11-مارس-2019

لم يعد التحدي في تطوير قطاع الصحة بل في إيقاف نزيف التدهور المستمر (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

مأساة بكل ما للكلمة من معنى عرفتها تونس بعد "فاجعة الرابطة" التي أودت بحياة 11 رضيعًا نتيجة تعفّنات سارية في الدم تسببت سريعًا في هبوط في الدورة الدموية، وفق التحقيقات الأولية لوزارة الصحة. ويُرجح، مبدئيًا، أن مصدر هذه التعفنات يعود إلى خلطات تغذية وريدية تم إعدادها في مخبر المركز في ظروف لم تحترم شروط السلامة ومعايير التعقيم وترتب عن ذلك انتقال جرثومة قاتلة في محاليل التطعيم والتغذية ما أودى بحياة 11 رضيعًا حتى الآن وهي حصيلة مرشحة للارتفاع.

ليس هذه المأساة هي الأولى في قطاع الصحة العمومية في تونس، فقبل سنتين تفجرت فضيحة اللوالب القلبية منتهية الصلوحية والتي فُتح فيها تحقيق لم يسفر عن تتبعات جدية، ثم تلتها فضيحة البنج الفاسد التي أودت بحياة العشرات. تنهار المنظومة الصحية شيئًا فشيئًا تحت الفضائح المتواصلة، ويفقد المواطن ثقته في المرفق الصحي بصفة مستمرة في ظل صمت مريب من أصحاب القرار.

ليست "فاجعة الرابطة" الأولى في قطاع الصحة العمومية فقد سبقتها خلال السنوات الأخيرة فضيحة اللوالب القلبية منتهية الصلاحية وفضيحة البنج الفاسد

"فاجعة الرابطة" أعادت مرة أخرى الأنظار إلى قطاع حيوي يُعتبر، إلى جانب التعليم، من أكثر القطاعات الدالة على تقدم الشعوب. جذبت هذه الفضيحة أنظار الصحافة العالمية، فيما استقال وزير الصحة عبد الرؤوف الشريف الذي لم يمض على دخوله للوزارة 6 أشهر، وذلك مع تكوين لجنة تحقيق حول هذه الكارثة الوطنية بكل المقاييس.

رئيس الجمعية التونسية لمساعدة ضحايا الأخطاء الطبية صابر بن عمار قال في تصريح سابق: "لقد تجاوزنا اليوم مرحلة الأخطاء الطبية التقليدية والتي نحذر منها منذ سنوات بعد تفاقم ضحاياها لتصل إلى 7000 حالة خطأ طبي سنويًا إلى مرحلة الجرائم الصحية المنظمة والخاضعة لمافيات وعصابات تتمعش من المريض وتسلب التونسي حياته أو تضعه على كرسي متحرك دون أن يرف لها جفن". ووصف ذلك بأنه إرهاب ينخر الدولة "فبعد إرهاب داعش، نقع تحت سطوة إرهاب صحي لا يرحم"، على حد تعبيره.

اقرأ/ي أيضًا: في مستشفى سليانة.. غياب طب الاختصاص يعمّق أوجاع المرضى

قمتُ، قبل سنتين، بزيارة لمستشفى سيدي بوزيد ففوجئت بأن نسبة هامة من الأطباء هم من الجنسية الصينية الذي أرسلتهم الدولة للعمل في سيدي بوزيد بسبب ضعف طب الاختصاص في المحافظات الداخلية. كان الوضع أشبه بأزمة بالنسبة للمواطنين فالأطباء لا يحذقون اللغة العربية ولكنهم يتحدثون الفرنسية بصعوبة، وكان الرابط الوحيد بين المرضى والاطباء هي ممرضة تبذل مجهود كبيرًا لترجمة كلام الاطباء.

مشهد صعب يلخص، في جانب من جوانبه، عمق أزمة المنظومة الصحية في تونس. تساؤلات عدة مطروحة منذ سنوات عديدة، لماذا لا يتطور قطاع الصحة العمومية رغم تواتر عدد كبير من الوزراء؟ ومتى يُنقذ هذا القطاع الحيوي الذي يلجأ إليه المواطن لمعالجة مرضه وحفظ صحته؟

ميزانية وزارة الصحة في انخفاض مستمرّ

قُدرت ميزانية وزارة الصحة في قانون الميزانية لسنة 2019 بـ2.055 مليار دينار، وهي تمثل نسبة 5.04 في المائة فقط من مجموع الميزانية، أي أقل من السنوات الأخيرة إذ انخفضت النسبة من 6.01 في المائة في ميزانية 2016 إلى 5.51 في المائة في ميزانية 2017 وثم 5.24 في ميزانية 2018، ما يبيّن أن نسبة ميزانية وزارة الصحة في انخفاض سنوي مستمر.

و ككل ميزانيات الوزارات، تذهب أكثر من 80 المائة من ميزانية وزارة الصحة إلى نفقات الأجور والتصرف، فيما تبلغ الاعتمادات المخصصة لتطوير القطاع وبناء مستشفيات جديدة وتدعيم مستشفيات أخرى بأقسام جديدة ومعدات 269 مليون دينار.

توزيع نفقات وزارة الصحة في ميزانية 2019

8 في المائة من ميزانية الوزارة لا يمكن، بأي حال من الأحوال، أن تصلح قطاع الصحة المنهار، ولا يمكنها قطعًا إعادة تهيئة المؤسسات الطبية وتطبيق نظام صحي جديد أو تطبيق استراتيجية تقوم على تحديث القطاع الصحي في تونس. عدا أن الاعتمادات المرصودة لخلاص الدين العمومي تعادل أكثر من 4 أضعاف ميزانية وزارة الصحة وهو ما يعطي صورة حقيقية عن الوضع المالي للبلاد.

توجد تحديات مالية إذا ما قررت الحكومة الحالية أو القادم وضع القطاع الصحي في قائمة الأولويات، ولكنها تحديات يمكن مواجهتها على اعتبار الحاجة القصوى لإنقاذ قطاع الصحة العمومية ومنه إنقاذ حياة المواطن.

مقارنة بين نسبة الدين العمومية ونسبة ميزانية وزارة الصحة في ميزانية الدولة لعام 2019

أهل المهنة يطلقون صفارة الإنذار

تواصل تراجع القطاع الصحي وانهيار جودة الخدمات الطبية في القطاع العمومي جعلت الدكتور ذاكر لذيهب، الطبيب بالمستشفى العسكري ينشر تدوينه على حسابه على مواقع التواصل الاجتماعي، تحدث فيها عن حالة إحباط وعجز جراء وفاة المرضى المصابين بضيق الصمام الأبهري غير القادرين على تحمل جراحة بالقلب المفتوح، مشيرًا إلى توقف عمليات زرع الصمام بدون جراحة في تونس نظرًا لارتفاع تكاليفها بعد انهيار الدينار وعدم تحمل صندوق التأمين على المرض الكنام للمصاريف".

الطبيب أشار لمفارقة وهي أن تونس كانت رائدة في إفريقيا بالقيام بأول عملية من هذا النوع "لكن من لا يتقدم يتأخر وينهار" كما يقول.

كما نشرت طبيبة متربصة، إثر "فاجعة الرابطة"، فيديو على حسابها على فيسبوك لاقى انتشارًا واسعًا تحدثت فيه عن مشاكل عديدة عاينتها في المستشفى من غياب لأبسط التجهيزات والأدوية الضرورية للتعامل حتى مع الجروح البسيطة، وأشارت أنها تضطر لاستعمال قفازة طبية واحدة لأكثر من طبيب مع الحرص على تعقيمها في كل مرة والحال أنه يجب استعمال قفازة لكل طبيب خشية انتقال الأمراض والفيروسات.

إخلالات عديدة.. لكن أين المحاسبة؟

تقرير دائرة المحاسبات لعام 2017 حول مستشفى عزيزة عثمانة كشف جانبًا من إخلالات وتجاوزات خطيرة في واحد من أهم المستشفيات الحكومية في العاصمة. تحدث التقرير عن تعفنات بقسم أمراض الدم ساهمت في وقت سابق بوفاة 105 مرضى. ورصد إخلالات كبيرة فيما يتعلق بشروط الصحة تعلقت خاصة بالبنية الأساسية ومعالجة المعدات الطبية والمساحات وهو من شأنه أن يؤدي إلى تعفنات إستشفائية بمختلف أنواعها علمًا وأن النسبة العامة للمطابقة لمتطلبات حفظ الصحة بالمستشفى تراجعت من 86 إلى 51 في المائة بين سنتي 2015 و2017.

تقارير ودراسات عديدة كشفت إخلالات في قطاع الصحة العمومية في ظلّ محدودية أثر الإصلاحات المُعلنة واستشراء مناخ الإفلات من العقاب

وفي علاقة بـ"فاجعة الرابطة"، سجلت دراسة علمية عام 2015 عديد الإخلالات في المستشفيات التونسية بخصوص إعداد خلطات التغذية الوريدية لحديثي الولادة وكيفية مراقبتها، وبينت أن 25 في المائة فقط من إعداد هذه الخلطات تتم تحت المسؤولية الصيدلانية بل أن 12.5 في المائة فقط منها تتم في ظل نظام ضمان الجودة في المستشفيات التونسية.

اقرأ/ي أيضًا: تقرير دائرة المحاسبات: 10 خروقات خطيرة في مستشفى عزيزة عثمانة

يظل السؤال دائمًا حول استتبعات مثل هذه التقارير والدراسات، وإذا ما فُتحت تحقيقات إدارية أو قضائية، وذلك في ظل مناخ الإفلات من العقاب الذي يعطي رسالة خاطئة إلى المسؤولين المتورطين أو المتهاونين.

لم تتمكن حالة التذمر بين المواطنين وانتقادات وسائل الإعلام من تحقيق أي نتيجة تذكر منذ سنوات، ولا تزال الدولة تؤكد أن تطوير الرعاية الصحية من أبرز محاور خططها التنموية التي تحاول تنفيذها، لكن المواطنين لم يلمسوا أي تقدم يذكر.

وتشير دراسات كثيرة إلى أن ديون المستشفيات المتراكمة، التي يبلغ عددها 166، إلى جانب 2100 مركز صحي وفق بيانات وزارة الصحة، تجاوزت 600 مليون  دينار. وتؤكد أنها لم تعد تصلح لتقديم الخدمات الطبية وتحتاج لإصلاحات عاجلة.

قيمة الديون المتراكمة لدى المؤسسات الصحية العمومية

هل نقول وداعًا لمنظومة الصحة العمومية؟

قصور في الميزانية وقصور في الإرادة السياسية حال طبعًا دون تطوير قطاع الصحة بل بدأت المنظومة الصحية في تونس بدأت تنهار شيئًا فشيئًا، ولعل أهم دليل ما قاله وزير الصحة المستقيل عبد الرؤوف الشريف صراحة "ما لم يتم الوقوف جديًا وإصلاح قطاع الصحة في 2019 فسنقول وداعًا للمنظومة الصحة العمومية في تونس".

وزير الصحة المستقيل: ما لم يتم الوقوف جديًا وإصلاح قطاع الصحة في 2019 فسنقول وداعًا لمنظومة الصحة العمومية في تونس

من جهة أخرى، قال الكاتب العام للنقابة العامة للاطباء والصيادلة وأطباء الأسنان سامي السويحلي إن تردي الأوضاع داخل المستشفيات العمومية وتراجع مستوى الخدمة الصحية المقدمة ونقص التجهيزات والمعدات الطبية وغياب أرضية عمل جيدة ونقص الانتدابات علاوة على حملات التشويه التي تطال المستشفيات، كلها عوامل ساهمت في هيمنة القطاع الخاص بتشجيع من الحكومات المتعاقبة، وفق تأكيده.

لم يعد التحدي في تونس تطوير قطاع الصحة العمومية الذي لاطالما تفاخر به التونسيون قديمًا بل بات إيقاف نزيف مسلسل التدهور المستمر وإنفاذه قبل فوات الأوان. فلم يعد الخطر يهدد الكبار فقط بل بات يطال اليوم أطفال رضع بالكاد فتحوا أعينهم في الحياة حتى غادروها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

تونس.. المنظومة الصحية تنهار والإصلاح الجذري مفقود

نقص توفر الأدوية.. سياسة الموت البطيء في تونس؟