27-أكتوبر-2020

واكب "ألترا تونس" رحلة صيد برّي في جهة برقو من ولاية سليانة (رجاء غرسة)

تشير الساعة إلى السادسة صباحًا، ما تزال الشمس لم ترسل خيوطها بعد، حتى الجبال والربى تلتحف ثوب الظلام، أما السماء اجتمعت فيها الألوان وتتداخلت تهيّؤًا للشروق. في طريق عين بوسعدية الضيقة والملتوية في برقو من ولاية سليانة، تقطع أضواء السيارات الظلمة من حين إلى آخر، وقد بدأ الصيادون في التوافد على الجبال المحيطة والقريبة.

في يوم الأحد وأيام العطل، يقطع صوت الأزيز صمت الجبال ويقضّ مضجع الحيوانات البرية، في رحلة جديدة ومناسبة خاصة محبّبة لعشّاق البراري. يرتدي الصيادون ثيابًا خاصة بهذه المناسبة في غالبها خضراء أو مزركشة بين أخضر وأسود وبني.

في يوم الأحد وأيام العطل، يقطع صوت الأزيز صمت الجبال ويقضّ مضجع الحيوانات البرية، في رحلة جديدة ومناسبة خاصة محبّبة لعشّاق البراري

يرافق "ألترا تونس" الصيادين في هذه الرحلة التي انطلقت عندما اجتمع الصيادون في مقهى القرية المجاورة، وقد بدأت خيوط الفجر تبزغ، ارتشفوا قهوة الصباح في انتظار رفاقهم. متحمّسًا للرحلة الجديدة، بدأ جرو أحدهم يرقص فرحًا يثب هنا وهناك غير آبه بغرباء عنه.

اقرأ/ي أيضًا: تعافي الطبيعة في زمن الكورونا.. هل هو "عام السعد"؟

يتفقد العم محسن، 63 عامًا، سلاحه ويمسحه، ثم يرتدي حاملة الخراطيش ويشدّها في منتصفه ويقفز قفزة خفيفة باسمًا :"إنها حركة لابدّ منها". وبعد انتظار نصف ساعة، التحق عبد الله بالمجموعة، وتحوم من حوله كلابه الثلاثة بحذائه الرياضي الذي سيلبسه للمرة الأخيرة وزي الصيد، فالستيني واثق من صيد وفير. وكأنه قائد الفريق، أشار بيده لرفاقه إلى أن يسبقوه إلى نقطة الانطلاق وأن يمشّطوا المنطقة من اليمين إلى اليسار.  

يشدّ العم محسن حاملة الخراطيش في منتصفه (رجاء غرسة/ألترا تونس)

 

سلكت الشاحنة الخفيفة التي تقل الصيادين وكلابهم وزادهم طريقًا فلاحيًا وعرة قبل أن تتوقف في أرض منبسطة ويقفز الراكبون. كان أشبه باجتماع التعليمات الأخيرة بإشارات نحو المشرق والمغرب، ثم ينتشر الصيادون في الأرض باتجاه الغابة مكوّنين طوقًا في شكل هلال.

 يقضّ صوت الأزيز مضجع الحيوانات البرية (رجاء غرسة/ألترا تونس)

 

تسبق كلاب الصيد بخطوات، تغمس رؤوسها في جذوع نباتات الإكليل والضرو الكثيفة حينًا وتمسح على أقدام أصحابها حينًا آخر.

تواصل السير على الأقدام، وما يزال الصيادون منهمكين في عملية البحث عن الطرائد ينحنون لالتقاط الحجارة حينًا ويرمون بها على الأشجار حينًا آخر علّهم يخرجون بها طيور حجل مختبئة.

الحركة سريعة ولا تهدأ، ساعة منذ انطلاق الرحلة، ولم تهدأ للمجموعة حركة، تنتشر أنظارهم تحت أقدامهم حينًا وإلى السماء حينًا على أمل الظفر بطائر.

يشارك الكلاب في الصيد البرّي (رجاء غرسة/ألترا تونس)

 

أجاري خطواتهم، يدقون الأغصان اليابسة تحت أحذيتهم الخفيفة والمتينة في الآن، أما أنا فنظري معلّق على من هم حولي. منذ أكثر من 15 سنة، لم أمرّ بتجربة مماثلة، لقد نال مني التعب، وكنت بالكاد أخفي صوت شهيقي وزفيري محذّرًا أنّ القوى قد خارت. مازالت الرحلة في أولّها والجموع من حولي تطوي الأرض وتنطّ هنا وهناك.

تتدرج الشمس صعودًا في السماء وتزداد في هذه الربى الحرارة ارتفاعًا، إنها المرة الأولى التي يجلس فيها الصيادون على الأرض، وإنها لفرصة سانحة للحديث عن هذا الهوى.

الصيد.. حياة بشر

عبد الله المانسي، 57 سنة، يمارس هواية الصيد مذ كان طفلًا مع والده ثم مع أصدقائه من بعده، إلى أن تحصّل على الرّخصة عام 1997. يقول لـ"ألترا تونس" إن "الصيد قبل أن يكون غنيمة هو رياضة وفن وهواية لا يمكن تلخيصها في كلمة، هو حياة بشر وحياة شعوب".

ولا يقتصر الصيد فقط على صيد الحجل والأرنب البري فقط، هناك موسم صيد الخنزير واليمامة و"الزرزور" و"الورشان" التي هي نوع جديد في بلادنا منذ 5 أو 6 سنوات، يضيف المانسي. ويواصل: "هناك طاقة يبذلها الإنسان ويتعرف على الطبيعة ويملأ صدره بعبيرها، غياب الطرائد لا يمثل أبدًا خيبة لنا".

الصيد قبل أن يكون غنيمة هو رياضة وفن وهواية (رجاء غرسة/ألترا تونس)

 

عن الفرق بين موسم الصيد مقارنة بالسنوات الماضية، اشتكى عبد الله تغير الطبيعة وتأثيرها على نقص الحيوانات والطرائد وقسوة المناخ. كما أن أسعار الذخيرة المخصصة للصيد ارتفعت ليتضاعف سعرها حوالي عشر مرات من 95 مليم إلى 930 مليم، بالإضافة الى تزايد التضييقات بسبب الأحداث الإرهابية.

عبد الله المانسي (صيّاد) لـ"ألترا تونس": الصيد قبل أن يكون غنيمة هو رياضة وفن وهواية، لا يمكن تلخيصها في كلمة، فهو حياة بشر وحياة شعوب. وغياب الطرائد لا يمثل أبدًا خيبة لنا

رفيقه محسن المانسي، 63 عامًا، تحصل على رخصة صيد منذ عام 1985، هو لا يفوّت أي يوم صيد مهما كانت الطريدة، فهو حريص على تسوية وضعيته فيما يتعلق بتسديد رسوم الصيد أو التأمين.

يعتبر محسن هذا اليوم أحسن يوم في العمر لأنه يوم هوايته، وهو أيضًا يوم رياضة يواظب عليها رغم تقدمه في السن لحمايته من الأمراض. ويرى، في حديثه لـ"ألترا تونس"، أن أكثر تغيير طرأ على موسم الصيد هو التغييرات المناخية والجفاف ما أدى إلى نقص الطرائد زيادة على الصيد العشوائي.

يشتكي الصيادون من نقص الطرائد بسبب التغييرات المناخية والصيد العشوائي (رجاء غرسة/ألترا تونس)

مغامرة وخبرة

اليوم خلال السير في رحلة الصيد، لا حديث عن سياسة أو اقتصاد أو صحة، هنا يصبح الصيادون أشبه بربان سفن يوجه يمينًا أو يسارًا ويحدد بوصلة كل صياد، "جاتك...جاتك...جاتك" أو "عندك يا فلان"، وهو الصوت الذي يسبق مباشرة صوت "فرررر".

 أجنحة طير أو سرب حجل باغتت الجميع وانتفضت أجنحتها منطلقة إلى عنان السماء بعيدًا، ثم تنقسم بين مجموعتين إلى اليمين، لتتوارى بعضها عن الأنظار خلف أشجار الصنوبر الكثيفة، فيما تواصل البقية الطيران في الاتجاه المقابل بعيدًا تحت الكهف، حتى لا يعرف إن كانت مازالت تحلق أو أنها وجدت لها مستقرًّا جديدًا في غابة قد تكون ساكنة.

تردد المغاور ونتوءات الجبال صدى رصاص الصيادين (رجاء غرسة/ألترا تونس)

 

عشرات الكيلومترات من السهول والهضاب والصخور العالية، يقضيها الصيادون مشيًا، وهرولة، وجريًا، وقفزًا، وتسلقًا، وتدحرجًا بحثًا عن الطرائد.

في هذا الفضاء المفتوح، تردد المغاور ونتوءات الجبال صدى رصاص الصيادين المنتشرين في أنحاء الجبل والجبال المجاورة، في إشارة للصيادين رفاقنا عن احتمالات اتجاهات الطرائد فيسيرون إليها.

اقرأ/ي أيضًا: الطبيعة تنتصر.. إعادة توطين "غزال الأطلس" في جبال سليانة بعد انقراض فاق القرن

حدث أن أكل كلب أحدهم طريدة وكان قد كلف بالبحث عنها، وفي غفلة قفز أرنب بري بسرعة شديدة عكس السير في اتجاه الجبل، ولن تفلح عودة "الفرجاني" مهرولًا ولا كلابه في إيجادها.

يلعب الهاتف الجوال دورًا مهمًا في الإعلام لدى المجموعة أو إن كان تغييرًا قد طرأ على الخطة، ويحدث أن ينقطع الإرسال ويتعذر الاتصال، فيكون الصّفير لغة التواصل.

يكون الصفير لغة للتواصل بين الصيادين (رجاء غرسة/ألترا تونس)

 

المسالك وعرة والحرارة مرتفعة، سرعان ما نفذ الماء، في الطريق بعض الثمار البرية: لنج، وذرو وريحان قد تسد رمق العطش قليلًا. وهنا في الوادي، بركة ماء تسكنها الضفادع قبل أن تعود الخنازير للهو فيها.

توجد في الطريق بعض الثمار البرية (رجاء غرسة/ألترا تونس)

 

وعلى سفح الجبل، هضبة تميل إلى الانبساط، بدا محيط بئر مستدير من بعيد كأنه صحن طائر، أعلاه رُبط إناء بلاستيكي فارغ بحبل طويل، ألقى به الصيد في القاع الصخري للغرق في الماء العذب، وفي تموّج الماء انعكست رؤوس الزائرين. كانت ساعات انتظار وصول الماء كالدهر من فرط العطش الذي زاده بريق الماء وصوت الخرير الواقع من السطل المتدحرج يمينًا وشمالًا.

محيط بئر مستدير في هضبة الجبل (رجاء غرسة/ألترا تونس)

 

ارتوى الظمأ وابتلّت العروق، كانت الشمس تستقر في كبد السماء، لم يضفر الفريق بأي صيد، ومازال البقية منتشرين وقد تواروا عن الأنظار منذ ما يزيد عن الساعة. حتى لحظات الانتظار، كانت تبادل لنُدر رحلات الصيد وطرائف الصيادين، امتداح لبعض الأسلحة المميزة في الصيد من حيث القوة والخفة والجمال. وقد تشكلت لديهم أيضًا معرفة بطباع الحيوانات ومسالكها وآثار أقدامها.

وبعد اجتماع وراحة قصيرة لتناول الغداء المنوّع بين الحلو والمالح والحار، يفترشون وأطباقهم الحصى تحت ظل أشجار الصنوبر، يكوّنون حلقة بيضاوية أقرب إلى المستطيل، ويتقاسمون رغيف "الطابونة" و"الخبز المانسي" الفريد من نوعه، ويغمسون في"صحن تونسي" و"الملوخية"، مع بيض مسلوق وجبن، مع تناول "الكسكسي مسفوف". ولا يفوّت الصيادون راحة الغداء لتقييم رحلة منتصف النهار، فيعدّدون أخطاءها ويتوعّدون بتغيير الخطة والمسار.

لا يفوّت الصيادون راحة الغداء لتقييم رحلة منتصف النهار (رجاء غرسة/ألترا تونس)

 

ازداد عدد أصوات الطلقات القادمة من بعيد، واصل الفريق رحلته في البحث عن الطرائد. فجأة يوجه الصياد سلاحه نحو طائر حجل كان يهم بالفرار، كانت الطلقة صائبة فقد الطائر بعض ريشه في الفضاء قبل أن يسقط ببطء في الأشجار الكثيفة تحت الكهف.

بحثًا عن الطريدة المصابة، قفزة طويلة إلى المنحدر، فانزلاق في الحصى المتناثر، فدحرجة أكثر من 500 متر إلى الأسفل، يمينًا ويسارًا. أواصل البحث قبل أن تصطدم ساقي في شجرة الصنوبر. لم أنفض الغبار ولا القش الذي غطى كامل ثيابي، فقد قفزت في اتجاه نبتة إكليل خدعتني فيها صخرة ملولبة يميل لونها إلى الرمادي والبني، وقد خلتها الحجلة.

اقتربتُ من الحجلة لتصويرها (رجاء غرسة/ألترا تونس)

 

وعلى بعد خطوات قليلة، كانت هناك تفترش الحصى برأسها الصغير ومنقارها الأصفر، فالحجلة مازالت على قيد الحياة. اقتربت ببطء واعتزلت ورفيقتي الجديدة العالم من حولي أصوات الصيادين المنترين على سطح الجبل وبدأ آخرون يقتربون من الوادي تحتي. اقتربت منها ببطء لتصويرها، فلم تمانع ولم تبد نفورًا.

أشبه بعارضة أزياء في حصة تصوير، وقفت الحجلة على ساقيها أمامي ومشت خطوات ثم وقفت ومازلت، أنا، منشغلة بتصويرها، ثم استدارت في الاتجاه المعاكس وهكذا نكون قد انتهينا. كنت أهمّ بالاقتراب أكثر ولمس الحجلة الجميلة قبل أن يناديني الصياد من أعلى الكهف، وقد اعتقد أنه أُغمي عليّ بسبب السقوط والدحرجة، فجرت الحجلة سريعًا بعيدًا.

 حتى وإن كانت حاملة الطرائد خاصتك فارغة، فالتحلي بالصبر صفة الصياد وملكته التي تجعل منه الصياد الحق

اللقطة المناسبة قد تكون قاسية للبعض لكن في الحكاية جانبها التقني الهندسي، عامل الوقت وقوة الدفع لدى الطير وقدوة الدفع في السلاح وذلك أكثر من عامل الصدفة، لتكون الخبرة هي الأكثر حضورًا في هذه الحلبة.

التركيز الكامل، وقوة البصر والسمع، واللياقة البدنية، وكلاب مدربة على الصيد، ومعرفة بالمسالك الجبلية قد لا تكفي وحدها لتنعم برحلة صيد ممتعة، حتى وإن كانت حاملة الطرائد خاصتك فارغة، فالتحلي بالصبر صفة الصياد وملكته التي تجعل منه الصياد الحق.

مغادرة فراشك الدافئ إلى البرد اللافح، وخدوش في اليد، وكدمات في القدم، وتمزق عضلي يجعلك تجر قدمك بقية اليوم كيلومترات عديدة دون أن تتأوه، وأوجاع بكامل الجسم متواصلة منذ يوم الصيد، ليست أبدًا سببًا كاف لتقطع العهد ألا تعود للصيد مجدّدًا. كيف وأنت لم تودّع رفاق رحلتك قبل أن تسأل عن موعد الرحلة الجديدة وتودعهم على أمل اللقاء مجددًا.    

 

اقرأ/ي أيضًا:

عصافير نادرة في المزاد.. إطلالة على سوق الطيور بسوسة

هل سقط هواة الصّيد في تونس ضحيّة التهور والإرهاب؟