روى لي أحد الأساتذة المتقاعدين أن "التلميذ التونسي اليوم يعيش في العراء التربوي بعيدًا عن الزّخرف القيمي والثقافي الذي كان موجودًا في مدارسنا إلى زمن قريب".
إذا ما وقفنا على ناصية هذا الكلام الذي قاله صاحبه بحسرة وحزن نجد أنه يلخص المشهد التربوي التونسي الآن وهنا، مشهد تسكنه انهيارات قيمية ورمزية وجمالية وتغيب عنه الرؤى الواضحة فيما يتعلق بالتعديل والتصويب. مشهد ضبابي فيما يتعلق بالأخذ بأسباب التكنولوجيا والتحديث. إنه مشهد تخلى عن تماسكه الأول وانخرط، بغير وعي، في تغييرات وتحولات عشوائية بعيدًا عن الخطط الاستراتيجية التي عادة ما يضعها المجتمع للمدرسة باعتبارها مؤسسة مجتمعية تصنع العقول والسواعد.
وفي ظل هذا الارتباك التربوي الفادح والانهيارات الرمزية المتتالية والتي جعلت من المدرسة التونسية فضاء منفّرًا وطاردًا لأحلام مرتاديها، فإن التلميذ التونسي انبرى لنفسه بنفسه بأن خلق أدوات تعبير جديدة فاجأ بها التصورات الكلاسيكية للحياة المدرسية وخاصة تلك "الطباشيرية" التي تغرق المدرسة وتجذبها إلى الخلف.
تلميذ اليوم لم تعد تغريه الأنشطة الثقافية على شاكلة النوادي الكئيبة والمهرجانات الرتيبة وتحوّل إلى منشّط يصنع هامشه بمفرده وأحيانًا يقوم بعملية خلط عجيبة للرياضة والثقافة معًا في تمظهر جديد
تلميذ اليوم لم تعد تغريه الأنشطة الفنية والأدبية والرياضية على شاكلة تلك النوادي الكئيبة والمهرجانات الثقافية الجهوية والوطنية الرتيبة والمسابقات الرياضية النمطية التي تقدم ميداليات بلا تقدير ومتابعة. تلميذ اليوم تحوّل إلى منشّط يصنع هامشه الثقافي والفني والرياضي بمفرده وأحيانًا يقوم بعملية خلط عجيبة للرياضة والثقافة معًا في تمظهر جديد لم تستطع وزارة التربية إلى حد اليوم تصنيفه أو تأطيره أو تقديم مفاهيم حوله والاشتغال عليه علميًا.
في السنوات الأخيرة، في ظل عزوف التلاميذ عن النوادي والأنشطة الثقافية الرسمية التي تنفذها وزارة التربية منذ عقود بنفس الأساليب القديمة ودونما تجديد، قام التلميذ التونسي باستدعاء تظاهرات وفعاليات وأحداث من الحياة الرياضية التي تعيشها الملاعب والشارع الرياضي، وطوّعها لصالحه داخل المدرسة وخلق من مناخاتها ما يجعله مرفّهًا وممتّعًا بالفن.
اقرأ/ي أيضًا: "دخلات الباك سبور".. نقد الفساد والمنظومة الحاكمة
وكي يوجِد لها شرعية، ربطها بالامتحانات النهائية لمادة التربية البدنية أو ما يعرف بـ"الباك سبور"، فأصبحت المعاهد الثانوية من شمال البلاد إلى جنوبها تعيش مع نهايات شهر مارس/آذار وطيلة شهر أفريل/نيسان من كل سنة دراسية حدثًا مشهديًا يعرف في الوسط التلمذي بـ"الدّخلة"، ورغم انقسام الأسرة التربوية بين مؤيد يرى فيها متنفسًا للتلميذ من مشقة الدراسة ومعارض لهذه الدخلة لغياب النصوص القانونية التي تجيز تنفيذها وغياب تأطيرها وتحولها إلى ما يشبه العنف. إلا أنها في النهاية أصبحت أمرًا واقعًا يفرضه تلامذة الباكالوريا وخلاله تعلو رايات التعبير الحرّ وتنظم الرقصات ضمن كوريغرافيا عفوية على إيقاع الطبول وموسيقات العالم وترتفع الحناجر لتردد الأغاني فيما يشبه أجواء "الفيراجات" بملاعب كرة القدم.
لكن الهامش الثقافي الجديد الذي حازه التلميذ التونسي داخل فضاء العهد إضافه إلى "الدخلة"، هو "الكراكاج" الذي بات حدثًا تنشيطيًا يسبق بأسابيع تظاهرة "الدخلة" ويروّج له التلاميذ بأنه مقدمة ضرورية لها.
"الترا تونس" تطرق إلى موضوع "الكراكاج" وحضر إحدى حفلاته بأحد معاهد العاصمة تونس:
تلامذة الباكالوريا: "الكراكاج والدخلة باتا ضروريين داخل المعاهد من أجل كسر حواجز الضغط النفسي"
يقول تلميذ الباكالوريا إيهاب الستّاري، الذي يدرس بشعبة علوم الإعلامية، إن "الكراكاج" هو حفل صغير أو لوحة فنية تسبق "الدخلة" تمامًا مثل ما يحدث في عالم جماهير كرة القدم وخصوصًا مباريات الدربي والفرق بينهما هو أن الكراكاج يتضمن المزيد من "الفلامات" والألوان والصخب التلمذي في حين أن "الدخلة" هي حفل موسع وبه عدة مراحل.
ووضّح الستاري أن الإعداد للكراكاج قد يستمر لأسابيع عديدة حيث تجمّع الأموال اللازمة والتي تصل في بعض المعاهد إلى عشرة آلاف دينار ثم يقع التخطيط للحدث ضمن لجنة تلمذية دون غيرها ويشمل أساسًا إعداد شعارات "التيشورتات" (الأزياء الموحدة) والألوان الخاصة بكل شعبة علمية على حِدة، واقتناء الشماريخ والفلامات والاتفاق على شعار موحد يجسّد على "الباش" الضخم الذي يتدلى من فوق سطح المعهد وعادة ما يرسمه التلاميذ بأنفسهم.
اقرأ/ي أيضًا: المتحصلة على جائزة أفضل معلمة في العالم: انتهى عهد الطباشير والورقة (حوار)
وختم حديثه بتأكيد أن "الكراكاج فرصة لتلامذة المعهد للتخلص من ضغط الدراسة وخاصة ضغط مناظرة الباكالوريا".
أما التلميذة أنس المكي، التي تدرس بالباكالوريا بشعبة الآداب، فهي ترى أن من مميزات السنة النهائية بالمعهد هاذين الحدثين اللذين يشكلان فرصة استثنائية ليس لتلامذة الباكالوريا فحسب بل لباقي المستويات أيضًا للترفيه عن أنفسهم وكسر رتابة الدروس ونسق الامتحانات ومحاصرة العائلة لهم بدروس الدعم، مضيفة أن الكراكاج هو ترويح عن النفس بأسلوب تلمذي فنجد الغناء وانطلاق الأجساد المكبلة.
عمار الإقديري، تلميذ الباكالوريا بشعبة العلوم التجريبية، أكد أن الكراكاج لهذه السنة الاستثنائية جراء كورونا سيكون بدوره استثنائيًا وسيراعى خلاله بعض التدابير الوقائية كأن ينشر "الباش" ذو الحجم الكبير بطريقة لا تسهل لمسه من قبل التلاميذ والحرص أيضًا على ارتداء الكمامات والاكتفاء ببعض الأغاني التي ستبث عبر مضخمات للصوت تم كراؤها للغرض.
وأضاف الإقديري أن هذه المظاهر الاحتفالية التي يقوم بها تلاميذ الباكالوريا في تونس هي شكل من أشكال التحفيز الذاتي الدافع للنجاح، فالكراكاج كما الدخلة هما مظهران من مظاهر كسر الضغط الكبير الذي تسلطه العائلة على ابنائها المقدمين على امتحان وطني سينقلهم إلى الجامعة.
التلميذ عزيز العلياني، الذي يدرس بالسنة الثالثة في اختصاص العلوم التقنية، أكد لـ"ألترا تونس" أنه يشارك زملاء شعبته فكرة الكراكاج ويساعدهم في صناعة "الباش"، معتبرًا ذلك تمرينًا مهمًا سيمكنه من إنجاز كراكاج رائع خلال السنة الدراسة القادمة.
أستاذ التربية البدنية نبيل العموري: مهمتنا تأطير التلاميذ حتى لا يتحول الكراكاج إلى مساحة للعنف
ومن جهته، أوضح نبيل العموري، أستاذ التربية البدنية بالمعاهد الثانوية التونسية، أن "الكراكاج" هو فكرة مستجلبة من الملاعب إلى المؤسسات التربوية ويمكن اعتبارها نشاطًا ترفيهيًا وتثقيفيًا للتلميذ ينجزه بنفسه من البداية إلى النهاية وخاصة الشعار الذي سيرفع في ساحة المعهد أمام جموع التلاميذ والأسرة التربوية.
نبيل العموري (أستاذ التربية البدنية) لـ"الترا تونس": "الكراكاج" هو فكرة مستجلبة من الملاعب إلى المؤسسات التربوية ويمكن اعتبارها نشاطًا ترفيهيًا وتثقيفيًا للتلميذ ينجزه بنفسه من البداية إلى النهاية
وعن تدخلهم كأساتذة للتربية البدنية، وهي المادة الأقرب لهذا الحدث الاحتفالي التلمذي، أشار نبيل العموري إلى أن مهمتهم هي تأطير الحدث حتى لا تعم الفوضى وتتسرب إلى الاحتفال مظاهر العنف، موضحًا أن "أساتذة الرياضة والإطار الإداري للمعهد يلتقون التلاميذ أكثر من مرة قبل أسابيع من الموعد المحدد ويستمعون إلى أفكارهم واقتراحاتهم وتنبثق عن ذلك لجنة من التلاميذ تمثل كل شعب الباكالوريا تقوم بالتنسيق بين التلاميذ أنفسهم ومع إدارة المعهد بخصوص الموعد والتوقيت وبرنامج الاحتفال، يتم تفادي فترة الامتحانات ودائمًا ما تكون الاحتفالية مع نهاية الأسبوع كما يحرص الأستاذة أثناء مهمة التأطير على أن يكون الشعار المركزي لـ"الباش" حاملًا للقيم الإنسانية كالمحبة والسلام أو منتصرًا لقضية عادلة كالقضية الفلسطينية مثلًا.
عماد العباسي (مختص في فلسفة التربية والتعليم): "الكراكاج مانيفستو جديد يبشر بالثقافة السائلة"
الأستاذ عماد العباسي يرى أن نتيجة تباطؤ الدولة التونسية في الالتفات إلى أعتى مؤسسة مجتمعية، وهي المدرسة، والانبراء لتطويرها هيكليًا وجوهريًا بعيدًا عن التصورات السياسية الحالية للتربية التي تأتي عادة ضمن حروب انتخابية طاحنة والمتسمة بالضحالة واللاّجدوى، فإنّ التلميذ صنع لنفسه مسارات خاصة ضمن غابة منظومة التربية الكلاسيكية، معتبرًا أنه من الممكن تنزيل ذلك ضمن تغيرات جذرية يشهدها العالم في نظرته للأشياء.
عماد العباسي (مختص في فلسفة التربية والتعليم) لـ"الترا تونس": الكراكاج الوافد الجديد على المشهد التلمذي هو مانيفستو لهواجس الشباب الذي يسعى ليعبر عن نفسه بنفسه عبر الدفاع عن قضية محلية أو عالمية تهم الإنسان أو كوكب الأرض
ويضيف الأستاذ العباسي أن البشرية انتقلت من المرحلة النقابية وصعود الحركات العمالية مرورًا بالمرحلة الجندرية وصولًا إلى "طفلنة العالم" أو "الجينيزم" وصعود حركات الشباب التي تؤمن بالثقافة اللانظامية وتنشد الاعتراف خارج المؤسسات الرسمية عبر أنماط تعبير غير نمطية ميالة إلى الشارع الفسيح والمرتبط بالحرية والانعتاق من كل أشكال التكبيل والتسلط الثقافي مثل رسومات الغرافيتي وأغاني الرّاب ورياضة القفز القصوى فوق المباني.
وأكد الباحث الجامعي أن المجتمع التونسي كغيره من المجتمعات قد مرّ من السرديات الكبرى إلى السرديات الفردية، ولعل ظاهرتيْ الكراكاج والدخلة اللتين تبرزان مع "الباك سبور" داخل المعاهد الثانوية التونسية دليل قاطع على سريان الفردانية في تونس.
وبيّن العباسي أن الكراكاج الوافد الجديد على المشهد التلمذي هو مانيفستو لهواجس الشباب الذي يسعى ليعبر عن نفسه بنفسه عبر الدفاع عن قضية محلية أو عالمية تهم الإنسان أو كوكب الأرض.
ويضيف محدث "الترا تونس" أن حدث الكراكاج، الذي تتمازج فيه شماريخ الفيراج مع أهازيج "الألتراس" هو طريقة جديدة لتقويض كل ما هو كلاسيكي داخل المدرسة، فيتحول الكهول من المربين إلى أشباح مدهوشة تنبري لحماية المؤسسة الكلاسيكية الصلبة أمام "الوحش" الجديد الذي يسكن الشباب والذي يتحدى المواعظ رغبة في إعادة تشكيل الثقافة القديمة التي شارفت شمسها على المغيب.
ويختم الأستاذ عماد العباسي، المختص في فلسفة التربية والتعليم، حديثه بالتأكيد أنه قد حان الوقت للبحث بجدية فيما يريده الشباب من المدرسة، وللتخلّي عن الثقافة الصلبة مقابل الثقافة السائلة على حد عبارة "زغمونت باومن".
اقرأ/ي أيضًا: