26-مايو-2022
لقاء سابق بين سعيّد والطبوبي

لقاء سابق بين سعيّد والطبوبي

مقال رأي

 

ينشدّ الرأي العام هذه الأيّام إلى موقف قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل ممّا سمّي دعوة الرئيس التونسي قيس سعيّد إلى الحوار. وقد عبّر الأمين العام للمنظّمة الشغيلة نور الدين الطبوبي عن موقف المركزيّة المنبثق عن هيئة إدارية وطنية والرافض للإطار الذي وضعه سعيّد لدعوته للحوار، وهو إطار لا يخرج عن تصور سعيّد للنظام السياسي والدولة وهي صورة لما سمّاه البناء القاعدي أساس الجمهورية الجديدة المبشّر بها هذه الأيام.

ويبدو أنّ الوضع الحرج الذي يعيشه الانقلاب وانتباهه إلى واقع العزلة والعجز اللذين يدفعان به إلى المضيّ الحثيث في "خارطة طريق" تنطلق باستفتاء على مرجعيّة قانونيّة جديدة. كلّ ذلك بوحي من بنية سعيّد النفسية والتي لا مكان فيها لمعنى اسمه الحوار. وإنّه لا قوّة في وجه هذا التوجّه الانقلابي المصمّم سوى الشارع الديمقراطي وعنوانه السياسي الجديد جبهة الخلاص الوطني في سياق أزمة اقتصادية تهدّد تواصل الدولة ووحدة المجتمع.

  • مشهد سياسي هشّ

المنعرج الذي عرفته تونس ومسارها الديمقراطي مع 25 جويلية/يوليو 2021 لم يكن بالحدث المفاجئ فقد انكشفت أطوار الانقلاب مفصّلة فيما عُرِف بـ"وثيقة الانقلاب الدستوري". وهي الوثيقة التي جاءت مطابقة لتحريض أمين عام التيار الديمقراطي السابق. وفيها دعا قيس سعيّد إلى تحريك الجيش والمؤسسة الأمنية لاستهداف كلّ رموز "الديمقراطية الفاسدة" بقيادة حركة النهضة التي كانت شريك حزب محمد عبو نفسه في حكومة إلياس الفخفاخ.

 

 

ورغم إنكار سعيّد المطلق لعلاقته بهذه الوثيقة "مجهولة المصدر" فقد جاء الانقلاب تطبيقًا حرفيًّا لما ورد فيها. ومنه احتجاز رئيس الحكومة هشام المشيشي واختطاف نور الدين البحيري عضو البرلمان ونائب رئيس حركة النهضة وما تلاهما من إجراءات لم تخرج عن خطّة الانقلاب الواردة في الوثيقة. حتّى صار بإمكان الرأي العام توقّع الإجراءات القادمة وهو يتابع الفوضى التي عرفتها البلاد مع الانقلاب بعين على "الواقع" وأخرى على "وثيقة الانقلاب الدستوري" في متابعة تكاد تخلو من كلّ تشويق.
 
شُبّهت علاقة المشهد السياسي بالغ الهشاشة في تونس في ظلّ الانقلاب بما كان يُروى من حكايات عن استسلام الناس المطلق في أفريقيّة (تونس) إبّان الغزو الإسباني في منتصف القرن السادس عشر الميلادي. ومنه أنّ الغازي الإسباني عندما يمسك بالتونسي بغاية ذبحه إذا انتبه إلى أنّه لا يحمل سكيّنًا فيأمر ضحيّته بأن تَلْزم مكانها (دون الحاجة إلى تقييدها فقد قيّدها رعبها) ليأتي بسكيّن، ويذهب باحثًا عن آلة الذبح فيجد الضحيّة في مكانها فينفّذ فيها جريمته.

هشاشة مريعة قيّدت المشهد السياسي في تونس بمن فيهم المدافعين غير المشكوك فيهم عن الديمقراطية الذين يتحمّلون قبل غيرهم المسؤوليّة عن تعثّر مسار بنائها

فرغم انكشاف خطّة الانقلاب بالتفصيل المذلّ كان الانقلاب تعبيرًا عن هشاشة مريعة قيّدت المشهد السياسي بمن فيهم المدافعين غير المشكوك فيهم عن الديمقراطية الذين يتحمّلون قبل غيرهم المسؤوليّة عن تعثّر مسار بنائها، وخضعوا لمعادلة ماكرة جعلت منهم شركاء في عملية الانقلاب الموجّهة إليهم باعتبارهم، عند خصومهم، من شروط الديمقراطية وعقبات في وجه عودة القديم بعد انتخابات 2019 التي ظُنّ أنّ نتائجها تعبير عن مزاج عام ينتصر لجديد مزعوم.

  • حين يكون رفض الحوار طبيعة

في هذا السياق، جاء موقف الاتحاد من دعوة سعيّد الأخيرة للحوار. وهي في حقيقتها دعوة للاتحاد وباقي المنظمات الاجتماعية إلى الالتحاق بمشروع قيس سعيّد في الانتظام القاعدي. والانخراط في خارطة طريق عرضها ويصرّ على المضيّ فيها رغم انكسار حلقتها الأولى المتمثّلة في الاستشارة بعد أن عرفت مقاطعة واسعة وتجاهلاً كاملاً من الشعب لم يثنيا سعيّد عن المضيّ في "مشروع الجمهورية الجديدة" بمحطّتيه: استفتاء على دستور بديل تكتبه لجنة من الحقوقيين برئاسة أستاذ القانون العميد الصادق بلعيد. وانتخابات تقوم على أساس التصويت على الأفراد تديرها هيئة انتخابات تفتقد لكلّ شروط الاستقلاليّة يشرف عليها من اختارهم سعيّد نفسه.

يصرّ  سعيّد على المضيّ في خارطة طريقه رغم انكسار حلقتها الأولى المتمثّلة في الاستشارة بعد أن عرفت مقاطعة واسعة وتجاهلاً كاملاً من الشعب

والصادق بلعيد الذي لم يُعرف بموقف حقوقي في مواجهة الاستبداد في عهديه البورقيبي والنوفمبري بلغ اليوم أرذل العمر مما جعل من انخراطه في مشروع الانقلاب وإشرافه على صياغة دستور بديل عن دستور الثورة سلوكًا غير مسؤول لا ضعيف الصلة بالعقل وبالمعلوم بالضرورة من القانون الدستوري وفقهه وأصوله. وهو يذكّر في هذا بالمفكّر ومعلّم الأجيال محمد الطالبي أستاذ اللغة والحضارة والأديان المقارنة. فقبل وفاته استُغلّ تقدّمُه في السنّ وما يرافقه عند البعض من ضعف عقلي وعجز عن التحكم في السلوك وبناء الفكرة ليُزَجّ به في صراع هووي غايته مزيد من تدمير ما راكمته المدرسة التونسية من صياغات في التنوير الفكري والتجديد المجتمعي بمرجعيّة الثقافة العربية الإسلامية.

إذا أردنا وجه الدقّة فإنّ اتحاد الشغل لم يرفض الحوار لا سابقًا ولا في آخر تصريح لأمينه العام. فالرافض الحقيقي للحوار هو سعيّد سواء من خلال فحوى دعوته المتستّرة بعبارة الحوار والسياق الذي وردت فيه أو من خلال علاقة سعيّد الذهنيّة بفكرة الحوار في حدّ ذاتها. ذلك أنّ رفض الحوار عند سعيّد لا يعود إلى تقدير سياسي وقراءة لمتغيّرات المشهد بقدر ما هو صورة من بنيّة نفسيّة و"نظام تفكير" لا مكانة فيه لمكوّن اسمه الحوار. فرفض الحوار عنده أقرب إلى الطبيعة والجبلّة المركوزة. ولا تبدو حقيقة سعيّد الذهنيّة والنفسيّة بخافية عن اتحاد الشغل، ولعلّه أدرك قبل غيره هذه الطبيعة من خلال دعوات الاتحاد إلى الحوار وكان تقدّم بها في ثلاث مناسبات قبل الانقلاب وبعده.

اتحاد الشغل لم يرفض الحوار لا سابقًا ولا في آخر تصريح لأمينه العام فالرافض الحقيقي للحوار هو سعيّد سواء من خلال فحوى دعوته المتستّرة بعبارة الحوار والسياق الذي وردت فيه أو من خلال علاقته الذهنيّة بفكرة الحوار في حدّ ذاتها

  • بين الاتحاد والشارع الديمقراطي

هناك تقدير غالب بأنّ اتحاد الشغل بموقفه الأخير الرافض لدعوة قيس سعيّد إلى حوار مشروط وبإقراره مبدأ الإضراب العام يتّجه إلى إعادة خلط الأوراق. والأقرب إلى حقيقة الأمور أنّ اتّحاد الشغل لم يختر الخروج من تحت سقف 25 جويلية رغم اجتماع كلّ أسباب خروجه، ورغم يقينه بأنّه لا مساحة ولو صغيرة سيمكّنه منها الانقلاب ليقف عليها إلى جواره. وقد كان بوسع قيادة الاتحاد أن تخرج في الوقت المناسب من تحت سقف الانقلاب وقد دُعِيت، في مناسبة أولى، من قبل الحراك المواطني بقيادة مواطنون ضد الانقلاب، إلى الالتحاق بالموقف الوطني المناهض للانقلاب. ودعيت إلى السقْف نفسه في مناسبة ثانية من قبل جبهة الخلاص الوطني، ولكنّ أمين عام الاتحاد وبعضًا من نائبيه في المكتب التنفيذي سارعوا إلى مهاجمة الحراك المواطني وشارعه الديمقراطي، مثلما بادروا إلى استهداف جبهة الخلاص الوطني ورئيسها أحمد نجيب الشابي.

وهذا مخالف لما كان يمرّره الأمين العام من رسائل إلى أصدقائه في الشارع الديمقراطي لم يطلبوها منه من أنّ اتحاد الشغل لن يكون في مقابل الحراك المواطني، وأنّ موقفه يتطوّر باتجاه دعم شروط الديمقراطيّة. ولكنّ كلّ تصريحاته المتعاقبة كانت مخالفة لكلّ ما أوهم به في رسائله، بل ذهب إلى ما هو أسوأ من المواقف التي كانت محلّ انتقاد شديد من أنصار الدستور والديمقراطيّة. وكأنّ الطبوبي مكلّف بالردّ على جُمَل الشارع الديمقراطي الذي لم يتردّد في تذكير الاتحاد المبادر بالعداوة إلى المسار الديمقراطي والمتبنّي لانقلاب الشعبويّة بأنّه جزء السيستام أحد أذرعه الإيديولوجيّة المتنكّرة وراء قناع نقابي.

ظلّ موقف اتحاد الشغل محكومًا بالتردّد، فلا هو قبل بعرض قيس سعيّد جملةً، ولا عبّر عن نيته في الالتحاق بالموقف الوطني المناهض

وفي ندوته الصحفيّة ليوم 25/05/2022 يؤكّد اتحاد الشغل على أنّه يرفض مرسوم قيس سعيّد الأخير ويدعوه إلى التنازل عنه من أجل "حوار تشاركي على قاعدة 25 جويلية". فالاختلاف بين الجهتين في الدرجة وليس في الاتجاه. فكلاهما معارض للانتقال الديمقراطي ولمسار بناء الديمقراطيّة. هذا ما تفصح عنه سيرة الجهتين منذ 2011 . فمثلما دعا سعيّد في 2013 إلى رحيل الجميع، وكان له ما أراد بعد أن انتُخب رئيسًا للجمهوريّة فقام بهدم التجربة بواسطة الانقلاب، ووجد موقفًا مبدئيّا من قبل المركزيّة النقابيّة. فالجهتان تتفقان حول مبدأ الانقلاب على الديمقراطيّة وتختلفان في وسائله السياسية وطبيعة الحكم المنبثق والقوى المشاركة فيه.

ظلّ موقف اتحاد الشغل محكومًا بالتردّد، فلا هو قبل بعرض قيس سعيّد جملةً، ولا عبّر عن نيته في الالتحاق بالموقف الوطني المناهض للانقلاب، بل سارع إلى موقف مقابل للشارع الديمقراطي ومروره بنجاح إلى بناء جبهة الخلاص الوطني لتستكمل مهمّة إسقاط الانقلاب وإعداد البديل الديمقراطي.

 

 

  • إزاحة سعيّد قد لا تعني إسقاط الانقلاب

تكشف الندوة الصحفيّة الأخيرة لاتحاد الشغل عن أنّ إزاحة سعيّد لا تعني عند قيادة الاتحاد إسقاط الانقلاب، وهو ما يعني اتجاهه إلى أن يكون نواة لجبهة موازية بسقف أقلّ تجْمع بين القوى الوظيفيّة الممتدّة من الدستوري الحر وصولًا إلى حزب التيار الديمقراطي، على أمل أن يلتحق بها حزبان صغيران (حركة الشعب وحزب الوطد الموحّد) اللذان لم يجدا ما انتظراه من سعيّد. وهذان الحزبان هما القيادة الفعليّة للمنظّمة الشغيلة وما الأمين العام نور الدين الطبوبي سوى صدى للوطدي سامي الطاهري والقومي سمير الشفّي الأمينين العامّين المساعدين في المركزيّة النقابيّة.

لا تخفي قيادة اتحاد الشغل انزعاجها من الحراك المواطني بشارعه الديمقراطي المتوثّب وهو يقطع نصف المسافة في طريق إسقاط الانقلاب واستعادة الديمقراطيّة. وهو حراك راكم ما لم يُتوقّع من أرصدة كفيلة بإعادة ثقة الناس بالديمقراطيّة في عمليّة تجاوز فذّة للتفريط (24 جويلية) وللتضليل (25 جويلية) باتجاه استجماع شروط سياسيّة جديدة تستقرّ عندها الديمقراطيّة.

لا تخفي قيادة اتحاد الشغل انزعاجها من الحراك المواطني بشارعه الديمقراطي المتوثّب وهو يقطع نصف المسافة في طريق إسقاط الانقلاب واستعادة الديمقراطيّة

وأيًّا كان التداخل والتخارج بين القوى السياسيّة والنقابيّة في المشهد السياسي التونسي فإنّ الجميع يعيش عمليّة عبور انطلقت مع الثورة باتجاه مرحلة جديدة يموت معها قديم ويولد في سياقها جديد. وهذا مسار عسير لكنّه غير قابل للارتداد، وإن تعثّر. فتونس والمجال العربي مشدودان إلى سياق عام هو سياق بناء الديمقراطيّة وهو سياق تاريخي تبدو فيه القوى المضادّة لتأسيس الحريّة وبناء الديمقراطيّة ردّة فعل. قد تنجح في إرباكه وتعطيله ولكنّها لا يمكن البتّة أن تبدّل وجهته.
 
لم يستقرّ مشهد الديمقراطيّة التمثيليّة في عشريّة الانتقال في المجال السياسي الرسمي (لعب في نصف الميدان)، وكان سعيّد بخطابه الشعبويّ الجهة الوحيدة بعد انحسار تجربة الدكتور المرزوقي وانكفائها، المنافس الوحيد للشارع الديمقراطي في الهامش المفقّر. وهو الشارع المنتبه، تحت صدمة الانقلاب، إلى أنّ جوهر المشروع الوطني يكون بتوحيد البلاد بإعادة بناء الدولة لكي تغطّي مجاليها الثقافي والاجتماعي فتكتسب صفة الوطنيّة عن جدارة ولأوّل مرّة منذ نشأتها.

الانقلاب لا يعارض. الانقلاب يقاوم، لأنّه لا يمنح مناهضيه إلاّ أسلوبًا واحدًا هو المقاومة. وهذا ما كان من شأن الشارع الديمقراطي معه، فمن خلال مقاومة الانقلاب يكتشف حقيقة الانقسام. ولعلّه من مظاهر الوعي الكامن أن كانت نواة "مواطنون ضدّ الانقلاب" الأولى تحمل بذرة "المشترك الوطني" أحد أهمّ شروط الانتقال الديمقراطي ونجاحه، فجمعت قيادة الحراك المواطني بين الإسلامي واليساري والعروبي والليبرالي والمستقل إيديولوجيّا. ومثلما جمعهم الدفاع عن شروط الديمقراطيّة والنقد الجذري لسنوات الانتقال العشر، انتبهوا بعد 2011 إلى أنّهم يشتركون في مغادرة "المشروع الإيديولوجي" باتجاه "المشروع الديمقراطي".  

 

 

  •   المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"