24-أبريل-2020

ناقشت الطالبة التونسية الأطروحة من داخل غرفتها في الحجر الصحي الإجباري (صورة توضيحية/أ.ف.ب)

 

نهضت آمال فجرًا مستعدّة ليوم سيغيّر مجرى حياتها، شابة يانعة طموحة وطالبة علم يافعة، استفاقت وقد ندّ النوم عن أجفانها، جلست في فراشها تتصفّح أطروحة الدكتوراه التي ستناقشها وتحقق حلم أبيها المتوفي الذي أوفى بعهده في تدريس ابنته وإيصالها إلى أعلى مراكز العلم، وتهدي أمّها ثمرة شقائها وتعبها.

الساعة الثامنة صباحًا من اليوم الموعود، 22 أفريل/نيسان 2020، بأحد نزل منتجع القنطاوي بسوسة، حيث تقيم آمال مناصري منذ 6 أيام في مركز للحجر الصحي الإجباري بعد إجلائها من إسبانيا عبر مطار المنستير الدولي، تستعد الطالبة لموعد مناقشة أطروحة الدكتوراه في مادة اللسانيات بعد بحث في إحدى جامعات إسبانيا وبالتحديد جامعة كاديكس جنوب الأندلس.

تحصلت الباحثة التونسية أمال مناصري على أطروحة الدكتوراه في اختصاص اللسانيات بملاحظة "مشرّف جدًا" من جامعة إسبانية بعد مناقشتها إياها عن بعد بسبب الحجر الصحي

كان من المبرمج أن تناقش آمال أطروحتها بجامعتها غير أن الانتشار الواسع لفيروس كورونا في أسبانيا جعلها تقطع إقامتها وتترك وراءها حلم ارتداء الميدعة السوداء وقبعة النجاح، وتهرول نحو بلدها تونس. كانت أحكام القدر أقوى من إرادة البشر، عودة من أجل أمّ تركتها في مدينتها السند من ولاية قفصة.

دقت الساعة التاسعة صباحًا في غرفة الحجر الصحي، هي الساعة الصفر في مسار آمال العلميّ. جلست على الكرسيّ وأسندت يديها على الطاولة ووضعت كوبًا من الماء على يمينها ورسالة الدكتوراه أمامها، حاولت أن تكون الإضاءة في الغرفة مناسبة، جلست والستائر وراءها وفتحت التلفاز المتصل بكمبيوتر محمول.

اقرأ/ي أيضًا: طبيبة تونسية في إيطاليا تروي لـ"ألترا تونس" تجربتها في مواجهة كورونا

ظلت آمال أمام حاسوبها الشخصي وحيدة في الغرفة لمدة ساعة ونصف تناقش رسالة الدكتوراه أمام شاشة يظهر من خلالها رئيسة اللجنة الإسبانية ماريا سانشيز والمقرر الإسباني فرانسوا أولمو والمقرر التونسي عمّار عزوزي ومؤطّر الباحثة التونسية محمّد بوعتورة.

تحولت غرفة الحجر الصحي إلى قاعة علمية افتراضية لنقاش رسالة دكتوراه عن بعد عبر وسائل الاتصال الحديثة التي جمعت الباحثة مع مؤطرها وأعضاء اللجنة العلمية المتواجدين في مناطق مختلفة في تونس وإسبانيا، ولتكون النتيجة: "الحصول على شهادة الدكتوراه بدرجة مشرف جدًا".

ناقشت الباحثة التونسية آمال مناصري أطروحة الدكتوراه عن بُعد 

 

إثر الإعلان عن هذه النتيجة، خرجت آمال من شرفتها لترى تصفيقًا حارًا من أعوان الهلال الأحمر مقدّمين لها التهاني وباقة الورد، واتصلت بوالدتها في قفصة لتعلمها بخبر لطالما انتظرته الأم.

"الترا تونس" تواصل هاتفيًا مع آمال مناصري لتحدثنا عن تجربتها.

حيرة بين البقاء في إسبانيا أو العودة إلى تونس

تبيّن أمال، في بداية حديثنا معها، أنها درست في المعهد العالي للدراسات التطبيقية في الإنسانيات بقفصة ثم استكملت دراستها في جامعة كاديكس بإسبانيا جنوب الأندلس لمدة عشرة أشهر لإتمام إعداد رسالة الدكتوراه في مادة اللسانيات. وحددت الجامعة تاريخ 22 أفريل/نيسان لمناقشتها أمام لجنة متكونة من جامعيين تونسيين وإسبان، إلا أن تسارع انتشار فيروس كورونا في إسبانيا وتونس جعلها تحتار بين البقاء في البلد الأول أو المغادرة نحو البلد الثاني.

أمال مناصري: أشعر أنني حققت حلم والدتي التي تعبت من أجلي كما أهدي نجاحي إلى روح والدي الذي توفيّ منذ سنة 

تقول: "كنت أضع نصب عينيّ أمي التي تنتظرني بفارغ الصبر، لم أشأ أن أتركها وأبقى بعيدة عنها فالمستقبل مجهول أمام هذه الجائحة التي بثت الرعب في قلوب الملايين. وبقدر ما حاولت تأخير العودة إلى تونس والالتزام بموعد مناقشة رسالة الدكتوراه بقدر ما ازداد الوضع تعقيدًا حتى اتصل بي قنصل تونس بإسبانيا يعلمني بموعد إجلاء تونسيين من عدة مناطق في إسبانيا وأمريكا الجنوبية نحو تونس على متن طائرة يوم 18 أفريل".

تؤكد أنها قررت، في نهاية المطاف، ترك أحلامها ورائها في خيار صعب ملبيّة ما اعتبرته نداء الضمير وحبّ والدتها التي كانت تنتظرها على أحرّ من الجمر خاصة مع الأنباء المؤسفة في إسبانيا في ظل توسع انتشار فيروس كيرونا وحصده لآلاف الضحايا.

مناقشة الأطروحة عن بعد

لكن ظلت آمال حريصة على إتمام المهمة التي توجهت من أجلها إلى إسبانيا، إذ كانت تتوصل، وهي في إحدى مطارات إسبانيا استعدادًا للإجلاء، مع قنصل تونس ليؤمن لها مقرًا للحجر الصحي يكون مؤثثًا بالأنترنت ومجهّزًا بالحد الأدنى للتواصل من أجل مناقشة رسالة الدكتوراه حسب بروتوكولات علمية تسمح بها القوانين الإسبانية وذلك إثر التباحث حول المسألة مع الجامعة.

اقرأ/ي أيضًا: تونسية مقيمة بإيطاليا تروي لـ"ألترا تونس" قصة انتصارها على "كورونا"

وأردفت أنه حال وصولها إلى مطار المنستير الدولي، تم نقلها مع الآخرين، 76 شخصًا إجمالًا، إلى نزل بمنتجع القنطاوي ليُأوى كلّ فرد في غرفته. وإثر التواصل بين قنصل تونس بإسبانيا وصاحب النزل، تم توفير الإحاطة اللوجيستية لمناقشة الأطروحة من جناح في الطابق الأول يتضمن كافة مستلزمات التواصل وغرفة مجهّزة بمحوّل أنترنت عالي التدفق.

وتحدثت عن تفاجئها بالتعامل الراقي لأعوان الهلال الأحمر الذين يشرفون على الإعاشة والإحاطة، مشيرة إلى أنها لم تكن تنتظر هذه الجودة في الخدمات خاصة مع ما يتردد يوميًا من أنباء عن سوء الإقامة في عدة مراكز إيواء واحتجاجات متواصلة حول الخدمات.

تقول آمال في ختام حديثها معنا: "أشعر اليوم أنني حققت حلم والدتي التي تعبت من أجلي. كما أهدي نجاحي إلى روح والدي الذي توفيّ منذ سنة وأكرّم أفراد عائلتي بنجاحي. ولن أنسى فضل أستاذي المؤطر والجامعي محمّد بوعتور من جامعة صفاقس وكلّ من ساهم في تحقيق هذا النجاح من مركز الحجر وصاحب النزل" مستذكرة أنها تلقت مساعدة نفسية من إحدى المشرفات في الهلال الأحمر بعد أن بدت عليها مظاهر التوتر أحيانًا.

مؤطر الأطروحة يتحدث لـ"ألترا تونس" عن الإعداد والمناقشة

اتصلنا بالدكتور محمّد بو عتّور مؤطّر آمال مناصري ورئيس "مخبر اللغة والمعالجة الآليّة" بجامعة صفاقس لكي يحدثنا عن الجوانب الخفية لقصّة نجاح آمال. وبيّن، في البداية، أنه كان من المفترض مناقشة رسالة الدكتوراه حسب تقاليد المجامع العلمية الإسبانية بحضور مادي مباشر في قاعة واحدة للطالبة واللجنة العلمية والأستاذ المؤطّر.

وقال إن عدّة عوامل دفعت نحو تحديد يوم 22 أفريل/نيسان 2020 موعدًا لمناقشة الأطروحة، لكن تزامنه مع انتشار فيروس كورونا واجراءات الحجر الصحي الشامل في كلّ من تونس وإسبانيا مثل بقية دول العالم، أربك الجميع ومن بينهم الطالبة آمال.

وبّين محدثنا أنه تفاهم مع ممثلي الجامعة الإسبانية من جهة وجامعة صفاقس من جهة أخرى ليمنحوه الثقة لإعداد كافة الترتيبات بما يتماشى مع القوانين المعمول بها باعتبار أن قوانين الجامعة الإسبانية تسمح بمناقشة الدكتوراه عن بعد. وأرسل الطرف الإسباني الروابط عبر مواقعهم الإلكترونية، لتُجرى عملية تجريبية قبل ثلاثة أيام من موعد المناقشة لتجنّب المفاجآت غير السارّة. وأشار إلى دور مقرر اللّجنة الدكتور عمّار العزوزي في إنجاح كافة هذه الترتيبات.

محمد بوعتور (مؤطر الرسالة): كانت النقاشات مذهلة طيلة ساعة ونصف لتتحصل الطالبة على ملاحظة مشرّف جدًا مع دراسة إمكانية إسنادها ملاحظة علمية استثنائية

وأضاف بوعتور متحدّثًا عن مجريات مناقشة لرسالة الدكتوراه: "كانت النقاشات مذهلة طيلة ساعة ونصف لتتحصل الطالبة على ملاحظة مشرّف جدًا مع دراسة إمكانية إسنادها ملاحظة علمية استثنائية تكريمًا للنتائج العلمية الطيبة والشيقة التي توصلت إليها لمزيد تشجيعها".

وعن حيثيات المناقشة، أوضح أن التداول جرى حسب البروتوكولات العاديّة المتعامل بها، إذ أجابت الطلبة عن الأسئلة بعد تخييرها بين الإجابة على أعضاء اللجنة كل على حدة أو مع بعضهم في نفس الوقت. وأوضح أنه بعد تدخل المقررة الإسبانية، تدخّل الدكتور عمار العزوزي موجهًا إليه التحية في نضاله من أجل تشريف الجامعة التونسية، ومشيرًا بالنهاية إلى أن رئيسة اللجنة مكنته من التدخل بصفة استثنائية لأن القانون الاسباني لا يسمح له بذلك حسب القانون الجديد وطلبت منه الإدلاء برأيه.

وواصل بوعتور قائلًا: "وضعت، خلال مداخلتي، برنسًا صوفيًا تونسيًا على كتفيّ. وأشرت إليهم بأن هذا البرنس أنتم تعرفونه جيدًا. فهذا البرنس ارتداه ابن رشد كما هو مشار إليه في تمثاله أمام باب قرطبة، ولبسه المفكر اليهوديّ ابن ميمونية في شوارع غرناطة. وهذا يؤكد أواصر المحبة بيننا والتسامح بين الأديان. نتمنى في هذا الزمن الذي اكتسحته جائحة كورونا أن تتقوى أواصر المحبّة والتآخي ونتمنى أن تتعافى إسبانيا من هذه الأزمة".

وأردف الأستاذ المؤطر أنه قدم لاحقًا تقييمه للعمل مؤكدًا أن الدراسة العلمية المقدّمة في اللسانيات مستجدّة ولم يسبق أن تطرق إليه أي باحث. وبيّن أن مخبر اللغة والمعالجة الآلية بصفاقس سيستثمر هذه النتائج التي اعتمدت دراسة التوزيعات في اللغة وطريقة الحوسبة، مشيرًا إلى أن المخبر سيحاول استخلاص معجم وتضمينه في برمجية ترجمة لتسهيل عملية الترجمة بين العديد من اللغات خاصة الفرنسية والإنجليزية والإسبانية إضافة اللغة العربية. وأوضح أن ذلك سيسهّل الترجمة الآلية وفي دقة عملية الترجمة، خاتمًا أن آمال المنصري ستنطلق في التطبيق وهو مكسب للبحث في تونس، وفق تأكيده.

 

اقرأ/ي أيضًا:

حوار| طبيبان من معهد باستور: فيروس كورونا يتغيّر ولقاح تونسي الصنع وارد

حوارات | كيف يفهم كبار أساتذة الفلسفة في تونس أزمة كورونا؟