08-نوفمبر-2018

استطاعت تحويل الإعاقة الجسدية لمصدر تحفيز من أجل الإبداع (مريم الناصري/الترا تونس)

سيدي بوسعيد العالي بقبابه وزرقة أبوابه، ونخيل الجنوب وصحرائه، ولباسنا التقليدي ورونقه، وكل تفاصيل مدن تونس، هي بعض مما دأبت الفنانة التشكيلية نجاة بامري على رسمه في أبهى لوحاتها الفنية. قد يبدو الأمر عاديًا بالنسبة لفنان مبدع عصامي التكوين أدمن الألوان والفنّ، لكنّ كلّ من يشاهد نجاة وهي ترسم يرى ذلك التحدي الكبير وهي تحّرك بفمها ريشتها في خفة لترسم كلّ ما تراه أو تحلم به.

نجاة بامرى فنانة تشكيلية بالفطرة، ولدت تعاني من حالة إعاقة في الساقين، وعدم قدرتها على ثني ركبتيها جيدًا، كما أنّها غير قادرة على تحريك ذراعيها لإصابتها منذ لحظة ولادتها بضمور في عضلات اليدين.

لكنّها خلقت من العجز الجسدي إرادة لتبدع منذ صغرها، فهي ليست بالرسامة التشكيلية العادية، لاسيما وأنّها تحرّك ريشتها بفمها وتمزج الألوان لترسم عالما تمنت أن تعيش فيه بشكل طبيعي. فلم تقف عدم قدرتها على تحريك يديها عائقًا أمامها، لتكون رسامة بارعة ذاع صيتها في العديد من الدول العربية على غرار الجزائر ومصر، ولتشارك في عشرات التظاهرات الثقافية داخل تونس وخارجها.

خلقت من العجز الجسدي إرادة لتبدع منذ صغرها (مريم الناصري/الترا تونس)

تعيش نجاة بامري في ولاية المنستير، وهي أم لطفلة تبلغ من العمر ثماني سنوات. ورغم عدم قدرتها على قضاء شؤون منزلها أو العناية بنفسها حتى، إلا أنّ محبة الناس ومساعدتهم لها جعلها تواصل حياتها بشكل عادي. وقد أبت نجاة العيش دون هدف أو طموحات، ولم ترض أن تكون يديها غير القادرة على تحريكهما عائقًا أمام ما كانت تحلم به منذ صغرها.

كانت بدايتها مع الرسم منذ سنّ الرابعة من عمرها حين التقطت قلمًا بفمها ورسمت على أحد حيطان منزل العائلة البسيط بعض الرسومات. أعجبت تلك الصور الأم التي شجعت ابنتها ووفرت لها كل ملازم الرسم، لتكون انطلاقتها مع الألوان واللوحات، حتى باتت مبدعة في رسم كلّ ما تتخيّله أو كلّ ما تراه، ولتعبّر عما في نفسها بالألوان.

نجاة بامري: كثيرًا ما أعبّر عما في نفسي بالألوان على لوحاتي لذا يعز عليّ بيعها لأنني أشعر وكأنني أبيع أحد أبنائي

كانت نجاة تحرّك ريشتها في خفة وإبداع بشفتيها، لترسم عنان السماء وظلمتها، وتتدلى، من يدين ممتدتان من نافذة صغيرة، شمس مشرقة رغم ظلمة تلك السماء. تتوقف برهة عن الحديث عن نفسها لتعبّر عن لوحتها التي تصور بها كلّ ما في داخلها كما تقول، ربما تلك هما اليدان اللتان تمنت في يوما ما لو كانت قادرة على تحريكهما، لتشرق شمس حياتها.

تضيف نجاة بامري لـ"الترا تونس" قائلة: "كثيرًا ما أعبّر عما في نفسي بالألوان على لوحاتي، لذا يعز عليّ بيعها لأنني أشعر وكأنني أبيع أحد أبنائي. ولا أشعر والحمد لله بالعجز طالما أنا قادرة على التعبير ورسم ما أريده بفمي".

اقرأ/ي أيضًا: حينما ننتصر إرادة التحدي.. قصة شاب يعاني "الديسلكسيا" يجتاز الباكالوريا بنجاح

وتقول نجاة إنّها كانت تكره نظرة الشفقة من الناس أو لفظ "مسكينة" لأنها غير قادرة على تحريك ذراعيها. فهي أرادت، كما تؤكد في حديثها، أن تقتل تلك النظرة الدونية لكل معوق، فكلّ فرد حرم من شيء ما ليعوض بشيء آخر وفق تعبيرها. وهو ما جعلها تنجح في فنّ الرسم، وترسم قرابة 100 لوحة باعت أغلبها مكرهة لتقدر على العيش وتأمين بعض المصاريف، واستطاعت بفنّها أن تغير نظرة الشفقة إليها إلى نظرة الاعجاب والانبهار بما تنجزه.

شاركت نجاة في عدّة معارض داخل تونس وخارجها، وتم تكريمها في جميع هذه المحافل، كما نجحت الفنانة الثلاثينية في حصد عديد الجوائز والأوسمة وشهادات التقدير بالخصوص من تونس والجزائر ومصر وتركيا وباريس. وتصدرت قصة نجاحها أعمدة العديد من الصحف والمجلات العربية، إذ أشاد بها عديد الكتاب العرب على غرار الشاعرة الأديبة السورية روعة محسن الدندن، ومواطنتها الكاتبة هيام حسن العماطورى.

رسمت الفنانة التشكيلية نجاة بامري قرابة 100 لوحة باعت أغلبها مكرهة لتقدر على العيش وتأمين بعض المصاريف ولكن استطاعت بفنّها أن تغير نظرة الشفقة إليها إلى نظرة الإعجاب بما تنجزه

فيديو نجاة بامري تتحدث لـ"ألترا تونس" (تصوير مريم الناصري لالترا تونس)

لكن رغم هذه النجاحات، تشعر نجاة كثيرًا بالضيم في بلدها، مشيرة في حديثها معنا إنّها أرادت الحصول على بعض التمويلات أو قرض بسيط لا يتجاوز الألفي دينار حتى تقدر على تأمين مستلزمات الرسم، من ألوان وأوراق وأي محامل أخرى ترسم فيها، لأنّها باهظة الثمن. وتؤكد أنها واجهت عديد الصعوبات، في هذا الجانب، وذلك برفض طلبها في الحصول على هذا القرض البسيط في أكثر من مناسبة عبر مطالبتها بتوفير ضمان.

تقول نجاة بامري إنها باتت تفكر في الهجرة لأنّها تشعر أنّ الفن في تونس ليس محل تقدير وفق تعبيرها، كما لا يوجد أي تشجيع من أي جهة. وتضيف، في ختام حديثها معنا، أن بيعها لما تنتجه لا يوفر لها سوى بعض المداخيل البسيطة، خاصة وأنّها تعاني بعض الصعوبات المادية لا سيما وأنّ زوجها عامل بسيط لا يقدر على توفير ما تحتاجه.   

نجاة بامري حصدت جوائز وأوسمة في عديد المعارض التشكيلية (مريم الناصري/الترا تونس)

اقرأ/ي أيضًا:

مدرسة تونس للفنون التشكيلية.. علامة فارقة وتاريخ خالد

"الرسم على الماء" أو "الإيبرو".. الإقصاء القسري لفنّ عظيم