08-فبراير-2020

عبر هذا "المخرج" حفظ الفخفاخ ماء وجهه وماء وجه الجميع (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

يوم الأربعاء 5 فيفري/شباط 2020، تبادلت قيادات حركة النهضة وأعضاء الفريق التفاوضي لرئيس الحكومة المكلف إلياس الفخفاخ "التصريحات الحادة" في علاقة بالتباحث مع حزب قلب تونس وإمكانية انضمامه للحكومة القادمة من عدمها. قالت النهضة على لسان رئيسها "إذا لم يشارك "قلب تونس" فحكومة الفخفاخ لن تمر!" ورد فريق الفخفاخ "شرط النهضة مرفوض ومتمسكون بخيارنا". كان الخطاب من الطرفين حادًا ومتوترًا وبدا للكثيرين أن شبح الانتخابات التشريعية المبكرة على الأبواب أكثر من أي وقت سابق. لكن كان هناك سؤال يُطرح بشدّة ودون أي إجابة مقنعة: "من سيستفيد من إعادة الانتخابات التشريعية؟ هل فعلًا سيدفعون نحو المجهول؟".

لم يكن هذا الطرح ضربًا من ضروب المجهول فقط، كان أشبه بإلقاء النفس إلى التهلكة، فجميع نتائج سبر الآراء الأخيرة تؤكد تراجع التصويت لصالح عدة أحزاب فازت في الانتخابات الأخيرة وخاصة الكبرى منها، وفي أفضل الحالات تقدم تطورًا بسيطًا غير مضمون لأحزاب أخرى وتقريبًا لا يبدو أن إعادة الانتخابات التشريعية ستفيد أي الأحزاب التي انخرطت ضمن مشاورات التشكيل الحكومي في نسخة الحبيب الجملي التي تم إسقاطها أو في نسخة إلياس الفخفاخ الحالية (تبرز سبر الآراء أساسًا استفادة الحزب الدستوري الحر من إعادة الانتخابات وهو رافض للانخراط في مختلف الحكومات المذكورة).

لأن كل الإجابات تصب أن لا مصلحة في إعادة الانتخابات التشريعية كان الجميع يعلم أن هناك مخرجًا ما سيتضح بين الفينة والأخرى

وحتى فرضية تعديل القانون الانتخابي بإدراج عتبة انتخابية بـ5 في المائة فهي فرضية غير مضمونة ولا تزال مجرد مشروع قانون لم تحدد حتى جلسة عامة للمصادقة عليه في البرلمان كما أن فرضية عدم توقيعه من قبل رئيس الجمهورية تبقى قائمة، إذًا كيف يدفعون نحو هلاكهم أو نحو غموض تام عبر إعادة الانتخابات بعد فترة وجيزة ووفق سياق يجهلون خصائصه؟

ولأن كل الإجابات تصب أن لا مصلحة في إعادة الانتخابات التشريعية كان الجميع يعلم أن هناك مخرجًا ما سيتضح بين الفينة والأخرى، أو صفقة ما كما يقول البعض، لكي تمر "حكومة الفخفاخ" أو "حكومة الرئيس"، ولكل طرف تسميته التي يفضلها لكن الجميع يتفق أنها الأمل الأخير تجنبًا لانتخابات سابقة لأوانها ستُدخل الأحزاب في سياق مجهول.

  • النهضة تمسك زمام المبادرة من جديد

هي منطقيًا من أبرز المتضررين في حالة التوجه نحو إعادة الانتخابات التشريعية الآن، خاصة لو لم يتم تغيير القانون الانتخابي المعمول به حالياً، وهي الفائزة في الانتخابات الأخيرة وقد كانت تمسك بخيوط اللعبة قبل المرور إلى ما صار يُعرف بحكومة الرئيس. من أجل كل ذلك كانت حركة النهضة الأكثر حرصًا على المسك بزمام الأمور من جديد.

كان سقوط حكومة الجملي داخل البرلمان ضربة موجعة للحركة، لكن الحزب التي يعرف خلافات علنية بين قياداته التاريخية قبيل مؤتمر يُنتظر أن يكون حاسمًا على مستوى رئاسة النهضة، لم يكن ليقبل بخسارة أكبر أي بخسارة كرسي رئاسة البرلمان، الذي ظفر به شيخ النهضة بعد توافق مع "قلب تونس" لم يكن هيّنًا ولم يخل من استتباعات بسبب مخالفة النهضة لوعد انتخابي بعدم التلاقي مع هذا الحزب ولا تبدو أن إعادة عقد اتفاقيات وصفقات في هذا السياق إلا مغامرة غير محسوبة العواقب.

كان سقوط حكومة الجملي داخل البرلمان ضربة موجعة للنهضة، لكنها لم تكن لتقبل بخسارة أكبر أي بخسارة كرسي رئاسة البرلمان، الذي ظفر به رئيسها بعد توافق مع "قلب تونس" ولم يكن هيّنًا ولم يخل من استتباعات

لتجنب الأسوأ، كان لقاء صباح الخميس 6 فيفري/ شباط 2020، بين إلياس الفخفاخ، رئيس الحكومة المكلّف، وراشد الغنوشي، رئيس مجلس نواب الشعب ورئيس حركة النهضة، ونبيل القروي، رئيس حزب قلب تونس، في منزل الغنوشي. بينما كان الفخفاخ قد أعلن منذ حوالي أسبوعين عن الأحزاب والائتلافات التي سيتشاور معها لتكوّن الحزام السياسي لحكومته مقصيًا حينها حزب "قلب تونس"، تسقط كل "اللاءات" ويظهر المخرج المنتظر، فأي ملامح له؟ كيف سيتم تجنب إعادة الانتخابات والتصويت لصالح حكومة الفخفاخ من جانب، ويُحافظ الأخير على اتفاقه مع الرئيس قيس سعيّد بأن يكون حزام حكومته ممن دعموا سعيّد خلال الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية ويطمئن "قلب تونس" أنه لن يتلقى نيرانًا حارقة من الحكومة الجديدة على غرار تجربته مع يوسف الشاهد؟

  • ملامح "الصفقة"

دعا إلياس الفخفاخ نبيل القروي، رئيس حزب قلب تونس، وكذلك عبير موسي للاجتماع به يوم الجمعة 7 فيفري/ شباط الجاري، وجاء في نص البلاغ الإعلامي أنها دعوة "لإطلاعهما والوفد المرافق لهما على فحوى المشاورات التي تمت مع الأحزاب المشكلة للائتلاف الحكومي وتقديم محتوى مذكرة التعاقد للتفاعل معها. هكذا إذاً قدم الفخفاخ رسالة مفادها أنه قابل "معارضة" حكومته المنتظرة وأنه رغم تغييره المنهج نحو التباحث معهم فإن الأمر لا يتجاوز الإطلاع على فحوى المشاورات وتقديم برنامج حكومته لا غير.

عبر هذا "المخرج"، حفظ الفخفاخ ماء وجهه وماء وجه الجميع،  لن تنخرط حركة النهضة في حكومة مع "قلب تونس" كما وعدت أنصارها خلال الحملة الانتخابية. لن يُخالف الفخفاخ توجه من عيّنه، الرئيس قيس سعيّد، بحكومة انتظرها طويلاً ويظن أنها من "سلالته". بإمكان حزب كالتيار الديمقراطي الانضمام للحكومة فهي "خالية من شبهات فساد القروي مؤسس قلب تونس". والشيخ راشد الغنوشي سعيد بتحركه الأخير الذي يضمن دعمًا خفيًا من الكتلة الثانية الحزبية في البرلمان (قلب تونس بـ38 نائبًا) مقابل اتفاق معيّن مع القروي، كما يعيد للغنوشي زمام المبادرة.

وفق هذه الرؤية ووفق التصريحات الأخيرة لممثلي الأحزاب المشاركة في المشاورات الحكومية، فإن حكومة الفخفاخ ستحظى بدعم كتلة حركة النهضة في البرلمان (54 نائبًا)، عدد مهم من نواب "قلب تونس" (38 نائبًا)، نواب حركة الشعب (15 نائبًا)، نواب تحيا تونس (14 نائبًا)، وعدد مهم من نواب كتل الاستقلال والإصلاح، وهو ما يعني ضمان حصولها على الأغلبية والمصادقة عليها.

كل الفرضيات تبقى قائمة وإحداها أن لا تتجاوز حكومة الفخفاخ فترة وجيزة ويتم إسقاطها عبر البرلمان مجددًا من خلال اتفاقات أخرى

هكذا بدا الأمر، خلال يومين فقط. صارت حكومة الفخفاخ المنتظرة أبعد ما يكون عن شبح السقوط ليس بسبب مميزات خاصة فيها أو في من سيكوّنها وليس لالتزامها بما لم تلتزم به حكومة الحبيب الجملي بل لأنه لا مخرج إلا بالمصادقة عليها.

ففي حكومته المنتظرة، حافظ الفخفاخ على تحييد وزارات السيادة وهو ما تعارضه أحزاب عدة ومنها التيار الديمقراطي وائتلاف الكرامة وحتى حركة النهضة في فترة ما. لا يبدو أن للفخفاخ برنامجاً واضحًا بل هي "وثيقة تعاقدية بين الأحزاب" كما أسماها تحتوي في معظم فقراتها على عموميات، لكن رغم ذلك يؤكد حزب حركة الشعب دعمه للفخفاخ وهو الحزب الذي طالما طالب الجملي واحتج بحثًا عن البرنامج الواضح، وسيكون "قلب تونس" حاضراً فيها سواء عبر تطمينات وتوافقات خاصة أو عبر أسماء تمثله من الصف الثاني أو الثالث وهو أيضًا ما كان عليه الحال  في حكومة الجملي.

الفرق الوحيد أنه لم يبق أمام الأحزاب أي حل، تجنبًا لسيناريو إعادة الانتخابات، إلا تمرير حكومة الفخفاخ. لكن كل الفرضيات تبقى قائمة وإحداها أن لا تتجاوز حكومة الفخفاخ فترة وجيزة ويتم إسقاطها عبر البرلمان مجددًا من خلال اتفاقات أخرى، كما أن طغيان طابع الترضيات على هذه الحكومة يعني أن لا أحد سيتحمل مخرجاتها، وأن الجميع سيستفيد منها قدر الممكن وسيعلن مسافة منها متى أمكن وهو ما قد لا يخدم مصالح التونسيين الذين ينتظرون إصلاحات عاجلة وتغييرات ملموسة على مستوى واقعهم الاجتماعي والاقتصادي خاصة. 

 

اقرأ/ي أيضًا:

حكومة إلياس الفخفاخ.. شبح السقوط

قراءة في حكومة الجملي المقترحة في تونس.. تحدّي نيل ثقة البرلمان

ماذا بعد فشل حكومة الجملي في انتزاع ثقة مجلس النواب؟