"أغرب الغُرَباء من صار غريبًا في وطنه، وأبعد البُعداء من كان بعيدًا في محل قربه"، هكذا وصف أبو حيان التوحيدي غربة الأوطان في زمنه، ولم يكن "ماجد" (اسم مستعار) ينتظر يومًا يغترب فيه بين أهله، يقيم في منزله بتونس ولكنه يوجد اليوم في مركز للحجر الصحي الإجباري بنزل بشط مريم لمدة أسبوعين، ريثما يتم التثبت أنه غير مُصاب بفيروس "كورونا".
فالعالم يخوض في زمن الكورونا حربًا غير تقليدية في مواجهة عدوّ غير مرئيّ، دفع الدول لاتخاذ إجراءات صارمة لتباعد الأفراد، والتقليص من الحركة، وإفراغ الشوارع ما استلزم غلق الملاحة الجوية، وهو القرار الذي اتخذته الحكومة التونسية بالتوازي مع إعادة التونسيين العالقين في رحلات إجلاء مع إجبارهم على الإقامة في الحجر الصحي الإجباري.
كان يتحدث "ماجد" (اسم مستعار) عن يومياته منذ غادر مطار اسطنبول إلى غاية اليوم، وقد بدأ يخطّ ذكريات أيام لا تنسى من حياته، وكان حديثه مزيجًا بين الجد والهزل
"ماجد" أحد التونسيين العائدين ممن تم إجلاؤهم من مطار إسطنبول في تركيا، يوم الأحد 22 مارس/آذار 2020، ليصل إلى مطار تونس قرطاج ومنها إلى نزل بمنطقة شط مريم في ولاية سوسة، فلم تكن رحلته عودته الأخيرة نحو أرض الوطن كسابقاتها.
اقرأ/ي أيضًا: الحجر الصحي الإجباري للعائدين من بؤر "كورونا".. القصة الكاملة
يجلس "ماجد" في شرفة غرفته المطلة على المسبح حيث تلوح أمامه أمواج البحر الأزرق الداكن، يجمع قواه لليوم الخامس على التوالي ليرتب "سجنه الصغير"، ويطهّر يديه بالمضادات البكتيرية، ويبقى أمام التلفاز يتابع أخبار "الكورونا" التي رمت به في هذه الحجرة ليبقى فيها 14 يومًا توقيًا من حضانته لها.
يطرق باب غرفته أحد المتطوعين في الهلال الأحمر، مع كل وجبة صباحًا وظهرًا ومساءً، ليعلمه من وراء حجاب بتوصيل الأكل، يأخذه، ثم يأكله، ثم يعود إلى سريره ينتظر اليوم القادم.
كان يحدثني "ماجد" عن يومياته منذ غادر مطار اسطنبول إلى غاية اليوم، وقد بدأ يخطّ ذكريات أيام لا تنسى من حياته، كان حديثه مزيجًا بين الجد والهزل. كان يصف ساعات مرت عليه وكأنها دهر، ولكنّه سلّم بأنّ حرب "الكورونا" سيخوضها بصبر وانضباط، وقد حفت برحلته الأخيرة طرائف وقصص قد يرويها لبنيه وأهله في يوم ما.
3 ليال في مطار اسطنبول
يروي، بداية، أن رحلته انطلقت من مطار اسطنبول حيث بقي لأربعة أيام رفقة 190 تونسيًا ينتظرون الالتحاق بطائرات الإجلاء التي ستعيدهم نحو تونس، كانوا يستغيثون السلطات التونسية والتركية بتسريع مغادرتهم بعد إغلاق الملاحة الجوية.
بقي في المطار لليوم الرابع بعد إجلاء كبار السن والنساء، ظلّ هو وغيره من الشباب في انتظار الطائرة الأخيرة التي ستقلّهم. وخلال فترة الانتظار الطويلة، مدّتهم شركة الخطوط التونسية بالمؤونة في اليوم الأول والثاني ثم تكفل الأتراك بتموينهم في اليوم الثالث، في حين تبرعت امرأة تونسية ميسورة بالإطعام في اليوم الرابع دون أن تكشف عن هويتها.
تبرعت امرأة تونسية ميسورة بإطعام التونسيين العالقين في مطار اسطنبول في اليوم الرابع دون أن تكشف عن هويتها
كان يفترش التونسيون الأرض والكراسي طيلة 3 ليالي في المطار، يحيطون أنفسهم بالحقائب حتى تم إجلاء 162 منهم. وقد أعلمتهم السلطات التونسية أنهم سيُحالون على الحجر الصحي الإجباري حال وصولهم إلى التراب التونسي بعد حالات الانفلات التي تسببت في عدوى محلية جراء وافدين لم يلتزموا بالحجر الصحي الذاتي المنزلي.
حول معاملة المسؤولين التونسيين والأتراك خلال فترة الانتظار، أبدى "ماجد" لـ"ألترا تونس" ارتياحًا تجاه التوجيهات والمرافقة من عناصر القنصلية التونسية بتركيا وسلطات المطار في اسطنبول مشيرًا إلى أن بعض التونسيين لم يطيقوا الوضع مما تسبب في تشنج واضطراب تنظيمي سواء في المطار أو الطائرة.
من المطار إلى النزل
مساء الأحد، كانت المغادرة من اسطنبول نحو تونس لتصل الطائرة ليلًا إلى مطار تونس قرطاج الدولي. يقول ماجد: "حال وصولنا مررنا عبر المصالح الديوانية، وتم رصدنا بالكاميرا الحرارية عند المعابر، وكانت العملية تمرّ بسلاسة حتى خروجنا رفقة الأمن لنركب الحافلات السبع المعدّة لنقلنا".
اقرأ/ي أيضًا: طبيبة تونسية في إيطاليا تروي لـ"ألترا تونس" تجربتها في مواجهة كورونا
يضيف: "كنا نجهل تمامًا وجهتنا ولا نعلم مكان الحجر الصحي الإجباري، وكل ما نعلمه أننا في حالة حظر تجول وسنكون مرافقين بسيارات أمنية".
بعد امتطاء الحافلة والتوجه نحو الطريق السريعة تونس-سوسة، وقع إعلام العائدين أنهم سيقيمون في نزل بشط مريم من ولاية سوسة، "كنا ننتظر الوصول بفارغ الصبر ولكن الأنباء التي اطلعنا عليها في مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الاعلام لم تكن لتفرحنا بل زادت من قلقنا وفزعنا".
النزل المخصّص للحجر الصحي الإجباري في شط مريم (خاص/ألترا تونس)
كانت وقتها بدأت احتجاجات من مواطنين في شط مريم رفضًا لاستقبال العائدين في نزل بالجهة، يعلق ماجد "لا يكفي هاجس العدوى والمرض ليُضاف إليه هاجس عدم قبول أهالي شط مريم لإقامتنا مما اعتبرناه هاجسًا غير مبرر، فكل من في الحافلة لا يرى في نفسه حاضنًا للفيروس ولكن الانضباط واجب".
ولكن حدثنا أن بعض العائدين رفضوا الحجر الصحي الإجباري وعملوا على عدم الالتزام به بدعوة جميع العائدين لمغادرة جماعية للعودة إلى مقرات إقامتهم مضيفًا "وما زيد الطين بلة هي المظاهر الاحتجاجية التي شاهدناها في مقاطع فيديو لترتفع حالة الاحتقان التي دعت الأمنيين إلى التدخل بالغاز المسيل للدموع".
ماجد: تعمّد مواطنون رمي الحجارة على الحافلة ما أدخل علينا الهلع، فيما كانت رائحة الغاز المسيلة للدموع تتسلّل عبر النوافذ
"وصلنا، بالنهاية، إلى مشارف النزل وقد التحقت بنا جحافل من سيارات الحرس الوطني وتعزيزات أمنية من وحدات مختلفة أحاطت بالحافلات، فكدنا نخال أنفسنا موكبًا رسميًا ضخمًا، ولكن تعمّد بعض المواطنين رمي الحجارة على الحافلة ما أدخل علينا الهلع، فيما كانت رائحة الغاز المسيلة للدموع تتسلّل عبر النوافذ"، يواصل ماجد حديثه.
"إبان نزولنا في النزل، كان في انتظارنا عدد من المتطوّعين من الهلال الأحمر التونسي وفرق وتشكيلات أمنية وفريق طبي حاولوا استقبالنا بحفاوة ولكن الوضع المتوتر ساهم في ارتباكنا".
يوضح محدثنا أن عديد المسافرين العائدين تسلموا مفاتيح الغرف والتحقوا ببيوتهم بعد إرهاق السفر، ولكن استمرّ عدد آخر في الاحتجاج في فضاء الاستقبال مطالبين بكل قوة بالمغادرة الفورية نحو منازلهم.
ظروف الإقامة في الحجر
"في صباح اليوم التالي، لم يكن العديد منا ملتزمًا بالحجر الصحي الذاتي في الغرف، واحتج العديد أيضًا على الوجبة الغذائية والأغطية، كما حاول البعض الالتحاق بالفضاءات الخارجية المفتوحة وتبادل الزيارات بين الغرف".
اقرأ/ي أيضًا: فتح بيته للحجر الصحي.. أحمد بن مسعود يتحدث لـ"ألترا تونس" عن هذه المبادرة
يضيف "ماجد" أن التناول الإعلامي للاحتجاجات والمراسلات الصوتية لبعض المقيمين ساهم في انخفاض منسوب الثقة في الخدمات المقدمة وبالتالي الدعوة لكسر الحجر الإجباري.
ولكن يخبرنا أنه بمرور اليوم الأول، تبيّن إصرار واضح، وفق تعبيره، من الفريق الطبي والهلال الأحمر على تلبية حاجيات المقيمين مع نداءاتهم المتكررة بالتزام الغرف في ظل ملاحظة المعاملة الحسنة التي أعادت الثقة فيهم.
غرفة "ماجد" عبارة عن "سجن صغير" طيلة فترة الحجر الصحي الإجباري (خاص/ألترا تونس)
"بالمرور لليوم الثاني والثالث، كانت خدمات الإطعام تتحسن وتم مدنا بمقياس حراري لكل فرد، ومدّ الأدوية لمحتاجيها مع رفع العينات للتحليل حسب الأولوية، كما سُمح لأهالينا بجلب حاجيات قد طلبناها منهم عبر أعوان الهلال الأحمر في مدخل النزل".
رغم التحسّن الملحوظ في الخدمات، يقول محدثنا إنه لم يتوان البعض في كسر الحجر بالنزول إلى بهو الاستقبال فيما واصل مقيمان أو ثلاثة فقط من مجموع 270 مقيمًا الاحتجاج المتواصل، مقابل اقتناع البقية بالأمر الواقع: الحجر الصحي الإجباري.
"كان أعوان الهلال الأحمر في اليومين الأخيرين خاصة يضعون أمام كل غرفة كرسي بلاستيكي قصير لتقديم الطعام بعد طرق الباب، ويتم التحادث عن بعد أمتار حول صنف الأكل المفضل لدى المقيم كما يتم التنبيه علينا عبر عون الاستقبال هاتفيًا بضرورة الإعلام عن حالتنا الصحية. وقد بلغنا أن الفرق الطبية تلتحق بغرف أولئك الذين ظهرت عليهم أعراض الكورونا أو الأنفلوانزا أو من يعانون أمراضًا مزمنة وذلك ضمن استراتيجية تخص تدخلهم".
شهدت خدمة الإطعام بمركز الحجر الصحي الإجباري تحسنًا بطول الوقت (خاص/ألترا تونس)
وبينما كان يذكر "ماجد" لمراسل "ألترا تونس" ظروف الإقامة عبر "السكايب"، انتبه إلى بعض الضوضاء من جهة الشاطئ ليقطع المحادثة لبرهة ثم يعود إلينا راويًا: "هي ضوضاء وجلبة في الفضاء الخارجي للنزل بعد محاولة إحدى المقيمات الهروب من جهة الشاطئ، وقد التحق بها أعوان الهلال الأحمر بزيهم البرتقالي مع أعوان الصحة والوحدات الأمنية المتمركزة في محيط النزل ليتم القبض عليها والاعتناء بها في بهو الاستقبال. هي إحدى حالات الهروب من الحجر الإجباري إذ قد بلغ إلى مسامعي أن زوجين قد غادرا النزل خلسة خلال الليلة الأولى مستغلين الجلبة والاحتجاجات خارجًا".
ماجد: بلغنا أن الفرق الطبية تلتحق بغرف أولئك الذين ظهرت عليهم أعراض الكورونا أو الأنفلوانزا أو من يعانون أمراضًا مزمنة
هكذا حكى لنا "ماجد" بعضًا مما عاشه خلال الأيام الأخيرة ضمن كابوس الكورونا الذي حلّ به، ولم يخف بعض الطرائف طيلة هذه المغامرة، فكانت مدعاة للهزل والتندر بعيدًا عن الغضب والتشنج، ومن بينها تلك "الحركات الثورية" لكسر الحجر الإجباري بقيادة بعض النسوة بتزعّم "حركة تحررية" أثارت موجة من الضحك، عدا عن أدعية أحد الشيوخ ومرافقيه جهرًا في بهو النزل طلبًا لرفع البلاء.
ولم ينكر "ماجد" أن جميع النزلاء يعيشون ضغطًا نفسيًا وتراكمات المرحلة باعتبار أن الحجر الإجباري هو عبارة عن احتجاز، ولكن رغم شعور الأغلبية بحجم المسؤولية، ظلت توجد أقلية لم ترتض لنفسها البقاء على هذه الحالة ما يفسر بعض ردود الأفعال الغاضبة وعدم الالتزام بالتعليمات.
اقرأ/ي أيضًا:
الوداع الأخير في زمن الكورونا.. كل التفاصيل عن دفن ضحايا الوباء في تونس
كيف استعدت أقسام الاستعجالي لتقبل المصابين بكورونا؟.. أطباء يجيبون