21-أبريل-2019

ترتبط "دخلة الباك سبور" بالقضايا المطروحة في الواقع السياسي والاجتماعي

 

 

لافتة ضخمة من قماش أسدلت في الأيام الأخيرة من أعلى بناية "معهد طريق قابس بمدنين" وقد رسم عليها بألوان يطغى عليها الأسود والأزرق الرمادي وجهيْ رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي ورئيس حركة النهضة راشد الغنوشي مرفقة بجملة "في صناديق محترمة وُضعت أسماؤهم، وفي صناديق رديئة قُتل مستقبلنا".

هي لافتة "دخلة الباك سبور" في المعهد الثانوي المذكور، و"الدخلة" هي احتفالية تلمذية تسبق أو تلحق امتحانات التربية البدنية في مناظرة الباكالوريا كل عام. لاقت هذه اللافتة رواجًا على شبكات التواصل الاجتماعي واعتبرها النشطاء اللافتة الأجمل والأعمق لارتباطها بقضية هزّت الرأي العام التونسي في الآونة الأخيرة وهي فاجعة الرابطة التي أودت بحياة 15 رضيعًا بمستشفى وسيلة بورقيبة بتونس العاصمة.  

أصبحت "دخلة الباك سبور" في السنوات التي تلت الثورة تقليدًا فنيًا وفعالية ثقافية في المعاهد الثانوية التونسية يحتفي فيها التلميذ بعيدًا عن إلزامات القوانين المنظمة للحياة المدرسية

اقرأ/ي أيضًا: تلاميذ "بكالوريا تونس".. بين صدام وإيلان والنازية

أصبحت "دخلة الباك سبور" في السنوات التي تلت الثورة تقليدًا فنيًا وفعالية ثقافية في المعاهد الثانوية التونسية يحتفي فيها التلميذ بنفسه وبطريقته بعيدًا عن إلزامات القوانين المنظمة للحياة المدرسية. فيكسر حاجز المنع الإداري ويتخطى الرسميات التي تنص عليها التراتيب المدرسية بالرقص ورسم اللوحات التي عادة ما تتضمن شعارات ونصوص ومقولات وأشعار في علاقة بالواقع بأبعاده المتعددة مع الغناء والعزف وقرع الطبول وقذف الشماريخ في الهواء ووضع أقنعة تنكرية.

يصنع التلاميذ، وفي لمح البصر، لوحات مشهدية شديدة الغرابة وبشيفرات فنية وثقافية معقدة فتتمسرح ساحات المعاهد لساعات متتالية وبدون توقف، وأحيانًا تسيل هذه الفعالية إلى محيط المدرسة وكأنّ التلميذ يقول للمجتمع "ما دمتم لا تستمعون إليّ ها أنا ذا موجود بطريقتي!".

يوجد نقاش غير مرئي حول "الدّخلة" داخل المجتمع لم يُحسم بعد، بين كلاسيكيي المدرسة التونسية ممن يعتبرون هذا الحفل التلمذي هو نوع من الشغب والهذيان نتيجة انهيار القيم وشكل من أشكال الفساد الذوقي والأخلاقي من جهة، ودعاة الانفتاح ممن يعتبرون أن المدرسة هي مؤسسة مجتمعية تتفاعل مع محيطها وليست بمعزل عنه وما "الدخلة" إلا إفرازًا بسيكوثقافي تقوم به شريحة الشباب للتعبير عن كينونتها، من جهة أخرى.

يصنع التلاميذ لوحات مشهدية شديدة الغرابة وبشيفرات فنية وثقافية معقدة فتتمسرح ساحات المعاهد لساعات متتالية دون توقف

سجّلت "دخلات 2019" بمختلف المعاهد الثانوية التونسية العديد من المواقف والرسائل بين التصريح والتلميح. ففي "دخلة" معهد حمام سوسة، رُفع علم المثليين كدعم من التلاميذ لهذه الأقلية وهو ما أيده البعض واستقبحه البعض الآخر داخل المعهد المذكور فحصل تلاسن وتشابك أدى إلى تمزيق العلم من قبل بعض التلاميذ والإطار التربوي. أثارت هذه الحادثة جدلًا في مواقع التواصل الاجتماعي ما أدى بجمعية "شمس"، التي تهتم بالأقليات الجنسية في تونس، إلى إصدار بيان تنديد واستهجان لحادثة تمزيق العلم معتبرة أن ما حدث هو مس بالحريات الفردية التي يضمنها دستور البلاد التونسية.

فيما اختار تلامذة المعهد النموذجي بقفصة جعل احتفالية "الدخلة" مساحة لتكريم الأساتذة والأولياء معًا فرأبوا بذلك الصدع بعد الأزمة العلائقية في الآونة الأخيرة بين نقابة التعليم الثانوي والأولياء. من جهتهم، اختار تلامذة "معهد الطاهر الحداد" ببوحجلة من ولاية القيروان شعارًا وًصف بالعميق والقاسي وهو "لا أعرف من باع الوطن.. لكن أعرف من دفع الثمن".

"دخلة" معهد الطاهر الحداد في بوحجلة من ولاية القيروان

تمثل " الدخلات" التي ينشغل بها آلاف التلاميذ بتونس أصوات منشقّة عن السائد الثقافي والسياسي داخل المجتمع، أصوات تأتي من القاع المجتمعي الرافض للرسمي لتصنع لغتها وتيماتها ضمن مشهديات وجماليات تطغى عليها الأهازيج و "الفوضى الخلاقة".

"ألترا تونس" حاول فهم هذه الظاهرة المستجدة في تونس بلقائه صناع "الدخلة" والمتقاطعين معها والمختصين.

التلاميذ: افتككنا ساعات من السنة الدراسية حتى نعبر بكل حرية

تنقلنا لـ"معهد خزندار" بضاحية باردو بالعاصمة لنلتقي بعض تلاميذ الباكالوريا الذين أكدوا أن "الدخلة" هي فضاء للتعبير عن التلميذ الذي لا يسمع صوته داخل المعهد ولا يقع إشراكه أبدًا في أخذ القرارات التي تهمه قائلين: "نحن افتككنا بعض الساعات من السنة الدراسية حتى نعبر بكل حرية عما نراه صائبًا من وجه نظرنا".

وربط التلاميذ مشهديات "الدخلة" بما يحدث في الملاعب بين الجماهير المتنافسة موضحين أنه داخل "الدخلة" الوحيدة تتنافس الاختصاصات وتتضامن وتحدث "ائتلافات بين الشُعب". وأوضح تلاميذ المعهد لـ"ألترا تونس" أن التخطيط لهذا الحدث الموسمي يبدأ منذ أشهر بانطلاق عمليات جمع التبرعات من كافة التلاميذ ومن محيط المدرسة ومن الأساتذة أنفسهم وخاصة أولئك المتحمسين لهذا الحدث مبيّنين أنهم يقومون أحيانًا باستشارة أساتذتهم.

يبدأ التخطيط لـ"الدخلة" سنويًا بحملة لجمع التبرعات مع إمكانية التداين في حالة عدم كفاية المال وثم يكون المرور لمرحلة اختيار المواضيع

ويقولون إنهم يضطرون للتداين في صورة عدم كفاية المال بالحاجة، ثم يشرعون في الجلوس فيما بينهم لاختيار الشعارات والصور والألوان ومناقشتها مع الحرص على أن تكون هذه الشعارات حمالة رسائل للمربين وللتلاميذ وللمجتمع، وأن تكون لائقة بـ"معهد خزندار" العريق الذي بدأ في إرساء تقاليد في هذا الموضوع ينتظرها المتابعون لهذه الممارسات الثقافية الجديدة.

وأشار تلامذة المعهد أنهم يسعون كي تكون الشعارات المرفوعة والصور المرسومة في مستوى الأحداث الوطنية وخاصة تلك التي تشغل التونسيين وتمس من أمنهم وسلمهم، وفق تعبيرهم.

محمد الماجري (مدير معهد ثانوي): لا شيء يحول دون رغبة الشباب المدرسي في التعبير  

التقينا أيضًا محمد الماجري، وهو مدير معهد ثانوي بالسيجومي، في الضاحية الغربية للعاصمة، فأوضح أن مُا تُعرف بظاهرة "الدخلة" أصبحت تقليدًا راسخًا اكتسبت شرعيتها من إصرار غياب المدرسين والمربين عمومًا عن هذا الحدث التلمذي الصرف إذ مازالوا يعتقدون أن لا شيء يحدث داخل المدرسة من دون مبادراتهم وما على التلميذ إلا التنفيذ متناسين، على حد تعبيره، أن التلميذ هو محور العملية التربوية وفق القانون التوجيهي المنظم للحياة المدرسية.

محمد الماجري (مدير معهد ثانوي): ما المانع أن تكون مؤسساتنا التربوية مجالًا يعكس التطلعات والأماني؟ فقد خُلق تلامذتنا لزمان غير زماننا

اقرأ/ي أيضًا: التعليم في خطر: ثقافة "الموازي المدرسي" تهدد المدرسة التونسية

ودعا مدير المعهد الثانوي، في حديثه لـ"ألترا تونس"، إلى تأطير التلاميذ ومرافقتهم ومساعدتهم دون المس بعفوية مبادرتهم مشيرًا إلى أن المسألة تتطلب المزيد من النظر والتحليل الرصين العميق وفق قوله. وأضاف قائلًا: "الشباب المدرسي يبرهن في كل مرة أن لا شيء يحول دون رغبته في التعبير عن انفعالاته وميولاته وهواجسه التي يختارها بالطريقة والِأشكال التي يحددها وهي إجمالا وسائل وأدوات تعبر عن تمرد عن السائد".

وأوضح الماجري أنه لا ضير أن تحدث "الدخلة" طالما لا تحيد عن أهدافها معلقًا بالقول: "ما المانع أن تكون مؤسساتنا التربوية مجالًا يعكس التطلعات والأماني وهو لعمري جوهر عمل المدرسة، وليس مهمًا أن تكون منسجمة ومتطابقة مع ما نرى نحن الكبار وما نأمل فقد خُلق تلامذتنا لزمان غير زماننا".

وختم مدير محمد السيجومي، حديثه معنا، مشيرًا إلى تعدد أنواع "الدخلات" وأشكالها خلال إشرافه على إدارة المعهد الثانوي وهو ما يعتبره برهانًا على تطور ملكة الإبداع والقدرة على التنظيم وعلى تملك المجال من قبل التلاميذ أنفسهم.

آمال الدريدي (أستاذة علم الاجتماع): "الدخلة" تكشف الوعي بالحرية لدى الشباب التلمذي

توجه "ألترا تونس" حاملًا هذه المواقف والأراء حول "الدخلة" لأستاذة علم الاجتماع بالمعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس آمال الدريدي التي بينت، في منطلق حديثها، أن "الدخلة " هو مصطلح مستلهم من "ثقافة الألترا" المتفشية منذ سنوات في عالم الرياضة وتحديدًا في رياضة كرة القدم مؤكدة أن الشباب التونسي الذي يذهب للملاعب أغلبه من التلاميذ ولذلك تتشابه وتتطابق من دخلات الملاعب ودخلات المعاهد وفق تأكيدها.

آمال الدريدي (أستاذة علم الاجتماع): تبيّن "الدخلات" أن الشباب التلمذي على الطريق الواثقة في نحت كيانه في انتظار حياة جامعية سليمة 

وأضافت محدثتنا أن المتأمل لمحتوى "الدخلات" من شمال البلاد إلى جنوبها ينتبه لتطورها من سنة إلى أخرى في مستويين إثنين: الأول مستوى جمالي وخاصة اللافتات الضخمة المنجزة من قبل التلاميذ وقدرتهم على ممارسة الرسم والانسجام بين اللوحات المؤثثة للحدث من رقص ومسرح وعزف، والثاني مستوى فكري حضاري من خلال ما تبيّنه من امتلاك التلميذ التونسي لوعي سياسي وثقافي وحضاري على خلاف ما يُروّج في الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي.

وفي هذا الجانب، تقول آمال الدريدي إنه يمكن تلمّس مضي الشباب التلمذي على الطريق الواثقة في نحت كيانه في انتظار حياة جامعية سليمة بملاحظة حضور القضية الفلسطينية في "الدخلات" إضافة لمسائل تتعلق بقضايا محلية مثل التلوث البيئي بقابس عدا عن رفع صور شعراء وزعماء وطنيين مثل محمود درويش ومحمد الصغير أولاد أحمد والرئيس الراحل الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف.

تبقى "الدخلة" في حد ذاتها شكلًا من أشكال التعابير الجديدة التي يستعملها التلميذ التونسي ليخاتل بها كل الأنساق الرسمية من أجل إعلاء صوته، فيجلب أداته القوية من الملاعب إلى عالم المدرسة متحديًا القوانين والتراتيب المدرسية لينشئ نصّه الإبداعي بكثير من العفوية والجرأة والتحدي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"الفوسكة".. تنخر الجسد التعليمي وصفّارات الإنذار لم تدوّ بعد

لعبة "البلانات".. الإدمان الخفيّ من أجل الربح السريع