07-سبتمبر-2023
السجون في تونس

تعدّ تونس 34 سجنًا من بينها 6 مراكز لإيواء الأطفال الجانحين (getty)

 

لطالما مثلت العقوبات السالبة للحرية موضوع بحث معمق للعديد من المنظمات الحقوقية المحلية والعالمية خاصة في ظل ارتفاع عدد نزلاء السجون في تونس واحتلال البلاد المرتبة الثالثة مغاربيًا في عدد السجناء الذي يبلغ حوالي 20755 سجينًا وفقًا لإحصائيات المعهد الدولي للبحث في السياسات الجنائية، وهو رقم مرتفع جدًا مقارنة بعدد سكان البلاد الذي لا يتجاوز 12 مليون نسمة. 

في الوقت الذي تسعى فيه الحكومات المتعاقبة في تونس إلى إنشاء وحدات سجنية جديدة، يطالب الحقوقيون بعقوبات بديلة تكون أنجع في تحقيق هدف الحدّ من الجريمة

ويتم في كل مرة تسليط الضوء على العقوبات السجنية على اعتبار أنها لم تنجح في ردع المساجين عن العَوْد ولا في الحد من نسبة الجرائم والمخالفات، كما تسببت في إلحاق الضرر بالعديد من المساجين الذين يقعون فريسة لتجار المخدرات والإرهاب وغيرهم، علاوة على أن تفاقم عدد المساجين نتج عنه اكتظاظ غير مسبوق في السجون التونسية فاق طاقة استيعاب السجون بنسبة 170% وهو ما يزيد في تدهور وضعية المساجين الذين نفذوا في أكثر من مناسبة إضرابات جوع تندد باكتظاظ السجون وسجنهم في ظروف لا إنسانية. 

وتعدّ تونس 34 مؤسسة سجنية من بينها 6 مراكز لإيواء الأطفال الجانحين فيما تعمل وزارة العدل على الترفيع في عدد الأسرة المخصصة للمساجين علمًا وأن الهيئة التونسية للوقاية من التعذيب كانت قد أكدت أن 5 آلاف سجين فقط لديهم أسرّة، فيما ينام البقية على الأرض. وفي الوقت الذي تسعى فيه الحكومات المتعاقبة إلى إنشاء وحدات سجنية جديدة وتوفير ظروف أفضل للمساجين، يطالب الحقوقيون بعقوبات بديلة تكون أنجع في تحقيق هدف الحد من الجريمة وإصلاح المجتمع برمّته.

 

السجون في تونس
رئيس جمعية "معاك" للحد والتوقي من الجريمة لـ"الترا تونس": نسبة العَوْد للمساجين تقدّر بـ40% وفقًا لإحصائيات وزارة العدل وهي نسبة مرتفعة

 

وقد أفادت ورقة بحثية لجمعية "معاك" لتونس خضراء وآمنة، بأن السجين الواحد يعادل عشرة مقاعد دراسة شاغرة في قسم التعليم الأساسي على اعتبار أن تكلفة السجين الواحد تقدر بـ 15 ألف دينار في السنة وهي التكلفة نفسها لعشرة تلاميذ، معتبرة أن هذه التكلفة عبء اقتصادي كبير على البلاد في ظل ارتفاع نسبة العَوْد لـ 40% علاوة على التكلفة المجتمعية والأمنية لهذه الظاهرة.

  • تكلفة سجين واحد تغطي نفقات 10 تلاميذ ابتدائي

أفاد مصطفى بن الزين رئيس جمعية "معاك" للحد والتوقي من الجريمة أنه في إطار التشخيص الشامل لمنظومة العدالة، تبيّن للجمعية أن نسبة العَوْد للمساجين تحوم حول 40% وفقًا لإحصائيات وزارة العدل وهي نسبة مرتفعة لها تكلفة أمنية واجتماعية واقتصادية مشيرًا إلى أن تكلفة السجين الواحد في اليوم تقدر بـ 50 دينارًا أي ما يعادل 18250 دينار سنويًا لكن الجمعية ارتأت حسب خطتها التواصلية أنه من الأنجع الحديث عن 15 ألف دينار للسجين في السنة لتسهيل المقارنة.

رئيس جمعية "معاك" لـ"الترا تونس": تكلفة التلميذ في الابتدائي تقدر بـ 1500 دينار سنويًا، وبالتالي فإن كلفة السجين الواحد تعادل تعليم 10 تلاميذ في الابتدائي

وبيّن بن الزين في حديثه لـ"الترا تونس"، أن تكلفة التلميذ في الابتدائي تقدر بـ 1500 دينار سنويًا، وبالتالي فإن كلفة السجين تعادل تعليم 10 تلاميذ في الابتدائي، وهو ما أثار التساؤل لدى الجمعية حول نجاعة العقوبة السالبة للحرية، مشددًا على أن الجمعية تسعى للحد والتوقي من الجريمة عبر سياسات مبنية على دراسات علمية وتؤمن بأن بعض العناصر وجب عزلها عن المجتمع لكن في السياسة الجنائية هناك نوع من الرصانة ودقة في التعامل مع الجريمة عمومًا على اعتبار أن بعض الجرائم تستوجب عقوبات سالبة للحرية والبعض الآخر يستوجب ترشيد التجريم.

وتحدث رئيس الجمعية عن نسبة الاكتظاظ في السجون التي تبلغ 130% في سائر المؤسسات السجنية و180% في سجن المرناقية وهو ما يخلق العديد من الإشكاليات تطال حتى أعوان السجون وجودة العمل، مبينًا أن الجمعية تؤمن بأن الحل الأنسب هو تفعيل العقوبات البديلة كوسيلة أساسية للعقاب في الجرائم ذات الصبغة الاقتصادية واستهلاك المخدرات والجرائم التي تكون عقوبتها ما بين 6 أشهر وسنة سجنًا لأنها لا تستدعي عزل الإنسان عن المجتمع.

رئيس جمعية "معاك" لـ"الترا تونس": نؤمن بأن الحل الأنسب هو تفعيل العقوبات البديلة للعقاب في الجرائم التي تكون عقوبتها ما بين 6 أشهر وسنة سجنًا أو ذات الصبغة الاقتصادية واستهلاك المخدرات

ولفت مصطفى بن الزين إلى أن العقوبة غير السالبة للحرية وتقنية الخدمة للمصلحة العامة هي عقوبة أصلية منصوص عليها في الفصل الخامس من المجلة الجزائية وبإمكان القاضي أن يحكم بها وفقًا لنص تشريعي كما تم تفعيل التجربة في جزيرة قورية حيث اهتم سجين بالسلاحف النادرة، مشيرًا إلى أن الجمعية تدعو لبعث برنامج وطني للعقوبات البديلة الموجهة نحو التنمية البيئية في ظل تفاقم كارثة النظافة والكارثة البيئية وذلك عوضًا للعقوبات السجنية وإهدار الموارد المالية للدولة وإهدار طاقة أشخاص مسجونين يمكن أن يستفيد منها المجتمع فيتم توجيهها لبرامج على غرار تنظيف الشوارع والشواطئ وتشجير الغابات التي احترقت.

ويقول المتحدث: "في المعايير الدولية وخاصة في اتفاقية نيلسون مانديلا، فإنّ المشاركة في العقوبة البديلة وجب أن تكون عن طواعية وهذا هو المبدأ لكن في إطار التشخيص مازلنا نبحث عن أحسن إجابة يمكن الاستئناس بها فيما يتعلق بموافقة السجين على الانخراط في العقوبة غير السالبة للحرية من عدمه".

 

السجون في تونس
باحثة في علم الاجتماع لـ"الترا تونس": تغيير العقوبات السجنية حسب درجة الجريمة يمكن أن يكون حلًا

 

كما ختم بالتأكيد على أنه لم يتم إلى الآن تفعيل السوار الإلكتروني في تونس وأن تفعيله يستوجب على الأقل خمس سنوات لتهيئة البنية التحتية في ظل وجود صعوبات تكنولوجية منها التغطية اللاسلكية واقتناء السوار، مشددًا على أن السوار الإلكتروني في ظل التحديات الراهنة ليس الحل الأنجع ولا يمكن أن يحتل سلم الأولويات وأن العقوبات لفائدة المصلحة العامة هي الأمثل بوجود المكاتب المصاحبة والتجارب النموذجية وتتماشى مع خصوصيات البلاد لاستعمالها كسلاح آخر في ترسانة الدولة لمكافحة الجريمة.

  • العقوبات السالبة للحرية لم تثبت نجاعتها

تعتبر العقوبة السجنية طريقة تأديبية ضاربة في القدم تم اتخاذها كبديل للعقوبات الجسدية كالقتل والجلد والتعذيب وغيرها من الطرق الأخرى التي لا تراعي إنسانية الإنسان وثارت عليها المجتمعات الغربية والعربية على حد السواء، لكن العقوبة السالبة للحرية لم تثبت نجاعتها في جميع الأنظمة ولم تعد تثني المخالفين للقانون عن ارتكاب التجاوزات والعَوْد إليها، كما أنها لم تحدّ من منسوب الجريمة، وأصبحت مصدرًا لتفشي الجرائم في السجون بسبب عدم تصنيف المساجين بدل دورها الإصلاحي والتأهيلي علاوة على أنها عبء اقتصادي واجتماعي ثقيل على كل الدول التي تفاقم فيها عدد المساجين وأصبح يتجاوز طاقة استيعاب السجون.

 

 

ولئن حرصت البلاد التونسية منذ الاستقلال على تنظيم السجون بترسانة من القوانين التي ما فتئت تتطور شيئًا فشيئًا لتراعي حقوق الإنسان وحقوق المرأة خاصة منها الحامل والمرضع فإنها مازالت محور نقاش وجدل بين الحكومات المتعاقبة والمنظمات الحقوقية التي تصر على انتهاج سياسة عقابية ناجعة تفعل عبر العقوبات البديلة وهي سياسة أثبتت جدواها في العديد من الدول.

وترى الباحثة في علم الاجتماع نسرين بن بلقاسم أن القوانين في تونس تقليدية ولا تتماشى مع الوضع الحالي والدليل على ذلك هو ارتفاع نسبة الإجرام رغم كثرة العقوبات وكذلك ارتفاع نسبة العَوْد، وتعوّد الكثير من المخالفين للقانون على السجن مشيرة إلى أن العديد من ضحايا قضايا الإجرام الكبيرة كالقتل والاغتصاب وغيرها يعتبرون أن السجن يوفر الراحة والمأكل وحتى مصدر رزق للمجرم فلا يعتبرونها عقوبة ولا يشعرون بأنهم استردّوا حقوقهم.

نسرين بن بلقاسم (باحثة في علم الاجتماع) لـ"الترا تونس": العديد من ضحايا قضايا الإجرام الكبيرة كالقتل والاغتصاب وغيرها لا يعتبرون أن السجن عقوبة، فهو يوفر الراحة والمأكل وحتى مصدر رزق للمجرم

وشددت بن بلقاسم في حديثها لـ"الترا تونس"، على أن القانون والعقاب متوفران لكن الظاهرة الإجرامية والانحراف والانحطاط الأخلاقي في تزايد وهو ما يؤكد أن من يمارسون هذا النوع من الإجرام لا يخشون العقاب، مبيّنة أن السجون لا تلعب دورها الإصلاحي بل بالعكس في الكثير من الأحيان يسجن المراهق أو الشاب لمخالفة بسيطة فيتحول إلى مجرم خطير بسبب المحيط السجني.

وتعتبر الباحثة في علم الاجتماع أن تغيير العقوبات السجنية حسب درجة الجريمة يمكن أن يكون حلًا، فمن غير المعقول أن يسجن شخص بسبب مخالفة اقتصادية مع أشخاص ارتكبوا جرائم فظيعة مشددة على أهمية التدرج في العقاب لتفادي تحطيم مستقبل بعض الشبان المخالفين الذين يعانون الوصم الاجتماعي بعد خروجهم من السجن وهو ما يدفعهم في كثير من الأحيان إلى الهجرة غير النظامية "الحرقة".

جدير بالذكر أن العديد من المصادر الرسمية كانت قد صرحت بأن تونس ستفعّل السوار الإلكتروني منذ شهر أفريل/ نيسان الماضي وبذلك تكون أول تجربة لتفعيل العقوبة البديلة في تونس بهدف التخفيض من الاكتظاظ الكبير في السجون التونسية لكن هذه التجربة لم تفعّل إلى الآن.