11-مارس-2021

ملاحقة حاملي الأموال عبر الحدود من خلال بعث منصّة رقميّة تشاركيّة بين مختلف المؤسّسات الماليّة

 

سعى عالم الاجتماع الألماني كارل مانهايم في كتابه "الإيديولوجيا واليوتوبيا" إلى الفصل بين المفهومين بناء على ما تطرحه من الأفكار السياسية على أرض الواقع وتبعاتها على المستقبل. ففي مستوى أوّل، استنتج أنّ مجموعة الأفكار الّتي تتنافس مع أفكار أخرى حول تصوّر مستقبلي هي أفكار إيديولوجيّة، أمّا الأفكار الّتي تسعى إلى أن تختزل كلّ تصوّر مستقبلي، وتلغي غيرها، فهي يوتوبيّة. ثمّ تعرّض في مستويات أخرى لإجابات هذه الأطروحات عن الأسئلة الاقتصاديّة والاجتماعيّة في إطار علم اجتماع العلوم. ومع اندثار اليوتوبيا الماركسية، تبقى الإيديولوجيا الرأسماليّة ساعية لإيجاد إجابة عن سؤال النظام الجبائي المثالي. 


يشهد العالم مؤخّرًا جدلاً واسعًا حول العملات الرقمية كالبيتكوين والإيثريوم نظرًا لما تشهده قيمة هذه العملات من ارتفاع وإقبال متزايد، وكذلك لثوريّة الأفكار والأهداف من وراء العملات. في أواخر شهر فيفري/شباط الماضي، أعلنت اللجنة التونسية للتحاليل المالية عن إطلاق منصّة "حنبعل". 

المثير في نص الإعلان هو اعتماد تقنية "سلاسل الكتل Blockchain" التي ترتبط في الأذهان بالعملات المشفّرة ما أثار تساؤلات عديدة حول ما إن كانت تونس ستعتمد هذه العملات؟ أو هل سيطلق البنك المركزي عملة رقميّة مشفّرة؟ لكن قبل كل ذلك ما هي هذه التكنولوجيا وماهي أهداف المنصّة المذكورة؟ 

أعلنت اللجنة التونسية للتحاليل المالية عن إطلاق منصّة "حنبعل"، المثير في نص الإعلان هو اعتماد تقنية "سلاسل الكتل Blockchain" التي ترتبط في الأذهان بالعملات المشفّرة ما أثار تساؤلات حول ما إن كانت تونس ستعتمدها؟

حدود الورق

مع تنامي الخطر الإرهابي في أواخر التسعينيات، اتّسع مجال نشاط منظمة مكافحة غسل الأموال GAFI-FATF، السّاري مفعولها على دول منظّمة التعاون الاقتصادي (OECD)، لتشمل مقاومة تمويل الإرهاب. 

إثر أحداث الغريبة 2002 في تونس وفي هذا السياق العالمي، أحدثت السلطة التونسية اللجنة التونسية للتحاليل المالية CTAF بموجب قانون 75/2003. تأخّر انطلاق عمل هذه اللجنة، لأسباب سياسيّة، إلى سنة 2011. ليبدأ عملها الفعلي، كما توضح تقاريرها، مع سنّ قانون 25/2015 واستكمال نصوصها التأسيسيّة وهياكلها ويتركّز عملها أساسًا حول تحقيق أهداف الاستراتيجيّة الوطنيّة لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب LCB/FT، من خلال التحّري والتحقيق فيما يرد لها من ملفّات وشبهات الجرائم الماليّة قبل إحالتها على الدّوائر القضائيّة المختصّة.

حسب ما جاء في تقريرها النّهائي لسنتي2018-2019، قامت اللجنة بجملة من التحرّيات حول عمليّات غسيل أموال تقوم بها ذوات معنويّة وماديّة (أشخاص وشركات):

  • غسيل أموال تجاري: مثل "تصريح مغالط للبضائع mispresention of goods" قامت بها شركات توريد ملابس مستعملة، حيث صرّحت أنّها استوردت "خيش مسح"، كذلك المغالطة في كتلة البضائع "under shipement". علاوة على اعتبار المخالفات الجبائيّة والديوانيّة، فإنّ الشركات موضوع التحرّي قامت بتهريب أموال إلى الخارج بحجّة التجارة.
  • غسيل أموال فساد: تستفيد شركة أجنبيّة، وصاحبها الّذي يعمل بسفارة في تونس، من امتيازات القانون 72 للشّركات المصدّرة، لتمرير الأموال عبر القنوات المصرفيّة التونسيّة وتحويلها نحو وجهات أخرى (ما انجرّ عنه إدراج تونس في القائمة السوداء للدول الحاضنة للتهرّب الضّريبي سنة 2017). 
  • استغلال قانون الجمعيّات لتمويل نشاطات إرهابيّة (وانجرّ عنه كذلك تصنيفات سلبيّة لتونس).

يمثّل حجم الأموال الّتي تمّ إدماجها في المسالك البنكيّة بطريقة مشبوهة حسب صندوق النقد الدولي واللجنة، حوالي 2000 مليار على مستوى محلّي، من إجمالي 2% من الناتج العالمي. كذلك حسب التوصية 32 لمجموعة غافي Gafi، الشّريك الدّولي للجنة، فإنّه يجب ملاحقة حاملي الأموال عبر الحدود عبر بعث منصّة رقميّة تشاركيّة بين مختلف المؤسّسات الماليّة من ديوانة وبنوك وغيرها.

وفق مجموعة Gafi، الشريك الدولي للجنة التحاليل المالية، فإنّه يجب ملاحقة حاملي الأموال عبر الحدود عبر بعث منصّة رقميّة تشاركيّة بين مختلف المؤسّسات الماليّة من ديوانة وبنوك وغيرها

إلى حدود السنة الفارطة، كانت الإجراءات الحدوديّة لتمرير الأموال تتمّ عبر التصريح المباشر. إذا ما فاقت قيمة المبلغ المحمول 20 ألف دينار عند المصالح الديوانيّة، يجب على المسافر التصريح بذلك ليتسلّم في هذه الحالة وصلاً (كتابيًا)، ويسجّل هذا في المنظومة الإعلاميّة الخاصة بالديوانة سند SINDA، والّتي لا تملك المؤسّسات الماليّة الأخرى كالبنوك النفاذ إليها. وبهذا يمكن مغالطة البنوك عبر التّلاعب بالتصريح كإيداع مبالغ ماليّة أكبر من الّتي تمّ إدخالها، والّتي يمكن أن يكون مصدرها السوق السوداء. وتستغرق محاولة التثبّت "زمنًا بيروقراطياً" قد ينتهي بعد أن يغادر المشبوه البلاد. حسب اللجنة، يقدّر عدد حاملي الأموال عبر الحدود بين 2018 و2019 بحوالي 15 شخصًا تقريبًا. من جهة أخرى، "42% من العملات الأجنبيّة التي تدخل إلى تونس تتبخّر"، هكذا صرّح لطفي حشيشة، كاتب عام لجنة التحاليل الماليّة "كتاف". 

لتلافي ذلك، قرّرت الكتاف تطبيق توصية الغافي GAFI وإطلاق منصّة "حنبعل" (ومنصّة GoAML) لمراقبة مرور الأموال عبر الحدود التونسيّة والّتي تمّ استعمال تكنولوجيا البلوك تشين، أو سلسلة الكتل، في تطويرها. فما هذه التكنولوجيا وفيما يتمثّل امتيازها عن غيرها؟ 

أطلقت تونس منصّة "حنبعل" (ومنصّة GoAML) لمراقبة مرور الأموال عبر الحدود التونسيّة والّتي تمّ استعمال تكنولوجيا البلوك تشين في تطويرها

تم بتاريخ 25 فيفري 2021 تدشين منصة حنبعل التي تعنى بمراقبة النقل المادي للعملات الأجنبية عبر المعابر الحدودية في تونس...

Posted by ‎اللجنة التونسية للتحاليل المالية - CTAF‎ on Friday, February 26, 2021

اقرأ/ي أيضًا: تحذير من استغلال وباء كوفيد-19 لغسيل الأموال وتمويل الإرهاب

بلوك تشين في تونس؟ 

إثر الأزمة الماليّة الأمريكيّة 2008، وارتدادها العالمي، وتحديدًا يوم 3 جانفي/ يناير 2009، ولدت العملة الرقميّة المشفّرة "البيتكوين" في ظلام الخوادم Les serveurs. عملة يتيمة لا بنك يحميها، لا دولة ترعاها، ولا كفيل لها إلّا ثقة مستعمليها في تكنولوجيا معقّدة تسمّى "سلسلة الكتل Blockchain". 

عند القيام بعمليّة تحويل/استلام للبيتكوين، تضمن هذه التكنولوجيا سريّة هويّة المستخدمين، التواصل المباشر بين المرسل والمتصل دون وساطة طرف ثالث (بنك)، ولامركزيّة للعمليّة إذ تتم عبر شبكة من الخوادم تجمعها بروتوكلات اتّصال معقّدة حول العالم. "مستحيل تغيير/مسح أي معلومة مسجّلة في البلوك تشين". هكذا تقول بريمافيرا فيليبي الباحثة في جامعة هارفارد. 

وفي البلوك تشين، كل كتلة Block هي سجل رقمي يحوي مجموعة من الحسابات تحوي تاريخ العمليّات الماليّة مع كتل أخرى مرتبطة فيما بينها لتشكّل سلسلة كتل Blockchain. وضمان الثقة الوحيد هو بروتوكول رياضياتي شفّاف مؤسّس على مجموعة معقّدة من المعادلات الرياضيّة. يقوم مجموعة من المهتمّين، des mineurs، بمهمّة فكّ هذه المعادلات عبر استعمال حواسيب خاصة (des avics) المجهّزة بكوارط غرافيك قويّة. ولقاء هذا العمل، يتلقّى هؤلاء المنجميّون مكافأة بالبيتكوين الّتي وصلت قيمتها إلى أكثر من 46 ألف دولار للعملة الواحدة ساعة كتابة هذه السطور (بعد أن كانت 0.001 دولار عند إطلاقها في 2009).

يوجد حاليًا حوالي 3 ملاين وحدة بيتكوين، يحتكر (أو يحتكرون) صاحب الفكرة ساتوشي ناكاموتو 800000 وحدة (ويتقاسم 33 مليون مالكًا الباقي). منذ إطلاقها، تنقسم مكافأة حل المعادلات، mining، كلّ 4 سنوات. بالنسق الحالي، سيبلغ حجم البيتكوين 21 مليون في أفق 2140. وبحلول سنة 2040، ستصبح المكافأة ميكروسكوبيّة. في المقابل، توجد أكثر من 60 عملة رقميّة مشفّرة كالإيثريوم والليكوين، ريبل.. والّتي يمكن أن تكون فرصة للاستثمار مستقبلاً.

(إعداد هيثم المدوري)

 

في خطوة نحو الرّقمنة الّتي تناولتها مخطّطات الدولة منذ التسعينيات، ستمكّن هذه المنصّة السّلطات من الحد من الجرائم الماليّة، علاوة على تعزيز الخبرات المحليّة في المجال حيث قامت الشركة التونسيّة "تالان Talan" بتطويرها.

ستمكّن منصّة "حنبعل" السّلطات من الحد من الجرائم الماليّة، علاوة على تعزيز الخبرات المحليّة في المجال حيث قامت الشركة التونسية "تالان Talan" بتطويرها

عبر تقنية البلوك تشين، سيتمّ تخزين المعلومات في سيرفرات متعدّدة وبطريقة نهائيّة، أي لن تتغيّر المعلومات بعد إدخالها، ما يقلّص إمكانيّة التلاعب بها وتجنّب تكرار حوادث سابقة. 

بعد الإعلان عن إطلاقها، من المنتظر تزويد المعابر الحدوديّة، حيث المصالح الديوانيّة، بالمنصّة أين سيمكن رصد قيمة الأموال الواردة والصادرة، وسيمكن لبقيّة المؤسّسات الماليّة الاطلاع عليها حينيًّا عند كل اشتباه أو نيّة تثبّت. في انتظار تعزيز القدرات البشريّة واللوجستيّة للـ"كتاف"، قد تمثّل "حنبعل" قفزة نوعيّة في محاربة الجرائم الماليّة كالتهريب والتهرّب الجبائي الّتي تشهدها تونس منذ سنوات.

اقرأ/ي أيضًا: مراقبة تمويل الأحزاب.. الملف الشائك

دول رقميّة قيد التأسيس 

بالعودة إلى العملات الرّقميّة المشفّرة، خرجت البيتكوين من الفضاء المرقمن إلى الفضاء العام حيث يحتدم الجدل حولها، بعد أن كانت لسنوات عملة الفضاء الرقمي. 

أدّت تغريدة إلون مسك الأخيرة حول البيتكوين، إلى جانب إعلان بنوك عالميّة كبرى عن نيتها اعتمادها، إلى ارتفاع سريع في قيمتها (بنحو 300%)، ما يؤهّل البيتكوين والعملات الرقميّة المشفّرة، لتكون الذهب الرقمي. 

في وقت تستعدّ فيه فيسبوك وشركائها لإطلاق عملتها الرقميّة الخاصة ديام، بعد تجربة أخيرة فاشلة ليبرا، ارتبط إختفاء جاك ما، مؤسس موقع علي بابا، أواخر سنة 2020 بنيّته إدراج شركته الماليّة Ant group في البورصات العالميّة، حسب ما جاء في جريدة لومند ديبلوماتيك. يعود ذلك حسب الصحفي جوردان بوي إلى خطاب كان جاك ما قد ألقاه سابقًا في قمّة جمعت كبرى الشركات البنكيّة في شانغهاي، أين انتقد المنظومة البنكيّة وتحكّمها بالسّوق المالية معلنًا عزمه عن إطلاق عملته الرّقميّة الخاصة والّتي سيموّل عبرها مشاريعًا لا تتمكّن من الحصول على قروض من البنوك التقليديّة. ومع تقدّم جاك بشركته الماليّة أحسّ النظام الصيني بالخطر الدّاهم: شركة مستقلّة + آلاف الموظّفين+ عملة خاصة + اعتراف وامتداد عالمي = دولة. 

من جهة أخرى، اعتبرت كريستين لاغارد، محافظة البنك الدولي، العملات الرّقميّة "أمرًا غريبًا" وجب التعامل معه بحذر، لارتباطه بالواب العميق، الدارك ويب، ما يعنيه ذلك من تبييض للأموال وتمويل للإرهاب. 

ما يريب الحكومات والبنوك، حسب بنوا هيغاي صاحب موقع بتكوين كونساي، هو صعوبة إن لم نقل استحالة فرض ضرائب على أصحاب الأموال البيتكونيّة، أو المشفّرة بصفة عامة، إذ تعتبر سريّة المستخدمين أحد الضمانات المميزة لمالكي هذه العملات. التقليص الشّديد للضّرائب قد يؤدّي إلى ما حدث للأنظمة الشّيوعيّة عندما رفّعتها، هكذا رأى عالم الاقتصاد ميلتون فريدمان.

 

اقرأ/ي أيضًا:

تونس.. مرزوق وآخرون في شراك "وثائق بنما"

ما مصير وثائق بنما في تونس؟