24-فبراير-2021

هل لوسائل الإعلام استراتيجية واضحة المعالم تهدف إلى إبراز القدوة الإيجابية وتقدمها بشكل مقنع يساعد على قبولها والاقتداء بها؟ (Getty)

 

عرفت البلاد التونسية منذ حوالي عشر سنوات، انتفاضة، أو حراكًا ثوريًا، انتهى بتغيير نظام سياسي، حكم البلاد أكثر من 50 سنة، غير أن هذا التغيير على المستوى السياسي لم يتبعه تغيير ذهني وثقافي، ولعل هذا أحد أسباب تواصل الأزمة التي تعيشها البلاد على عديد المستويات أو ربما تفاقمها.

في هذا الإطار سنحاول من خلال هذا المقال الحديث عن أهمية وسائل الإعلام، المرئية منها بالخصوص، في المساهمة في تغيير ذهنية وثقافة الجماهير وتطوير بنياتهم العقلية، لجعلهم مهيئين ومتقبلين للتغيير. فكيف يكون ذلك؟

في البداية لا بد من التأكيد على أن تغيير النظام السياسي لا يمكن أن تتبعه بصفة آلية تنمية اجتماعية، واقتصادية، وثقافية... وكان لا بد منذ اللحظة الأولى للتغيير الانطلاق في تحديث البنية الذهنية للمجتمع لتحريك عجلة التنمية الشاملة، وهذا لا يمكن إلا من خلال توفر نماذج من القدوات الإيجابيّة أو القدوة الرشيدة التي يجب على أفراد المجتمع الاقتداء بها، خاصة في مجال العمل والإنتاج. فعديد التجارب المجتمعية أثبتت أن من بين شروط الخروج من الأزمات القدرة على التأثير الإيجابي في المحيط وتقديم المرجعية المقنعة.

كان لا بد منذ اللحظة الأولى للتغيير الانطلاق في تحديث البنية الذهنية للمجتمع لتحريك عجلة التنمية الشاملة، وهذا لا يمكن إلا من خلال توفر نماذج من القدوات الإيجابيّة والرشيدة

وقد دافع عن هذه الفكرة عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم حين قال إن المجتمع يتحدد من خلال مثله الأعلى. ولا شك أن وسائل الإعلام، المرئية منها بالخصوص لها دور كبير في إبراز المثل الأعلى أو نموذج القدوة الاجتماعية، التي يجب على باقي أفراد المجتمع السير على خطاه والاتصاف بصفاته.

وهنا لا بد من أن نتساءل هل أن لوسائل الإعلام استراتيجية واضحة المعالم تهدف إلى إبراز القدوة الإيجابية وتقدمها بشكل مقنع يساعد على قبولها والاقتداء بها؟ لكن قبل هذا لا بد أن نتساءل عن تمثلات الشباب التونسي للعمل وسبل تحصيله للثروة.

اقرأ/ي أيضًا: ما العمل ليكون لنا التلفزيون الذي نستحق؟

من خلال المعيش اليومي لاحظنا أننا نعيش في عصر تلاشت فيه المسالك العقلانية والمشروعة لتحصيل الثروة، وظهرت تمثلات اجتماعية تحتقر العمل والجهد، إذ يشير "جيل ليبوفتسكي إلى "أن الإيمان بالمهنة أو العمل أصابه الفتور فمن منا مازال يؤمن بالعمل حينما نعرف نسب الغياب والدوران الوظيفي، وعندما نرى تزايد الحماسة للعطل وعطل نهاية الأسبوع وأنشطة الترفيه، وحينما تصبح الإحالة على التقاعد تطلعًا جماهيريًا بل مثلًا أعلى؟"[1] وأي قيمة ظلت لعمل لا يحقق للعامل كرامته، ولا يمكنه من تحقيق الثروة؟

لقد دمر النموذج المثالي الذي بناه عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر في مجال مراكمة رأس المال والثروة إذ يشير إلى أن التعطش إلى الربح وكسب المزيد من المال طبيعة بشرية غير أنه ليس من روح الرأسمالية في شيء، إذ أن هناك طرقًا عقلانية في الوصول إلى الثروة وتحقيقها. فصحيح أن الرأسمالية مرادفة للربح السريع، ربح دائم القدرة على التجديد، من خلال مؤسسة ثابتة، عقلانية ورأسمالية، تبحث عن المردودية. ففي ظل نظام اقتصادي رأسمالي يحكم بالزوال على كل مشروع رأسمالي لا تحركه دوافع البحث عن المردودية. ولتحقيق ذلك لا بد من تعليم النشء ما يلي:

  • الاحتراس من عدم يقينية الثروة.
  • التعود على العمل والحذر من البطالة.
  • تعلم كل مرء مهنة تتناسب مع موقعه الاجتماعي.
  • الحذر من الطمأنينة أو الراحة في التملك، والتمتع بالثروة.
  • ضرورة استثمار الوقت وعدم تبديده في ثرثرات غير مجدية، وفي الترف، بل في النوم ما يزيد عن حاجة الجسد، وحتى التأمل غير الفاعل جدير بالذم إذا تم على حساب العمل اليومي.[2]

إلا أن ذلك التعطش الذي تحدث عنه ماكس فيبر يقابله ميل إلى الكسل، ورغبة في جني المال، بل وأقصى ما يمكن من المال، بأقل جهد ممكن.

يميل الشباب اليوم  للحصول على الثروة  بأساليب غير سويّة، مما ينتج "ظاهرة المال القذر" التي تعطي انطباعًا بالسعادة الاجتماعية، لكنها في الواقع سعادة وهميّة تتأتى من الوصول إلى المال اعتمادًا على الحد الأدنى من الجهد

يظهر هذا من خلال ميل الشباب للحصول على الثروة  بأساليب غير ذكيّة وغير سويّة. الأمر الذي ينتج ظاهرة جديدة يمكن أن نسميها "ظاهرة المال القذر" التي تعطي انطباعًا بالسعادة الاجتماعية. لكنها في الواقع سعادة وهميّة تتأتى من بعض سلوكيات الاحتيال والارتشاء والوصول إلى المال اعتمادًا على الحد الأدنى من الجهد"[3].

  في هذا الإطار يمكن أن نشير إلى بعض السبل القديمة التي اعتمدها التونسيون وخاصة الشباب لتحصيل الثروة، ولعل أبرزها البحث عن الكنوز، أو ما أطلق عليه المنصف وناس "هوس الكنوز"، إذ يلجأ العديد من الفئات جماعات وأفراد، وخاصة الشباب منهم إلى نبش القبور والجبال وبعض المناطق الأثرية بحثًا عن كنز، أو "قرض من تحت الأرض" كما يقول الكثير. وتأكيدًا لهذا تم نبش ثمانية مساجد، في أشهر قليلة من سنة 2008، في جزيرة جربة.[4]

ومن بين السبل الأخرى مسابقة الرهان الرياضي التي انطلقت في تونس  سنة 1984. ومنذ تلك الفترة إلى يومنا هذا والشباب التونسي ينكب على تعمير قصاصات، أملًا في الفوز بآلاف الدينارات القادرة على تغيير مجرى حياته التي لم يستطع تغييرها من خلال العمل أو الجهد البدني أو العقلي.

وفي السنوات الأخيرة تراجعت مسابقة الرهان الرياضي أمام أنواع جديدة من المسابقات التي فرضتها العولمة وتطور تكنولوجيات الإعلام والاتصال، وتتمثل أساسًا في الرهان الإلكتروني، إذ ظهرت منذ منتصف العقد الثاني من الألفية الثالثة مسابقات مثل "بي وين" و"روليت" و"بلانات"، وأصبحت ملجأ الآلاف من شباب تونس الخارج من عمق الفقر والإهمال.[5]

إن الشعور بمحدودية الموارد وعدم العدالة في توزيعها يهيئ البيئة لانتشار مثل تلك الظواهر، كما يساعدان كثيرًا على خلق حالة من التعوديّة habitus من أجل تقبل مثل ذلك السلوك والشعور بأن كل شيء مباح في سبيل تحقيق الثروة[6]  ولتجاوز مثل تلك المظاهر التي تدمر قداسة العمل وتحقر من شأن الإنتاج، لا بد من إبراز القدوة الإيجابية والإقناع بها والإعلاء من خلالها من قيمة العمل والجهد والإنتاج.

ويكون هذا من خلال مؤسسات التنشئة الاجتماعية وخاصة وسائل الإعلام، التي كان من المفروض أن تعتمد على استراتيجية وطنيّة تهدف إلى الإعلاء من شأن القدوة الإيجابيّة والعمل على إبرازها وتقديمها بشكل حداثي وعقلاني مقنع يساعد على قبولها والاقتداء بها.[7]

اقرأ/ي أيضًا: ملف: مستقبل الصحافة التونسية بعد انتخابات 2019 - سطوة "الكرونيكور" (3/3)

غير أنه من خلال متابعتنا لبعض المضامين الإعلامية والمتمثلة أساسًا في البرامج التلفزيونية، لاحظنا ميل القائمين على إنتاجها إلى استضافة شخصيات وصلت إلى الثروة والنجومية بأقل جهد ممكن أو من خلال الصدفة.

 كان من المفروض على وسائل الإعلام أن تعتمد على استراتيجية وطنيّة تهدف إلى الإعلاء من شأن القدوة الإيجابيّة والعمل على إبرازها وتقديمها بشكل حداثي وعقلاني مقنع يساعد على قبولها والاقتداء بها

والأخطر من هذا أنهم يقدمونهم في شكل نماذج اجتماعية وظواهر استثنائية، وأمثلة للنجاح. ففي أحد البرامج التلفزيونية على قناة خاصة، يسأل المنشط ضيفته عن مصدر ثروتها فتجيب: "أنا كي نهبط على "الانستغرام"  Instagram نغسل في شعري بـ Shampoing  ولا شناخذ الحرابش متاع شعري، نخلص عليها تسع ملاين تونسية...".

وتضيف لاحقًا "كي تحطهم الكل les chroniqueurs مع بعضهم وتلم شهريتهم الكل في بعضهم يجو حق shooting متاعي... أنا وصلت لـ niveau  في تونس ما وصلو حتى حد".

وفي برنامج آخر في قناة تلفزيونية أخرى، يستضيف المنشط شابًا يمتهن نوعًا جديدًا من المهن، تتمثل في بث جلسات لعبة مباشرة للمشاهدين من خلال وسائط أو منصات التواصل الاجتماعي مثل youtube، وما بات يعرف بـ streamer ويقدمه بالطريقة التالية:

"ضيفنا ظاهرة استثنائية غريبة شوية لأنه قاعد يعمل في أرقام كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي Streamer تونسي مثير للاهتمام..."

ويعرف هذا الشاب في إطار حديثه مع المنشط مهنته بقوله "إنت تلعب في لعبة والعباد تتفرج فيك وإنت تلعب في اللعبة هذيكا أما مش أي لعبة"

وكإجابة على سؤال المنشط عن سبب مشاهدة الناس له، يجيب "يقصر الوقت، أنا نشد العبد نخليه يقعد يتفرج فيا، خاطر يعمل جو..."

هذا الشاب الذي بدأ مهنته الجديدة برأس مال لا يتجاوز 4 ألاف دينار، أصبح يتحصل على أكثر من 5 ألاف دينار شهريًا، في حين أنه ينام الساعة الثامنة صباحًا ويستيقظ الساعة السابعة مساء، ورسب في امتحان الباكالوريا بمعدل 0.86  ورغم ذلك يرى نفسه إنسانًا ناجحًا ونموذجًا للشباب، إذ يجيب على أسئلة المنشط كالتالي:

  • المنشط :  - يعني انت راك ماكش نموذج باهي للشباب
  • الضيف: - لا نموذج باهي... من الأول حتى أنا كنت في بالي إني منيش نموذج باهي
  • المنشط: - معناها ليوم ينجم يقوم واحد ينبر علينا ويقول إنتوما قاعدين تجيبوا في ناس ما عندهم حتى شيء
  • الضيف: - تجيب في ناس ناجحة انت ماكش تجيب في ناس. ياخي يلزم قاري ولا موش قاري، تجيب في عبد ناجح

بناء على ما سبق ذكره، يمكن أن نقول إن وسائل الإعلام تعمل على إبراز نماذج اجتماعية جديدة، إننا بصدد تشكيل طرق جديدة للوصول إلى الثروة، طرق لا تعتمد على تقديس الجهد والعمل، وتحطم النموذج المثالي الذي وضعه "ماكس فيبر"، والذي قدمنا حوصلة له سابقًا.

هنا يمكن أن يتساءل أي شاب  لماذا يجهد نفسه اليوم في العمل مدة 8 ساعات يوميًا ليجني في نهاية كل شهر أجرًا لا يتجاوز في أغلب الأحيان ألف دينار، في حين أنه قادر على جني تسع ألاف دينار من خلال مقطع فيديو يحمله على "الانستغرام"، أو أي شبكة أخرى من شبكات التواصل الاجتماعي؟

وإن الأمر لا يتوقف هنا، إذ تعمل وسائل الإعلام على جعل الحمقى مشاهيرًا، يكفي اليوم أن تصادفك كاميرا برنامج معين، تروي من خلالها نكتة فيها تعدٍّ على جملة من القيم الاجتماعية والوطنية، تنقل على شبكة اليوتيوب، وتحقق نسب مشاهدة عالية، فتصبح في قادم الأيام نجمًا قارًا في برنامج تلفزيوني.

اقرأ/ي أيضًا: كيف أصبح التلفزيون التونسي "رديئًا"؟

فأحدهم قدم لأحد البرامج اقتراحًا لتجاوز الأزمة التي تعيشها البلاد، وقد كان اقتراحه كالآتي "أحنا ماناش برشا 12 مليون تونسي يهزونا 5 ملاين 5 ملاين يفرقونا على الدول أحنا رانا ريتنا بكراهبنا بكاميراواتنا بإذاعاتنا بـ انت معانا (المذيع) ما نجوش نهج في الصين... يولو أحنا يفرقونا على الدول الأخرى ويهبطو هذه (البلاد) يبيشوها يزرعوها دلاع بطيخ، يخضروها سانية متاع لفت..." ورغم أنه اقتراح في شكل نكتة فيها تعدٍّ على الوطن والوطنية، إلا أنه حقق نسب مشاهدة عالية على شبكة "اليوتيوب" وصلت إلى 12 مليون مشاهدة، كانت كفيلة بأن يصبح صاحب تلك النكتة نجمًا قارًا في برنامج "العبدلي شوتايم".

الأخطر من مضمون بعض المواد الإعلامية هي أنها تبثّ رسالة مفادها أن أي شخص مهما كان مستواه العلمي والثقافي، يمكن أن يصبح مشهورًا في فترة وجيزة جدًا، ويستفيد ماديًا، رغم أنه لا يقدم أي إضافة للمجتمع

والنكتة كما يقول المنصف وناس تنهي المشكل وتعفي الأفراد من التفكير الجدّي في الواقع. ولعل هذه غاية الإعلام اليوم، الذي يسعى إلى تحويل وجهة الناس عن التفكير الجدّي في الأزمة التي تعيشها البلاد منذ سنوات، وينهيها.

إن الأخطر من مضمون تلك المادة الإعلامية هي أنها تبثّ رسالة مفادها أن أي شخص مهما كان مستواه العلمي والثقافي، يمكن أن يصبح مشهورًا في فترة وجيزة جدًا، ويستفيد ماديًا، رغم أنه لا يقدم شيئًا للمجتمع سوى الإضحاك بأشياء هي في الأساس غير مضحكة.

إننا بصدد تشكيل طرق جديدة للوصول إلى الشهرة، طرق لا تعتمد على العمل، والعطاء، والاكتشاف، إذ لم تعد الكتابة، أو البحث العلمي والتكنولوجي، سبب الشهرة، بل أغنية رديئة، أو نكتة فيها استهتار بالمعايير الاجتماعية والوطنية.

أخيرًا يمكن أن نقول إن البرامج التلفزيونية التونسية، لا تعمل على الإعلاء من شأن النماذج الاجتماعية الإيجابية، وهي بالتالي لا تعمل وفق استراتيجية وطنية للإعلاء من القدوة الرشيدة، بل بالعكس تعمل على إبراز نماذج اجتماعية سلبية، تصل إلى الثروة من خلال طرق غير عقلانية، وإلى الشهرة من خلال الصدفة. إننا في عصر أصبح فيه معيار استدعاء شخص لبرنامج تلفزيوني ما، يقتصر على نسب المشاهدة التي سيحققها ذلك الشخص، وبناء عليه يتم استدعاء شخصيات موغلة في التفاهة، ويستبعد المثقفون من الشاشة.

المصادر والمراجع:

[1]  جيل ليبوفتسكي، عصر الفراغ الفردانية المعاصرة وتحولات ما بعد الحداثة، ترجمة حافظ إدوخراز، مركز نماء للبحوث والدراسات، بيروت، لبنان، ط 1، 2018، ص 38.

[2]  ماكس فيبر، الأخلاق البروتستنتية وروح الرأسمالية، ترجمة محمّد علي مقلد، مركز الإنماء القومي، بيروت، لبنان، صص 44، 135.

[3]  منصف ونّاس، الشخصية التونسية محاولة في فهم الشخصية العربية، الدار المتوسطية للنشر، تونس، ط 3، 2014، ص 144.

[4]  أنظر، نفس المرجع، ص 110.

[5]  أنظر، ليليا الحسيني، المراهنات الالكترونية ملجأ "الحالمين بالثروة" في تونس، سكاي نيوز عربية، 5 ديسمبر 2020، https://www.youtube.com/watch?v=u9iIZIzngCI&t=586s

[6]  منصف ونّاس، مرجع سابق، ص 151.

[7]  نفس المرجع، ص 244.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"الخبير".. صناعة سلطة التلفزيون الجديدة؟

"الكرونيكور" في تونس.. من يقدم الإثارة أكثر؟