20-مايو-2022
معهد أ.ف.ب

محاولة لتفكيك أسباب عزوف التلاميذ عن موكب تحية العلم في المعاهد التونسية (أ.ف.ب)

 

تمام الساعة الثامنة صباحًا أمام أحد المعاهد الثانوية بجهة باردو بالعاصمة تونس، أغلب التلاميذ في جمهرة غفيرة، يتحدثون ويقهقهون ويدخنون ويتزاحمون داخل الكافيتريات المنتشرة في الرحاب. تبدو البوابة المهيبة المخصصة للدخول مغلقة. تتناهى إلى مسامعنا بعض المقاطع الصوتية من النشيد الوطني التونسي "حماة الحمى يا حماة الحمى، نموت نموت ويحيا الوطن.. فلا عاش في تونس من خانها...". سألت أحد التلاميذ: "لماذا لم تدخلوا إلى حدّ اللحظة؟" فردّ ببساطة "نحن ننتظر انتهاء تحية العلم حتى ندخل للدراسة"، فأضفت سؤالًا آخر "ولمَ لا تشاركون في تحية العلم" فرد ببساطة أشدّ "نحن نحب الوطن ولا نحب تحية العلم"، وفق تعبيره.

بات موكب "تحية العلم" في المعاهد التونسية يشهد خلال السنوات الأخيرة عزوفًا حدّ النفور من التلاميذ الذين صاروا يُدفعون دفعًا لحضوره خشية التعرض لعقوباتٍ لا غير

وفي رواية أخرى متعلقة بموكب تحية العلم أكد أحد أولياء الأمور لـ"الترا تونس" أنه حضر في أحد الصباحات لدى إدارة المعهد الذي تدرس به ابنته لقضاء شأن إداري وشاهد كيف أن مدير المعهد يدفع التلاميذ دفعًا نحو موكب تحية العلم وهم يتمنعون ويناقشون الأمر حتى أن صوته علا ولوّح بإمكانية تسليط عقوبة عليهم.

وأضاف أن رفع الراية الوطنية في تلك اللحظة لم يحضره سوى نزر قليل من المربين في حين أن البقية يتجولون داخل الإدارة لا مبالين فبدا الموكب فاترًا ولا يعبر عن أهدافه، حسب تقديره.

كل هذا يدفعنا للتساؤل "لماذا يعزف تلاميذ المعاهد التونسية عن تحية علم الوطن؟". "الترا تونس" حاول الإجابة عن هذا السؤال عبر التقرير التالي:

  • تلاميذ: نحن نحب الوطن لكن "تحية العلم" لا تستهوينا

التلميذ "إياد الأطرش"، وهو تلميذ بالبكالوريا ويدرس بأحد معاهد العاصمة، فسّر عدم التزامه بتحية العلم بأن المعهد الذي يدرس به لا يحسن تنظيم هذا الحدث الصباحي المهيب، مشيرًا إلى أن "أغلب العاملين من أساتذة وقيمين وإداريين لا يحضرون التحية فباستثناء المدير وبعض العملة، كما يتم اقتياد التلاميذ عنوة فترى وجوههم حزينة عبوسة كمن يقاد إلى منصة الإعدام"، وفق توصيفه.

ومن جهتها، قالت التلميذة "تقوى العايدي"، لـ"الترا تونس"، إنها تكره تحية العلم كرهًا شديدًا وتنفر منها لأنها تعرضت منذ ثلاث سنوات خلت إلى عقوبة الرفت لمدة ثلاثة أيام من قبل مدير المدرسة الإعدادية التي كانت تدرس بها لأنها تخلفت عن الحضور، مع قسمها، بسبب المرض وقد حاول والدها تبرير ذلك للمدير إلا أنه أصر على عقابها قائلًا "لا تراجع مع مسألة تهم الوطن والوطنية"، معتبرة أنه قد "تعسّف في حقها".

عبد الرحمان بوعلي (تلميذ) لـ"الترا تونس": زراعة الحس الوطني لدى الناشئة عن طريق رفع العلم يوميًا في ساحات المدارس غير مجدية.. وأقترح تنظيم استشارة وطنية تلمذية حول تحية العلم والطريقة التي تقدم بها

ومن جانبه، تساءل "عبد الرحمان بوعلي"، وهو تلميذ بالبكالوريا بأحد معاهد تونس، عن جدوى تحية العلم اليوم، مشيرًا إلى أن زراعة الحس الوطني لدى الناشئة عن طريق رفع العلم يوميًا في ساحات المدارس غير مجدية، معتبرًا أنه لا بدّ من اتخاذ أشكال أخرى مختلفة لزراعة الحس الوطني غير تلك التي تقدم بها الآن، وطالب باستشارة وطنية تلمذية تهم تحية العلم وبالخصوص الطريقة التي تقدم بها، حسب تصوره.

بدوره، قال تلميذ العلوم التقنية "فراس ونيّس" الذي يدرس بأحد مدارس العاصمة إنه ينفر من تحية العلم مذ كان بالتعليم الابتدائي لأنها بالنسبة إليه تمثل "مشهدًا روتينيًا فاقد الروح يتكرر يوميًا داخل المدارس التونسية دون أدنى مراعاة واحترام  للراية الوطنية والنشيد الوطني وللتلميذ نفسه الذي يتم اقتياده من الباب الخارجي، مسلوب الإرادة والرأي فيوضع في وسط الساحة ويتحلّق حوله عدد قليل من الأساتذة والمربين ويظلون جميعهم شاخصين طيلة التحية فيشعر التلميذ وكأنه على خشبة المسرح لكنه فاقد للنص والدور، وهو ما يسبب له حالة من الانزعاج النفسي، وفق قوله، لذلك فهو ينتظر انتهاء تحية العلم حتى يدخل المعهد.

فراس ونيس (تلميذ) لـ"الترا تونس": تحية العلم مشهد روتيني يتكرر يوميًا بلا روح أو احترام لإرادة التلميذ الذي يتم اقتياده عنوة للمشاركة فيها

هذه الآراء التلمذية المختلفة والتي تحملهم على العزوف والتمنع عن الوقوف أمام راية الوطن داخل مدارسهم لا بدّ لها من قراءة وهو ما جعلنا نتوجه إلى المختصين الذين قدموا بعض التفسيرات:

  • مدير أحد المعاهد الثانوية: أقترح أن تكون تحية العلم مرة مع مفتتح كل أسبوع

مدير أحد معاهد العاصمة، وقد خير عدم ذكر اسمه تفاديًا للإحراج مع إدارته، ذكر أن موضوع  تحية العلم هو من المواضيع التربوية الحارقة، مشيرًا إلى أنه "قبل الثورة كانت تحية العلم مرتبطة بالسياسة فالجميع يحضر خوفًا من الوشاية إلى شُعَب الحزب الحاكم والتتبع الإداري وبطش المديرين وكانت المسألة منظمة بالنسبة للتلاميذ حسب مناشير ومذكرات عمل، إذ يتم إعداد رُوزنامة أسبوعية خاصة بالأقسام بمقتضاها يحضر كل يوم قسم مع أستاذه ويقوم تلميذ نجيب من القسم برفع الراية الوطنية تحت إشراف المدير والناظر والقيم العام، وبقية الأقسام تصطف أمام القاعات بحضور أساتذتهم وقيّم الرواق وفي ظرف وجيز ينتهي كل شيء. لكن ما حدث بعد الثورة هو ما يشبه الانتفاضة على تلك الصرامة التي كانت تحيط بنشاط تحية العلم الوطني فلم يعد الأساتذة والمربون يحضرون بالكثافة المعهودة وأصبح التلاميذ يتهربون منها ويتعمدون عدم حضورها والبقاء خارج المعهد حتى تنتهي وهو ما يدفع أحيانًا إلى استعمال أدوات زجرية وتسليط العقوبات التربوية المعروفة على المخالفين والفارين من حضور تحية العلم.

أحد مديري المعاهد الثانوية لـ"الترا تونس": من الأجدى على وزارة التربية إعادة تكييف مسألة تحية العلم والتعامل معها بأكثر مرونة كأن تجعلها في بداية كلّ أسبوع فقط 

وأوضح مدير المعهد الثانوي أنه كان من الأجدى أن تذهب وزارة التربية التونسية إلى طرح هذا الموضوع للنقاش وإعادة تكييفه تربويًا وأن تتعامل معه بأكثر مرونة كأن تجعل تحية العلم في بداية كل أسبوع فقط، ويشارك فيها جميع تلاميذ المعهد ولمَ لا يشارك فيها الأولياء والمجتمع المدني المحلي، حسب رأيه.

  • علوم التربية: فكرة الانتماء نسفت والبشرية تتهيأ إلى مجتمعات ما بعد الدولة 

الأستاذ والباحث في علوم التربية وفلسفة التربية بالمعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس"عماد العباسي" ربط تحية العلم التي تنتظم بالمدارس التونسية يوميًا بفكرة الانتماء إلى المجموعة والرقعة الجغرافية وهو ما يعرف في الصورة البدائية الأولى بطوطم القبيلة وأن مصدر ذلك الالتزام هو الخوف من الآخر وهدفه الأسمى هو الحفاظ على البقاء.

وأضاف العباسي أنه إذا ما تأملنا مشهدية تحية العلم نجد أنها طقس مخصوص يسعى إلى تجذير شعور الاحترام لدى الأفراد وضمان استمرارية تلك الوحدة حول الاستقلال والتمايز المشحون بفكرة الفداء، فالنشيد الوطني التونسي يرسّخ ببلاغة الشعر ذروة التضحية عند قول "نموت نموت ويحيا الوطن " ويوميًا يتم ترسيخها في المدارس عبر حناجر الأطفال واليافعين والشباب.

عماد العباسي (باحث في علوم التربية):  تحية العلم هي طقس مخصوص يسعى إلى تجذير شعور الاحترام لدى الأفراد وضمان استمرارية تلك الوحدة حول الاستقلال والتمايز المشحون بفكرة الفداء

وأوضح المختص في فلسفة التربية أن تحية العلم تقام يوميًا في معبد القِيم وهو المدرسة كمؤسسة مجتمعية عليا وهي تحرص في جوهرها على تكريس قيم الوطنية التي تقوم على فكرتين أساسيتين هما الهوية والانتماء.

وبين الأستاذ عماد العباسي أن العزوف عن تحية العلم هي ظاهرة سارية في المجتمع التربوي ككل وعلى وجه الخصوص نجدها متفشية في الوسط التلمذي وهو ما يوحي بأن فكرة الانتماء التي تقوم عليها قيم الوطنية قد نسفت، فالعالم يتهيأ إلى مجتمعات ما بعد الدولة والذهاب الى الفردانية أو التيه الاختياري في الانتماء كتقديس الجمعيات الرياضية والانتماء لـ"الحومة" أكثر من الانتماء للوطن أو الانتماء للتطرف أو خلق وطن افتراضي، حسب رأيه.

وأشار محدثنا إلى أن التلميذ التونسي يعيش اليوم في زمن التشظي والتفكيك، زمن الكل من أجل الذات، زمن فقدت فيه الدولة الأهداف الكبرى فلا يراها الشباب إلا في عصا البوليس و "قطّع الكامبي جات"، زمن "أوموي" و"نصنع روحي" و"نتصرف وما علباليش بيه"، زمن "نهار الأحد ما يهمك في حد"، زمن "الكراكاج والدّخلة"... لذلك يعزفون عن تحية العلم.

  • الفلسفة: نحن إزاء حالة صراع القيم التي تنبثق من عدم التوافق بين الأفراد

من جهته، أكّد الدكتور "كريم الطرابلسي" أستاذ الفلسفة بالجامعة التونسية أنه إذا ما رمنا قراءة عزوف تلاميذ المعاهد الثانوية التونسية عن تحية العلم فإننا نجد أنفسنا إزاء نشأة حالة مجتمعية جديدة تتأتى من المدرسة وهي ما تسميه الفلسفة بصراع القيم الذي ينبثق من عدم التوافق بين الأفراد نتيجة حالة الجهل بطبيعة عدم التوافق نفسه.

كريم الطرابلسي (أستاذ فلسفة): التلميذ التونسي مازال يربى على قيم ثابتة في حين أن جزءًا منها أصبح من المتغيرات مثل قيم المغالاة في الوطنية التي تكرسها تحية العلم، في حين أننا إزاء قيم إنسانية كونية

وأضاف الدكتور الطرابلسي أن الفيلسوف وعالم الاجتماع "ماكس فيبير"، سنة 1919، كان أول من خرج بالصراع من المستوى المادي إلى مستوى القيم في واقع جديد تحكمه عقلنة السلوكيات وهو ما يجعلنا ندقق النظر من جديد  في بنية العلاقات الاجتماعية ونظامها الداخلي ونظام رموزها العاطفية والوطنية، إذ أصبح صراع الأفكار يؤثر بشكل مباشر في جملة القيم المشتركة وفي ما يسميه "بيير بورديو" بـ"رأس المال الرمزي"، فالتلميذ التونسي مازال يربى على قيم ثابتة في حين أن جزءًا منها أصبح من المتغيرات مثل قيم المغالاة في الوطنية التي تكرسها تحية العلم، في حين أننا إزاء قيم إنسانية كونية.

صورة
عزوف التلاميذ عن تحية العلم بأحد معاهد تونس (رمزي العياري/ الترا تونس)

 

  • علم النفس: لا لوم على التلميذ مادام هناك تقاعس من العائلة والإعلام

ومن جهته، اعتبر المختص في علم النفس والباحث بالجامعة التونسية الأستاذ "نوفل بوصرة "، في تصريح لـ"الترا تونس"، أن التلميذ التونسي في مختلف المراحل يجبر على تحية العلم من أجل غرس مفهوم الوطنية وحب الوطن داخله وتكليف المدرسة بذلك والحال أن الكل مسؤول عن ذلك: العائلة التي تذم الوطن أمام أبنائها فكيف لهم حضور تحية العلم؟، والإعلام الذي يقدم سياسيين ومحللين اقتصاديين يحبطون المتفرج بما في ذلك التلاميذ فكيف لهم احترام الراية الوطنية وتقديسها؟".

وأشار الأستاذ بوصرة إلى أن التلميذ التونسي يأتي من منابت أخرى للقيم داخل المجتمع ولا لوم عليه إن كانت المؤسسة التربوية لا تنهض بدورها التربوي وإن كانت لا تأبه بسلوكها التأطيري للأجيال القادمة، حسب رأيه.