدولة راعية للدين، كافلة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية، ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي"، هي ليست مجرّد عبارات منمّقة في خطاب سياسي حالم أو متحمّس، تمثل هذه الجملة البسيطة في مفرداتها والعميقة في ما تحمله من معان، الفصل السادس من دستور الجمهورية التونسية الثانية، الذي استغرقت كتابته سنوات وخطّت حروفه دماء شهداء وجرحى ضحوا بحياتهم من أجل دستور أضحى إنجازًا يفتخر به التونسيون في العالم ويُفترض أنه يمثل السلطة القانونية في البلاد.
إلا أن المسافة بين نصّ الدستور وتطبيقه على أرض الواقع لا تزال شاسعة، فالعديد من فصوله تنتظر الانتقال من النظري إلى الملموس خصوصًا تلك المتعلّقة بالمساواة بين المرأة والرجل والحريات الفردية بما فيها حرية الضمير التي تعود إلى الواجهة في المناسبات الدينية وبشكل خاص خلال شهر رمضان.
اقرأ/ي أيضًا: غلق المقاهي في نهار رمضان: بين حرية الضمير ونواميس المجتمع ومنشور "غير دستوري"
حتى أن جدل غلق المقاهي والمطاعم خلال النهار في شهر رمضان والتجاهر بالإفطار بات خلال السنوات الأخيرة تقليدًا تونسيًا سنويًا تستنفر من أجله القنوات التلفزية والإذاعية ومختلف المصادح الإعلامية بطريقة غالبًا ما تفتقد إلى الموضوعية والنقاش السليم البناء وإلى احترام مدنية الدولة، مدنية يتنساها العديدون في تبريرهم لرفض فتح المقاهي والمطاعم خلال هذا الشهر.
ولئن طغى هذا الجدل السطحي على المشهد، كثيرًا ما يغيب جوهر الموضوع عن النقاشات وتُقبر مسألة الحريات الفردية والشخصية في إطار الدولة المدنية والدستور، مقابل بروز الجدل العقيم حول "الحلال والحرام"، لتضيع بذلك حقوق أفراد اختاروا الاختلاف سبيلًا وخيّروا لسبب أو لآخر الإفطار في شهر رمضان، لكنهم وجدوا أنفسهم إزاء مضايقات وصعوبات.
أمينة (تونسية لا تصوم) لـ"ألترا تونس": المسألة أعمق بكثير من الأكل والشرب بل و"أكبر حتى من شهر رمضان"
وفي هذا السياق، يقول طارق (اسم مستعار لشاب لا يصوم في رمضان) لـ"ألترا تونس" إنه لا يستطيع أن يتناول طعامه في العمل فهو لا يجد مكانًا للأكل أو لشرب القهوة، مشيرًا إلى أنه في البلدة التي يقطن فيها لم تعد المقاهي تفتح خلال النهار في شهر رمضان منذ 2011 الأمر الذي يدفعه إلى التوجه إلى مناطق سياحية ليجد مكانًا يمكنه أن "ينتعش" فيه قليلًا.
في المقابل، تؤكد أمينة (اسم مستعار) لـ"ألترا تونس" أن "المسألة أعمق بكثير من الأكل والشرب بل وأكبر حتى من شهر رمضان"، مبينة أن المسألة تتعلّق بقناع يتعيّن على كلّ من اختار أن يكون مختلفًا أن يضعه يوميًا كي لا يتعرّض للمضايقات. وأضافت "أنت لا تعتقد أنك تقوم بأمر خاطئ ولكنك مجبر على الاختباء لا بدافع الاحترام بل لأنك مجبر على ذلك"، موضحة أن المسألة مبدئية تتعلق بالشعور بكونها غريبة في وطنها ومجبرة على القيام بأمور وهي مكرهة على ذلك.
اقرأ/ي أيضًا: ائتلاف مدني يدعو للتصدي لانتهاك الحقوق والحريات خلال شهر رمضان
وفي سياق متصل، يبيّن بدر، وهو تونسي مسيحي، في حديثه لـ"ألترا تونس"، أن المشكل أنه خلال رمضان يضطر المسيحيون التونسيون إلى العيش وفق نسق لا يشبه نسقهم ويجدون صعوبات كي يعثروا على مكان يأكلون فيه بل يجدون حتى صعوبات لممارسة حياتهم بشكل طبيعي.
ويضيف محدثنا أنه "على الرغم من أن تونس دولة مدنية يستحيل العيش خلال شهر رمضان كأنها بلد إسلامي"، مبرزًا أنه يتعرض لبعض المضايقات في مقاهي "المفطرين" الذين يرون أنه يرتدي الصليب ومؤكدًا أن هذه المضايقات يعاني منها المسيحيون على مدار السنة ولكنها تكثر في رمضان. ويشير في هذا الإطار إلى أن مجرد وضع صورة له ولأصدقائه وهم يتناولون الطعام أو لتظاهرة في الكنيسة يوجد بها طعام يجعله عرضة لكمية كبيرة من الشتم واللعن والتخوين.
بدر (مسيحي تونسي) لـ"ألترا تونس": على الرغم من أن تونس دولة مدنية يستحيل العيش خلال شهر رمضان
ولئن كان التضييق على المفطرين ومنعهم من الإجهار بخيارهم عدم الصيام ممارسة يقدم عليها عديد التونسيين ويصعب تغييرها بسرعة، فإن الحاجة إلى تطبيق الدستور والقانون باتت حاجة ملحّة كي يتمكن كلّ فرد من ممارسة معتقداته أو عدم ممارستها دون أن يتدخل في ذلك أي طرف سواء كان ممثلًا عن المجتمع أو عن الدولة التي مازالت سلطتها التنفيذية تعتمد على ما يُعرف بـ"مرسوم جويلية 1981" أو "مرسوم مزالي".
مرسوم دعت منظمات حقوقية في أكثر من مناسبة إلى إيقاف العمل به لعلّ آخرها الرسالة المفتوحة التي وجهها الائتلاف المدني للدفاع عن الحريات الفردية يوم 3 ماي/ أيار 2019، إلى الرؤساء الثلاث ووزيري الداخلية والعدل من أجل "التصدي إلى أي محاولة لانتهاك حقوق وحريات الأفراد خلال شهر رمضان" مدينًا " القراءة الضيقة والانتقائية والمحافظة للدستور" في هذا الجانب.
وأعرب عن قلقه إزاء الطريقة التي تعالج بها السلطات مسألة الحريات مدينًا مواقفها "التي لا يعتبرها الائتلاف السبب فقط بل التغطية التي تخفي انتشار العنف وخطاب الكراهية ووسيلة لإذكاء التطرف وتعزيز الإرهاب".
ولعلّ ما يزيد الأمور تعقيدًا، هذا العام على الأقل، هو أن تونس تعيش سنة انتخابية بامتياز تكثر فيها الحسابات السياسوية الضيقة ويصبح التقرّب من الجماهير غاية جلّ الأحزاب السياسية، سواء تلك المعارضة أو الموجودة في الحكم، الأمر الذي سيغيّب مسألة الحريات الفردية في دهاليز المصالح الشخصية والسياسية ويدفعها نحو الهامش.
اقرأ/ي أيضًا: