23-يوليو-2019

لا توجد استراتيجيا وطنية لقطاع الترجمة في تونس

 

رغم أهميتها القصوى في المشهد الثقافي العام في تونس وأدوارها اللامرئية أحيانًا، قلّما وقع تقليب حلقة الترجمة، والغوص في قضاياها والنظر في تاريخها والتفكير حولها والذهاب في دروبها الشائكة رغم تأمينها لأكثر من 70 في المائة من المعارف المتداولة في حياتنا العامة وفي مدارسنا وجامعاتنا وفنوننا.

قد يتفاجأ البعض عندما يعلم أن التعليم الزيتوني التونسي، وعلى مدى قرون متتالية وحتى زمن الاحتلال الفرنسي، كان ينهض بدور محوري في مجال الترجمة ونقل المعارف وخاصة في العلوم الصحيحة، وكان يغذي المجتمع بشريحة المترجمين الناشطين في المسالك الإدارية المختصة وترجمة الإبداع الفني والأدبي.

 قلّما وقع تقليب حلقة الترجمة في تونس والغوص في قضاياها والنظر في تاريخها والتفكير حولها والذهاب في دروبها الشائكة 

لكن الصورة التي قدمتها دولة الاستقلال مشوهة ومغايرة تمامًا لما كان يحدث، وهو تمشي يمكن تنزيله حينها في إطار التسويق السياسي للتعليم النظامي القائم على شاكلته الحالية والذي قام على أنقاض التعليم الزيتوني. ظلت تونس تتميز، إلى حد ما، بتقاليدها وبدايتها الجادة في مجال الترجمة، وهو ما استمر، على نحو معيّن، مع تأسيس الجامعة التونسية في 4 نوفمبر/تشرين الثاني 1958 التي أحدثت قسمًا للترجمة بكلية العلوم الاجتماعية والإنسانية المعروفة بكلية 9 أفريل بتونس.

اقرأ/ي أيضًا: كمال الرياحي: الثورة الثقافية لامرئية وما حصل لـ"بيت الخيال" عمل داعشي (حوار)

بيد أن ما حدث، خلال العقود التالية، هو أن الترجمة لم تكن هاجسًا حقيقيًا من هواجس التعليم النظامي العصري والجامعة التونسية بشكل أدق، إذ لم يتبلور مشروع وطني يهتم بالترجمة رغم وجود جيل من الأساتذة الممهورين في مجال النقل والترجمة يتقنون لغات عديدة بما فيها اللغات القديمة لا يزال ذكرهم المعرفي قائمًا إلى اليوم.

ويبدو أن هذا الإهمال كان قسريًا في إطار الصراعات داخل الجامعة التونسية الناشئة حديثًا، تحديدًا بين شقي الحداثة والتغريب من جهة، والمنشدّين الى الشرق والحضارة العربية ومدارسها من جهة ثانية. أما الصراع بخصوص الترجمة في الساحة الثقافية فله أسبابه منها ما يتعلق بالعنصر الأيديولوجي والسياسي ما أدى إلى غياب المشاريع الجادة.

ولأنها تمد الجسور مع الثقافات والمعارف والعلوم، وتسهم في وعي الشعوب وتطورها، وتمنع عنها العزلة، ظلت، الترجمة، رغم الإهمال القسري، موجودة في الساحة الثقافية التونسية بفضل إرادات فردية لمثقفين وجامعيين وكتاب يملكون الترجمة ومهاراتها المتنوعة من أمثال أحمد العايب، وصالح القرمادي، وسعد غراب ومحمد رشاد الحمزاوي.

لم يتبلور مشروع وطني في تونس يهتم بالترجمة رغم وجود جيل من الأساتذة الممهورين في مجال النقل والترجمة يتقنون لغات عديدة بما فيها اللغات القديمة لا يزال ذكرهم المعرفي قائمًا إلى اليوم

وكانت سنة 2006، سنة تاريخية في قطاع الترجمة بتونس بتأسيس المركز الوطني للترجمة، ولكن بإرادة سياسية مزيفة وقتها غايتها تصدير صورة ثقافية جوفاء للنظام السابق، وقد أُلحق هذا المركز بوزارة الثقافة متخذًا من "دار المستيري" مقرًا له.

وأُسندت له مهام ترجمة الأدب التونسي إلى لغات عديدة، لكن بقيت هذه الترجمات في المخازن ولم تسوّق وتوزع أصلًا بسبب غياب استراتيجيا واضحة. كما أُسندت مهام الترجمة إلى جامعيين محسوبين على مدير المركز الذين تتوفر فيهم شروط "الانسجام" مع النظام وقتها، ليتم إقصاء بقية المترجمين. وقد غابت عن هذا المركز مهام التكوين في اختصاصات ومهن الترجمة المتعددة.

وقد شملت هذه المؤسسة، بعد الثورة، رياح التغيير ليتحوّل بداية من مركز إلى معهد مع تغيير المقر من المدينة العتيقة إلى شارع الحرية بالعاصمة. فيما عمل الشاعر خالد الوغلاني، وهو ممن تولى إدارته بعد 2011، من أجل فتح باب التكوين في الترجمة لدفع الجامعة التونسية لإحداث ماجستير مهني في الترجمة، مع سعيه نحو مزيد الانفتاح على الساحة الثقافية والفكرية والتعريف بالمعهد في التظاهرات الثقافية داخل تونس وخارجها.

تحولت قضايا قطاع الترجمة في تونس إلى صراع شخصي بين المديرين السابقين لمعهد تونس للترجمة التابع لوزارة الشؤون الثقافية

لكن وفي سنة 2017 وبمجرد حلول المدير الجديد للمعهد توفيق العلوي، قُبرت المشاريع المبرمجة سابقًا ومنها مشروع التكوين ليعود المعهد لعجزه، وتتحول قضايا قطاع الترجمة إلى صراع شخصي بين المديرين السابقين مازال قائمًا إلى اليوم على أعمدة الصحف التونسية. ويشهد المعهد، في الأثناء، فراغًا على رأس إدارته منذ استقالة توفيق العلوي في جوان/يونيو 2019.

ظلت، هكذا، حلقة الترجمة في تونس بلا سند سياسي ومؤسساتي يجعل منها نجمة ساطعة في سماء الحياة الثقافية، ولكن لم تمنع هذه المعضلة من ظهور مترجمين تونسيين متميزين ومجتهدين ومثابرين خاصة في مجال الترجمة الأدبية والإبداعية. وهو جيل لا يعول كثيرًا على المؤسسات الرسمية للدولة مفضلًا الاستناد على مشاريعه وأحلامه الكبرى.

"ألترا تونس"، ولمزيد الوقوف على واقع قطاع الترجمة في تونس ومشاكله وللحديث تحديدًا عن الترجمة الأدبية، التقينا ثلة من المترجمين.

الشاعر والمترجم جمال الجلاصي: معهد تونس للترجمة لا يدخله من لم يكن جامعيًا

جمال الجلاصي، وهو شاعر ومختص في ترجمة الأدب الإفريقي عن اللغة الفرنسية ويعود له الفضل في ترجمة المدونة الشعرية للزعيم الإفريقي والرئيس السينغالي السابق ليوبولد سيدار سنغور، يرى أن النهوض بالترجمة من عدمه يظل دوما خيارًا سياسيًا.

ويضيف لـ"ألترا تونس" أن أغلب الدول العربية باستثناء التجربة المصرية وتجربة "كلمة" في أبو ظبي لا تملك إرادات واضحة في هذا القطاع، بما فيها تونس ما يحول دون تمكين المترجمين الموهوبين من تنفيذ مشاريعهم وتصوراتهم وهو ما فسح المجال للفوضى التي تعيشها الترجمة حاليًا، وفق تعبيره. ويقول إن تونس تضم الآن 15 مترجمًا أدبيًا مميزًا تم نشر أعمالهم في أكبر دور النشر العربية و"لكن تونس لا تبالي بهم".

جمال الجلاصي، هو شاعر ومختص في ترجمة الأدب الإفريقي عن اللغة الفرنسية 

وحول معهد تونس للترجمة، يقول محدثنا إن المعهد "يشتغل بالجامعيين ولا أحد يدخله من خارج أسوار الجامعة باستثناء البعض الذين لهم تجارب نشر عربية وهو أمر غير مقبول، وفق تقديره. وأضاف الجلاصي، في هذا الجانب، أنه حان الوقت ليجلس أهل الترجمة إلى بعضهم البعض ويفكروا في بعث نقابة أو جمعية أو هيكل ما بهدف التداول حول واقعهم ومستقبلهم.

كما تطرق، في هذا الإطار، لما اعتبره الصمت المطبق لاتحاد الكتاب التونسيين ورابطة الكتاب الأحرار بخصوص قضايا الترجمة الأدبية ومشاكل المترجمين بل واتهمهم بأنهم لم يقدموا مشاريع ثقافية جادة ونوعية رغم تلقيهما دعمًا من المال العمومي. وتحدث أيضًا عن غياب النصوص القانونية التي تضمن حقوق المترجمين في علاقتهم بدور النشر أو مؤسسات أخرى وأيضًا غياب الجوائز التقديرية الخاصة بالترجمة مستثنيًا جائزة معرض تونس الدولي للكتاب.

جمال الجلاصي: معهد تونس للترجمة يشتغل بالجامعيين ولا أحد يدخله من خارج أسوار الجامعة باستثناء الذين لهم تجارب نشر عربية وهو أمر غير مقبول

اقرأ/ي أيضًا: الكتابة السردية بـ"الدارجة".. جدل قديم متجدد

واعتبر جمال الجلاصي أن الخطة التي قدمها الشاعر والمترجم آدم فتحي إلى وزيرة الشؤون الثقافية السابقة لطيفة الأخضر حينما كان مستشارًا لها، وهي تتضمن 76 صفحة، كانت على درجة عالية من الأهمية، وفق توصيفه، مضيفًا أنها كانت ستجعل من تونس قطبًا عالميًا للترجمة في ظرف خمس سنوات على أقصى تقدير لكنها قبرت بمجرد التغيير على رأس الوزارة، وفق قوله.

ونوه الجلاصي بخبرة المترجمين التونسيين وخاصة تجربة الروائي والشاعر التونسي محمد على اليوسفي الذي ترجم رواية "خريف البطريرك" لغابريال غارسيا ماركيز و"المنشق" لهيلين كزنتزاكي وهي ترجمات فاخرة وعالية الجودة وفق توصيفه، منوهًا أيضًا بترجمة علي مصباح لمدونة الفيلسوف فريدريك نيتشه، وكذا ترجمة أحمد الصمعي لرواية "اسم الوردة" لأمبرتو إيكو وذلك من اللغة الإيطالية مباشرة.

الروائي والمترجم أشرف القرقني: لا رؤية واضحة للترجمة في تونس

من جهته، يبين أشرف القرقني، وهو مترجم شاب ينقل عن اللغة الأنقليزية، أنّ الترجمة هي فعل سياسي بالمعنى العام يحدث في اللغة وعبر الألسن المختلفة وثقافاتها ولكنها تحتاج أيضًا الى سياسة تتصل بها وتتفهمها وتعي أهميتها ودورها الحضاري والفكري والاقتصادي في صورة وجود رؤية متجددة تصلها بمختلف قطاعات صناعة الكتاب والصورة والإعلام، وفق قوله.

ولكن اعتبر أن هذه الرؤية غائبة في تونس فيما يتعلق بالترجمة الإبداعية وغيرها من الترجمات أيضًا كالترجمة العلمية. ويترك غياب هذه الرؤية، وفق محدثنا، المجال واسعًا للمبادرات الفردية سواء من قبل الناشرين أو الموهوبين من المترجمين.

 أشرف القرقني هو مترجم شاب ينقل عن اللغة الأنقليزية

وأشاد، في هذا الجانب، بأهمية بعض هذه المبادرات ذاكرًا بالخصوص بترجمات دار "مسكلياني للنشر" التي وصفها بالهامة كمًا وكيفًا، ولكن يجدد التأكيد أن غياب الرؤية تجعل الحديث عن التحولات الحضارية والاقتصادية مجرد عناوين خاوية وذلك إذا لم تستند إلى عمل مؤسساتي متعدد تقوده سياسة الدولة ممثلة في وزارة الثقافة دون أن تكون حكرًا عليها، وفق قوله.

ويعتبر المترجم الشاب، في حديثه لـ"ألترا تونس"، أن وزارة الثقافة نفسها لا تهب صناعة الكتاب، أدبًا وترجمة، الأهمية التي يستحقها مشيرًا، في هذا الصدد، إلى أن المبادرات التي وصفها بالجيدة في معهد تونس للترجمة طيلة السنوات الاخيرة تظل غير كافية، وهي لا يساعد على نشأة تيار ترجمة حيوي وفق تعبيره. وختم القرقني حديثه بالتأكيد أن هم الترجمة هو هم جماعي وأيضًا هم مجتمعي وهو رهين إرادة سياسية واعية تعتبر الترجمة من صميم أولوياتها، على حد تعبيره.

الناشر والمترجم وليد سليمان: كلفة الكتب المترجمة في تونس مرتفعة جدًا!  

تواصل "ألترا تونس" أيضًا مع الروائي والناشر وليد سليمان، وهو كذلك مترجم عن اللغة الروسية متحصل على شهادة الدراسات المعمقة في الترجمة من معهد بورقيبة للغات الحية، وصاحب أول دار نشر تونسية مختصة في الترجمة اُنشأت سنة 2008.

وليد سليمان صاحب أول دار نشر تونسية مختصة في الترجمة اُُنشأت سنة 2008

سليمان يرى أن وضع الترجمة عمومًا والترجمة الإبداعية خصوصًا يتسم بالفوضى وغياب القوانين الحامية للمترجمين في تونس، مشيرًا إلى وجود من يصفهم بالمترجمين المتميزين ولكن لم تُصقل مواهبهم ليظلّ شغلهم مناسباتيًا، وفق تعبيره، ذاكرًا منهم بالخصوص محمد الفندري، ومحمد الخالدي، وجمعة شيخة وأحمد الصمعي. ويضيف أنه "لو وقع تثمين مواهب هذه النخبة من المترجمين، التي برزت في التسعينيات، لكان واقع الترجمة الإبداعية في تونس مختلفًا عمّا هو عليه الآن".

وتحدث المترجم والناشر عن دور معهد تونس للترجمة معتبرًا إياه مؤسسة وطنية تعيش في هذه اللحظة "عطالة واضحة" لغياب الرؤية الواقعية حسب تقديره، ولا أدل على ذلك من الفشل في اختيار المادة التي ستقع ترجمتها وطبعها وتوزيعها وفق قوله، مشيرًا، في هذا الصدد، إلى الأسعار المرتفعة لاصدارات المعهد مما يجعل الإقبال عليها نادرًا.

وليد سليمان: معهد تونس للترجمة يعيش حالة عطالة واضحة لغياب الرؤية الواقعية ولا أدل على ذلك من الفشل في اختيار المادة التي ستقع ترجمتها وطبعها وتوزيعها 

وختم وليد سليمان، حديثه معنا، بالتأكيد أن عدم إقبال دور النشر التونسية على الترجمة يعود سببين أساسيين هم الكلفة المرتفعة للكتب المترجمة وقلة عدد القراء المهتمين بها. ويوضح، في هذا الإطار، أن الكلفة المرتفعة تعود للزوم تقديم دار النشر لحقوق مادية للمترجم عدا عن حقوق التأليف والتوزيع، فيما يبيّن، في علاقة بقلة عدد القراء، وجود شريحة هامة من التونسيين يقرؤون باللغة الفرنسية.

ختامًا، يمكن القول خلاصة إن قطاع الترجمة في تونس يعيش حاليًا حالة من الاهتزاز وعدم الاستقرار في ظل غياب إرادة سياسية واضحة للاهتمام بهذا الوجه من الثقافة، وذلك عدا عن غياب الدور النشط للمجتمع المدني والهياكل غير حكومية لإسناد الفاعلين في حقل الترجمة والمتقاطعين معه.

 

اقرأ/ي أيضًا:

النّشر في الفضاء المغاربي.. أحلام معلّقة

"الكوميكس" أو "لغة الفقاعات".. إبداع يقتات من الهامش الثقافي