12-ديسمبر-2023
الزابينغ

الزابينغ هو وضعيّة التصفّح السريع للصور والمشاهد..  إنّنا إزاء أفيون جديد يوهم بالاطلاع الواسع لكنّه ينطوي على ضرب من التخدير (صورة توضيحية/ Getty)

مقال رأي 

 

الرأي العامّ في أبسط تعريفاته توافقٌ في الرأي تتبناه الغالبيّة بعد الخوض تفسيرًا وحجاجًا وسجالًا في حدث خطير أو مشهد صاخب أو قول صادم، ويكون لهذا التناغم الجماعي أثر في الاختيارات والمواقف والسياسات قد يلتقطه الفاعلون في الداخل أو الخارج لإحداث تحوّلات كبرى.

وتساهم في تشكّل الرأي العامّ وفقما أجمع عليه جلّ الباحثين جملة من الأطراف منها المنظمات والأحزاب والإعلام، هذا فضلًا عن الشخصيات ذات المنزلة الاعتباريّة دينيّة كانت أو سياسيّة أو فكريّة أو ثقافيّة، ويُفترض أن تتعاضد هذه العناصر مع أوضاع وأحداث اجتماعية وسياسيّة وماديّة تكون مِهادًا واقعيًّا لأزمة أو مسار تحرّري أو نقلة ثقافيّة جذريّة. 

الرأي العام في أبسط تعريفاته توافقٌ في الرأي تتبناه الغالبيّة بعد الخوض تفسيرًا وحجاجًا وسجالًا في حدث خطير أو مشهد صاخب أو قول صادم.. لكن بات ما يُعرف بـ"الزابينغ" يلعب دورًا هامًا في تعطيل تشكل الرأي العام السياسي

لكن ماذا لو اجتمعت كلّ هذه العناصر الأساسيّة وعناصر ثانوية أخرى في بلد ما، ولم يتشكّل رأي عام قويّ مؤثّر قادر على تحريك المواطنين من الخاصّة والعامّة على النحو الذي يحدث في الانتفاضات والثورات؟

لا شكّ أنّ الجهل والخوف والإحباط الجماعي وتراجع منسوب الثقة بين المواطنين والبحث عن الخلاص الفردي والتباين الفكري والمرجعي والرغبة في الاستقرار والاعتقاد في أنّ ليس في الإمكان أفضل ممّا كان، كلّ هذه الأسباب وغيرها كفيلة بتعطيل تشكّل رأي عامّ.

في المقابل بدا لي أنّ عنصرًا جديدًا طاغيًا يمكن اختبار دوره في هذه الظاهرة السلوكيّة التي بدأت انعكاساتها تتّسع شيئًا فشيئًا من خلال الإعراض التدريجيّ عن الشأن العامّ مساندة أو معارضة. المقاربةُ التي أقترحها في هذه القضيّة الإشكاليّة هي "دور "الزابينغ" في تعطيل تشكّل الرأي العامّ السياسيّ".

 

  • تخدير وجهل مركّب

الزابينغ هو وضعيّة التصفّح السريع للصور والمشاهد والقنوات التلفزية والمواقع الترفيهيّة أو الإخباريّة أو غيرها، وقد ساهمت تقنيات عديدة في تحوّل هذا السلوك إلى ما يشبه الإدمان، ولئن بدا الزابينغ بين الإذاعات ومن قناة تلفزية إلى أخرى محدودًا من حيث العدد وعُجالة الانتقال من محطّة إلى أخرى فإنّ التجوّل بين فيديوهات فيسبوك وتيكتوك وانستغرام قد بلغ ذروة التقلب في الحركة نزولًا وصعودًا بأطراف الأصابع في فعل يوحي في الغالب بالتوتّر. إنّنا إزاء أفيون جديد، يوهم بالاطلاع الواسع المتنوّع، لكنّه ينطوي على ضرب من التخدير، ويفضي في الغالب إلى الجهل المركّب والتيه في عالم تكاثرت وتداخلت ألوانه ومسافاته وأشكاله وهمومه دون خيط ناظم يقبله العقل وتستسيغه الذائقة.  

الزابينغ هو وضعيّة التصفّح السريع للصور والمشاهد وغيرها، وقد ساهمت تقنيات عديدة في تحوّل هذا السلوك إلى ما يشبه الإدمان..  إنّنا إزاء أفيون جديد يوهم بالاطلاع الواسع لكنّه ينطوي على ضرب من التخدير ويفضي في الغالب للجهل المركّب

أخطر ما في الزابينغ أنّ الفيديوهات التي يشاهدها المتصفح وجيزة ومتنوعة، وهي في الحالتين لا تقتضي لمتابعتها ما تقتضيه النصوص والأفلام المطوّلة من يقظة وتمعّن وما تستدعيه  من قدرة على الحفظ والتقييد والتفكيك والتركيز وربط السابق باللاحق والتفطن إلى البناء التدريجي الزمني والمنطقيّ للأحداث أو الصور والأفكار.

 

  • حريات حريات، شاهد هذه المراوغات، تابع أسرار البنات!  

يتلقى غالبية الصبيان والمراهقين وجلّ الكهول من خلال شاشة الهاتف المحمول الموصول بالشبكة العنكبوتية آلاف الفيديوهات التي لا تتعدّى مدّتها العشرين ثانية، وتكون في الغالب متنوعة المرجعيات والمضامين والمشاغل والمجالات، فترى المتفرّج يتحوّل في شكل هستيريّ من مشاهدة هدف جميل لميسي إثر سلسلة من المراوغات، إلى التمعّن في حيلة لإزالة الشوينغوم العالق بالملبس، إلى معاينة تصريح نقابيّ احتجاجيّ مثير، إلى الفرجة في فتاة متبرّجة تعرض مفاتنها، وأخرى تقدّم وصفة جديدة في الطبخ، إلى الإنصات إلى إمام ينصح ويعظ، إلى قراءة حكمة في فنون ضبط النفس والتحكّم في الانفعالات، إلى متابعة شاب يعرض إحدى مهارات الدفاع عن النفس.. وفي ثنايا هذا الكم المُتباين من المشاهد تتسلل رسالة من سياسيّ يشكو التضييق على الحريّات والمحاكمات غير العادلة والسلطة الجائرة.

إذا جمعتَ هذه المتفرقات في نصّ واحد فلن يناسبه غير التصنيف السريالي للكتابات القصصيّة، ولن تقدر على ضبط عنوان دقيق أو وضع أقسام محكمة تلخّص تلك المتفرّقات. 

 

 

  • لا مواقف ولا انتظارات في عوالم الفوضى والمتاهات

الزابينغ لم يعد سلوكًا هادفًا قصديًا يبغي من خلاله الناظر في الهاتف أو الحاسوب تحصيل معرفة أو تلقيّ خبر  أو تحقيق متعة، لقد تحول إلى حالة من الانقياد الطوعي الأعمى إلى حيث تحمله منصات  التواصل الاجتماعي، وعبثًا يحاول أن يتجنب هذه المنصة أو تلك الصفحة باستعمال تقنيات الحجب والصنصرة الخاصّة، فالحاكمية في هذه المساحات لحجم المشاهدات والإشهار والدعم الماديّ الموصول لهذه الجهة أو تلك.

الزابينغ لم يعد سلوكًا هادفًا قصديًا يبغي من خلاله الناظر في الهاتف أو الحاسوب تحصيل معرفة أو تلقيّ خبر  أو تحقيق متعة، بل تحول إلى حالة من الانقياد الطوعي الأعمى إلى حيث تحمله مواقع التواصل الاجتماعي

متاهات وتداعيات وجدان وفوضى خواطر وسطحية وشرود..هذا بعض ما يخلّفه الزابينغ في المتلقّي الذي يخرج بعد ساعات وآلاف المشاهدات خاليَ الوفاض، فلا تتشكّل في ذهنه فكرة واضحة يستطيع الدفاع عنها أو موقف دقيق يمكن أن يقتنع به ويتبناه ويدافع عنه أو سرديّة متناسقة يمكن أن يرويها فيشدّ إليه أقرانه أو أفراد عائلته في جلسة شفويّة تكون فيها اليد قد تملّصت من جاذبيّة المحمول وتكون العين قد تحرّرت من سحر الشاشة.

الأخطر من هذا كله أنّ آلاف المشاهدات التي يطّلع عليها هذا المواطن تكون في الغالب مختلفة عمّا شاهده غيره، ولولا بعض مباريات كرة القدم التي تجمع عددًا هامًا من الجماهير على مواجهة واحدة لوجدنا المقاهي والبيوت وقد اجتمع فيها الأصدقاء والأقارب والأحبة وفي يد كلّ واحد جهاز يدفعه دفعًا إلى عوالم أبعد ما تكون فكريًا وذوقيًا عمّن يجالسه حول طاولة واحدة، انظر إلى هذا الركن أو ذاك تجد فتيانًا وفتيات قد اجتمعوا بعد لوم وعتاب بسبب الهجر وندرة الوصال، ها قد وصلوا، تصافحوا وتبادلوا قبلًا خاطفة وعناقًا لطيفًا وسأل كلٌّ عن أحوال غيره، ثمّ انظر إليهم كرة ثانية بعد بضع دقائق تجد كلّ واحد منهم قد غاص في هاتفه يُقلب النظر من هذا المشهد إلى ذاك ويتحدّث إلى من تجمعهم به علاقة افتراضيّة ولا يلتفت إلى الحاضرين معه إلّا من حين إلى آخر. قال أحد الآباء متحدّثًا عن ابنته المراهقة "أتحدّث إليها بانتظام على فيسبوك حينما أكون بعيدًا، لكن حالما ألقاها تغرس رأسها في هاتفها الجوّال فلا تراني ولا أكاد أراها".

 

 

  • الإيديولوجيا والزابينغ.. أيّهما أخطر على الانسجام والتوافق؟

في تونس، أحداث يوميّة في غاية الخطورة من المنطقيّ أن تهتزّ لها كلّ الضمائر مهما كانت ألوانها ومرجعياتها، ومع ذلك تجد المواطن الفايسبوكي التيكتوكي في حالة أشبه ما تكون بالغيبوبة.

لا شكّ أنّ للفرقة والتشتّت أسبابًا موضوعيّة وواقعيّة، فقد خلّفت سنوات التنافس الحزبيّ والإيديولوجي في التونسيين جروحًا يعزّ علاجها في سنوات، وفتوقًا لا يمكن رتقها بيسر بين القيادات التاريخيّة والعائلات السياسيّة والتيارات الاجتماعيّة والحقوقيّة، هذه الجروح تشكلت تخوينًا وسِبابًا وخذلانًا واتهامًا بالإرهاب والقتل والتزوير والاستئصال والتآمر والرشوة. كيف لمن بلغت بهم الخلافات هذا المبلغ أن يجتمعوا على قضيّة حقوقيّة أو اجتماعيّة أو وطنيّة أو قوميّة، فلا عجب أن ترى تظاهرات تخرج في نفس الساعة لمساندة فلسطين، هذه تنطلق من شارع الجمهورية وتسير إلى شارك بورقيبة وتلك تتمترس منفردة أمام المسرح البلدي، يفصل بين هؤلاء وأولئك حاجز وهمي تترجمه المسافة الدلاليّة والرمزية الفاصلة  بين الشعارات المرفوعة.

في تونس، أحداث يوميّة في غاية الخطورة من المنطقيّ أن تهتزّ لها كلّ الضمائر مهما كانت ألوانها ومرجعياتها، ومع ذلك تجد المواطن الفايسبوكي التيكتوكي في حالة أشبه ما تكون بالغيبوبة

هذه الأسباب الصانعة للفرقة المانعة لكل شروط الانسجام والتوافق لا يمكن أن ننكرها، ولكن يحقّ لنا أن نطرح مقاربة جديدة نتّهم فيها وسائل التواصل الاجتماعي والزابينغ في التحوّل من وظيفة الإخبار والتنوير والتأليف كما حصل قبل الثورة 2011  إلى دور التخليط والتشتيت كما يحدث أيّامنا هذه.

لا ندّعي أنّ الأمر متعمّد لكنّ النتيجة حاصلة لا محالة، للتحقّق من هذه القراءة سل عشرة من رفقائك أو أفراد عائلتك عمّا شاهده كلّ منهم الساعة الأخيرة، لن تجد اثنين قد عاينا نفس المشهد، على هذا النحو هل يمكن أن نحلم بوقفة شعوريّة أو سلوكيّة واحدة جامعة ونحن نستهلك منتوجًا على تلك الصورة من التمايز المرجعيّ والذوقيّ؟ 

المقاربة التي نقترحها في هذا المقال تحتاج لجِدّتها إلى الإحصائيّات العلميّة والدراسات المعمّقة وتحتاج إلى ما يدعمها من بحوث أكاديميّة في مخابر علم النفس وعلم النفس التربويّ وعلم النفس الاجتماعيّ وعلم النفس الحضاريّ علّنا نصل إلى نتائج أوثق.  

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"