12-أغسطس-2021

برزت ظاهرة تربية الكلاب في تونس مؤخرًا بشكل لافت لتطرح عديد التساؤلات حول أسباب انتشارها وتناميها (رمزي العياري/الترا تونس)

 

تعدّ الكلاب من الحيوانات الأقرب إلى الإنسان فهي تحزن كما يحزن الرّفيق عندما يموت الصاحب، وتبيت عند قبره لأيام اعتقادًا منها أنه سيعود، وتدافع عنه بشراسة عند المخاطر كما يدافع الأب عن ابنه.. وتاريخيًا، تُعرف الكلاب بأنها أقدم الحيوانات التي قام الإنسان بترويضها وجعلها اجتماعية بعد اكتشافه لخصال نبيلة فيها وعديدة، فهي تؤنسه وتحرسه وترافقه في العديد من الأعمال اليومية حتى تشكّلت رابطة قوية بينهما.

 ولنا في الآداب المروية والمدوّنة ما يجعل الكلب رمزًا للوفاء والصداقة والصفاء في حبّ أهل المنزل الذي يقيم به. وعلى مرّ الأزمان، أثبتت العديد من الدراسات أن الكلاب دجّنت حتى قبل الأبقار والخرفان والحمير والأرانب والقطط.. وعاشت مع الإنسان في حلّه وترحاله منذ ما يقارب 15 ألف سنة. 

إلى زمن قريب، كانت للكلاب أدوار في الحراسة أو المرافقة أثناء الصيد أو الرعي لا غير، لكن في الآونة الأخيرة برزت ظاهرة جديدة في تونس وهي تربية الكلاب بجميع أنواعها وخصوصًا الأنواع الخطرة منها

ومع تطوّر الزمن وتعاقب الحضارات، عرفت علاقة الإنسان بهذا الحيوان أطوارًا عديدة. فبعد أن تمّ تهجينها وتشتيلها ظهرت أنواع جديدة من الكلاب وظّفها الإنسان في حياته اليومية، فمنها توظيفات حيوية كالصيد وجرّ الأثقال والحراسة والمرافقة والدفاع.. ومنها أيضًا ما هو تكميلي ترفيهي، فأقيمت مراكز الترفيه والنزل الخاصة بالكلاب بالعديد من مناطق العالم، كما أصبحت له أدوار الإسناد النفسي في بعض الأمراض النفسية كالتوحّد لدى الأطفال والضغط النفسي الحاد وفي حالات الانهيار العصبي.

في تونس، وإلى زمن قريب، كانت للكلاب أدوار في الفلاحة والرعي والمرافقة أثناء الصيد لا غير، وقلة قليلة هي الفئة التي تربّي الكلاب في المدن. لكن في الآونة الأخيرة، برزت ظاهرة جديدة في المجتمع التونسي وهي تربية الكلاب بجميع أنواعها وخصوصًا الأنواع الخطرة منها، وتتجلى هذه الظاهرة بالمدن الكبرى وضواحيها الشعبية فلا تكاد تقطع شارعًا إلا ويعترضك أحد الشباب برفقة كلب، أو يتعالى نباح من حديقة أو شرفة شقة بعمارة.

فالكلاب هذه الأيام تكتسح المدن وتؤثث حياة التونسيين بشكل لافت للانتباه، وهو ما تسبّب أحيانًا في حوادث متنوعة جرّاء تهوّر بعض هواة مربي الكلاب الخطرة الذين ترافقهم كلابهم في الأماكن العامة، وعادة ما تكون طليقة وبلا أدوات الأمان المعروفة. فتتسبّب في مهاجمة المارة وتخلّف لهم تشوهات جسدية ونفسية متفاوتة الخطورة حتى أنّ بعضهم توجّه إلى القضاء، ونُشرت قضايا في الغرض تحت عناوين الترويع المقصود جرّاء كلاب خطيرة.

لقاء لـ"الترا تونس" مع حمزة الطرابلسي شاب مهتم بتربية الكلاب (رمزي العياري/ الترا تونس)

ونشطت "سوق المنصف باي" وهي أشهر سوق شعبية بالعاصمة تونس، تختصّ في بيع الطيور والحيوانات المدجّنة بأنواعها مثل العصافير والأرانب والدجاج والفئران المهجّنة والقطط.. وأصبح الإقبال على الكلاب أمرًا لافتًا إلى درجة تضاعفت معها الأسعار لتصل إلى مستويات خيالية، وأصبحت تجارة الكلاب بهذه السوق مجالًا للربح السريع.. كما برزت المغازات الخاصة ببيع أكل الكلاب والقطط والأقفاص والكمامات وكل المتممات الخاصة بحياتهم. 

اقرأ/ي أيضًا: عصافير نادرة في المزاد.. إطلالة على سوق الطيور بسوسة

كما بات التونسيّ يفهم في سلالات الكلاب، فيحدثك بكل إطناب ودراية ومعرفة عن أنواع: الهاسكي والرّوت والبتبول والتفايلر والبلوتوغ والشيان لو والشيواوا والكانيش.. وعن سلوكهم وجدول الغذاء الخاص بهم وكيفية ترويضهم وأماكن المغازات والمحلات الخاصة ببيع كل متعلقات الكلاب ومواعيد التلاقيح الخاصة بكل نوع حسب السلالة والكلفة الشهرية للعناية بهم والتي تتجاوز أحيانًا وفق أحد مربّي الكلاب حوالي الـ 200 دينار.  

وجرّاء هذه الظاهرة، راجت في الآونة الأخيرة عمليات سرقة الكلاب من المنازل والمحلات بالأحياء الراقية بالعاصمة والتنقل بها خلسة إلى المدن الداخلية حيث يُعاد بيعها بأسعار بخسة... هذا إلى جانب أنشطة البيع الإلكتروني عن طريق العديد من الصفحات المنتشرة على شبكات التواصل الاجتماعي وخصوصا فيسبوك، الأكثر استعمالًا بتونس.

"الترا تونس" تناول ظاهرة تربية الكلاب في تونس، وحاول فهمها وتفكيكها اجتماعيًا مع المعنيين من مربّي الكلاب ونفسيًا مع أستاذة في علم النفس عبر الريبورتاج التالي: 

  • حمزة الطرابلسي (متخّرج حديثًا من الجامعة): أشاعت الكلبة "ميّا" حركية كان المنزل العائلي قد فقدها

حمزة الطرابلسي شاب لم يتجاوز الثلاثين من عمره ومتخرج حديثًا من الجامعة يروي قصته مع كلبته "ميّا" التي تقيم معه في المنزل منذ عامين فيقول إنه بطبعه يميل فطريًا منذ الصغر للحيوانات، فهو يَنشد القطط والعصافير والجياد.. لكنه كان يحب الكلاب أكثر، ويضيف حمزة أنه اتخذ قرار شراء "ميّا" فجأة ومن دون تخطيط وقد شجّعته شقيقته على ذلك، فتوجه لشركة مختصة في تربية الكلاب وبيعها واقتنى الكلبة التي أعجبه شكلها وجمالها بثمن 300 دينار تونسي. 

وذكر حمزة الطرابلسي أنّ العائلة كانت رافضة لدخول هذا الحيوان الأليف للمنزل وخصوصًا والدته وكانت تعلّتها في ذلك أن الكلاب كثيرة الأوساخ وتتطلب عناية يومية، زد على ذلك أنها ترى فيها عنصر تضييق على الدراسة، لكنه في النهاية أقنعهم بتربيتها لتصبح عنصرًا أساسيًا في المنزل، فهي تشيع حركية كان المنزل العائلي قد فقدها بعد أن تزوج إخوته وخرج والده للتقاعد. 

الشاب حمزة الطرابلسي وكلبته "ميّا" (رمزي العياري/الترا تونس)

ويضيف حمزة أن "ميّا" ومنذ حلولها بالمنزل، أصبحت محل عناية والديه خاصة عندما يغيب هو عن المنزل. وروى أنهما ينظفان مربضها ويقدمان لها أكلها المخصوص وأحيانًا يأخذها والده المتقاعد حديثًا إلى نزهتها اليومية بدلًا عنه.

وأكد حمزة الطرابلسي أن كلبته تخضع للمراقبة البيطرية ولديها دفتر خاص بالتلاقيح الضرورية ومواعيدها، كما خضعت كلبته في أشهرها الأولى لحصص تأطير مع مدرب خاص لكنه أصبح يدرّبها بنفسه متّبعًا بعض الحصص الخاصة على شبكة اليوتيوب.

وبخصوص تنقلها في الشارع أشار حمزة أنه ملتزم بوضع الكمامة على وجهها وذلك حتى يشعر المارة بالأمان، زد على ذلك أن نظرتها هادئة مما يجعل الأطفال يستلطفونها ويلامسونها ويلوّحون لها بأيديهم فتبادلهم التحية بذيلها.

 حمزة الطرابلسي (متخّرج حديثًا من الجامعة): الفوضى هي المهيمنة، وتفاقم وجود الكلاب في الأحياء وفي المدن سببه غياب القوانين المنظمة لكل تفاصيل تربية الكلاب بالمنازل والتجول بها في الأحياء والحدائق

ومن جهة أخرى، يرى حمزة الطرابلسي أن تفاقم وجود الكلاب في الأحياء وفي المدن سببه غياب القوانين المنظمة لكل تفاصيل تربية الكلاب بالمنازل والتجول بها في الأحياء والحدائق، ويرى أن الفوضى هي المهيمنة، مضيفًا أن المراهقين يتسببون في العديد من المشاكل حيث يرون في الكلب لعبة للتسلية ووسيلة عنف سهلة فيهاجمون بعضهم البعض، كما يتجرأ بعضهم على ملاحقة المارة مما يتسبب لهم في أذى جسدي ونفسي.

وختم حمزة تدخله لـ"الترا تونس" بأن الكلب حيوان يقبلك كما أنت، ويظلّ وفيًا لك مدى حياته التي لا تتجاوز العشر سنوات، وبالتالي لا بدّ من معاملته معاملة حسنة تليق بالمشاعر التي يغدقها علينا بلا حساب وفقه.  

  • نادر الأندلسي (أستاذ موسيقى): كلبنا "شيبو" أخرج كل العائلة من الروتين

يقول أستاذ الموسيقى نادر الأندلسي إن جاره في العمارة التي يقطنها، طلب منه منذ سنة تقريبًا، أن يساعده في أمر ما وهو أن يُبقي عنده جرو من فصيلة الكانيش ذي الحجم الصغير كانت قد أنجبته كلبته "لايكا"، والسبب أنّ شقته أصبحت تضيق به وذلك لمدّة 3 أشهر حتى يشتد عود الكلب ومن ثمّة يعرضه للبيع. فقبل بالأمر وانتقل جرو الكانيش إلى شقته.

لا تكاد تعبر شارعًا إلا ويعترضك شاب رفقة كلب (رمزي العياري/ الترا تونس)

ومنذ الأسابيع الأولى لحلول الكانيش بالشقة تعلّق به ابنه الوحيد وأصبحا صديقين لا يفترقان إلا بحلول الليل، وأطلق عليه اسم "شيبو".. فقرّر أن يشتريه منه وشجّعته زوجته على ذلك. ويضيف نادر أن ابنه بعد أن كان خاملًا وقليل الأصحاب أصبح صديقًا حميمًا لهذا الكلب، يلاعبه ويقضي أوقات الترفيه معه، وأصبح يتجوّل معه في الشارع ويصطحبه إلى السّوق لشراء الأكل الخاص به، وكم يسعد عندما يستوقفه بعض المارة لملاطفته، ويختم نادر الأندلسي بأن "شيبو" أخرج كل العائلة من روتين كان يحاصرها. 

  • سمير (تلميذ): عندما أكون مع كلبي لا أحد يمكنه الاقتراب مني

التقيت سمير،وهو اسم مستعار لتلميذ مراهق لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره، وكان معه كلب من نوع "الرّوت" وهو من أخطر أنواع الكلاب المهجّنة لشراسته المتأصلة فيه، وكان الكلب من غير كمامة.

يذكر هذا الفتى الأسمر الوسيم أن الكلب هو جهاز دفاعه عن نفسه، فلا أحد يستطيع التعرض له من المنحرفين.

وأضاف أنه أقنع والده بشرائه من سوق المنصف باي بمبلغ بألف وخمسمائة دينار كمكافأة له على نجاحه في امتحانات ختم التعليم الأساسي. وعن الكمامة وإمكانية مهاجمة كلبه "تايزون" للمارة، ذكر أن الكلب مروّض ولا يتحرك في أي اتجاه إلا بتعليماته.

  • شهاب الدالي (موظف): في حيّنا لا يخلو منزل من كلب

يسكن شهاب بأحد الأحياء الشعبية ذات الكثافة السكانية العالية بالضاحية الغربية للعاصمة تونس، وهو يقيم بمنزل والديه بطابق علوي مستقلّ، شهاب متزوّج وأب لطفلة تبلغ من العمر 10 سنوات، وقد ذكر لـ"الترا تونس" أن تربية الكلاب بحيّهم أصبحت ظاهرة مثيرة للانتباه، فلا يخلو منزل من كلب، وتقريبًا تجد جميع السلالات والأنواع، اللطيفة والخطيرة، الصغيرة والضخمة، الجميلة والقبيحة.

شهاب الدالي (موظف): ثقافة تربية الكلاب خلقت مجالات من العنف خاصة لدى المراهقين فأصبحوا يتباهون بكلابهم وبقوّتها ويقحمونها في عراكهم فيما بينهم ويهاجمون بها أحياء أخرى

وأضاف شهاب أنّ حيّهم سرت به ثقافة تربية الكلاب، فالجميع يفهم في الأنواع وأشكال الترويض والطعام والترفيه. لكن كل هذا خلق مجالات من العنف خاصة لدى المراهقين والشباب التلمذي فأصبحوا يتباهون بكلابهم وبقوّتها ويقحمونها في عراكهم فيما بينهم ويهاجمون بها أحياء أخرى وهو ما تسبّب في حجز بعض الكلاب من قبل الشرطة.

وأشار شهاب أنه اضطر لشراء كلب من فصيلة "البارجي" من شركة مختصة في تربية الكلاب وذلك بعد أن تعرّض منزله للسرقة مرتين متتاليتين مؤكدًا نجاعة اختياره فلا أحد من اللصوص يجرؤ على منزلهم مجددًا، وبيّن أنه بذلك يكون قد انخرط مع أبناء حيّه في تكريس هذه الظاهرة، وأضاف شهاب ضاحكًا: "تعالوا إلى حيّنا ليلًا واستمعوا إلى موجات النباح التي تملأ السماء". 

شاب يتجوّل مع كلبه في أحد شوارع تونس(رمزي العياري/الترا تونس)
  • سناء الشارني (أخصائية نفسية): تربية الكلاب يمكن أن تجنّب الإنسان بعض الانزلاقات النفسية الحادة

في محاولة من "الترا تونس" لفهم تنامي ظاهرة تربية الكلاب في تونس، اتصل بالأخصائية النفسية والأستاذة بقسم علم النفس بكلية 9 أفريل بتونس سناء الشارني والتي بيّنت منذ البداية أن علاقة الإنسان بالكلاب قديمة جدًا، وتاريخيًا عرفت هذه العلاقة طورين أساسيين: طور المساعدة على تحسين الحياة اليومية كالحراسة والصيد وحمل الأثقال، وهو ما يطلق عليه بـ"البقاء" وطور تجويد الحياة والترفيه في ارتباط وثيق بتغير أنماط الحياة وهو ما يطلق عليه بـ"حُسن البقاء". 

اقرأ/ي أيضًا: التعقيم.. طريقة جديدة لمواجهة خطر الكلاب السائبة

وأضافت الأستاذة سناء الشارني أن البشرية تعيش الآن الطور الثاني حيث أصبحت العلاقة بالكلاب ذات أبعاد نفسية بالأساس، فالكلب الآهل يساعد مثلًا مرضى التوحّد على التواصل الجيّد، كما يساعد المكتئبين ومرضى الخرف والزهايمر على تنشيط هرمون الأندروفين الذي يجعلهم مبتسمين ولطفاء وسعداء بعض الشيء.

وبيّنت محدثتنا أن الكلاب تساعد أيضًا المساجين السابقين على الاندماج مجددًا في المجتمع. أما علاقة الكلاب بالأطفال عمومًا فهي تدفع نحو توازنات داخلية وتزيل المخاطر النفسية التي عادة ما تحدق بالأطفال وتعزز بشكل ملحوظ حاسة اللمس لديهم.

سناء الشارني (أستاذة في علم النفس): الكلاب تدفع نحو توازنات داخلية وتزيل المخاطر النفسية التي عادة ما تحدق بالأطفال كما تساعد أيضًا المساجين السابقين على الاندماج مجددًا في المجتمع

 وبخصوص تفشي ظاهرة تربية الكلاب في المجتمع التونسي في الآونة الأخيرة فقد فسرت أستاذة علم النفس بالجامعة التونسية ذلك بعدم شعور المجتمع بالأمان، فنرى أغلب الناس مندفعين نحو تربية الكلاب الشرسة بتعلّات الحراسة والحماية الشخصية.

وفي قراءة نفسية لأخبار القضايا التي تضرّر فيها أصحابها من الكلاب جرّاء هجومات في الشارع أو سرقات ومداهمات شاركت فيها الكلاب أو كانت الكلاب أبطالًا لها، ترى الأستاذة الشارني أن ذلك يحصل نتيجة شيئين: أولهما تنامي العنف بأنواعه في المجتمع وتفشيه بطريقة لافتة جرّاء عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وثانيهما نتيجة فقدان التونسي للشعور بالأمان في محيطه، وفي هذه الحالة يجد الإنسان نفسه مدفوعًا تلقائيًا للبحث عن الحلول، وتربية الكلاب وترويضها للدفاع عن أصحابها كانت ولا زالت من الحلول التي يلجأ لها البشر في حالات الخطر. 

وختمت أستاذة علم النفس بالجامعة التونسية أن الإنسان يبقى دومًا في حاجة إلى الحب، وأحيانًا يجده في الحيوانات وخصوصًا الكلاب.

 

اقرأ/ي أيضًا:

فيديو: فاضل لشقر.. في عوالم تدريب الكلاب في تونس

رحلة صيد برّي.. متعة البحث عن طريدة في مسالك وعرة