29-يناير-2023
الدور الثاني من الانتخابات التشريعية في تونس

الشارع التونسي مكتف بالمشاهدة وانتظار ما سيؤول إليه الصراع ومبادرات حل الأزمة المتزايدة والغامضة في آن والتي لم تكشف أي بوادر تقدم بعد (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

في غياب رهان الفائزين من أحزاب وشخصيات معروفة وبرامج انتخابية وتحالفات، كان رهان الانتخابات التشريعية في تونس، التي أجريت دورتها الأولى في 17 ديسمبر/كانون الأول 2022، ثم دورتها الثانية (دورة الإعادة) في 29 جانفي/يناير 2023، هو رهان نسبة المشاركة.

في غياب رهان الفائزين من أحزاب وشخصيات معروفة وبرامج انتخابية وتحالفات، كان رهان الانتخابات التشريعية في تونس هو رهان نسبة المشاركة

كان ذلك منتظرًا قبل إجراء الجولة الأولى في ديسمبر الماضي بالنظر لدعوات المقاطعة الواسعة من الطيف الحزبي والمدني وضعف الحملة الانتخابية والتراجع اللافت في دور مجلس النواب في دستور 2022 وغير ذلك من الأسباب، لكن نسبة المشاركة المعلن عنها في الدور الأول لم تخل من عنصر المفاجأة لضعفها الشديد، إذ كانت وفق الأرقام الرسمية في حدود 11,22 في المائة، وهي بذلك أضعف نسبة مشاركة في تاريخ الانتخابات في تونس، وهي وفق تقديرات عديد المراقبين للشأن الانتخابي عالميًا أدنى نسبة مشاركة معلن عنها على  الإطلاق.

ساهم كل ذلك في تزايد الاهتمام، تونسيًا وعربيًا وعالميًا، بمعطى نسبة المشاركة الذي سيطر على نقاشات المحللين السياسيين في وسائل الإعلام ومنصات التواصل وكان أيضًا هاجس الهيئة المكلفة بالإعداد للانتخابات في تونس، إذ حرصت رفقة الإعلام العمومي على التعريف أكثر بالمترشحين للانتخابات التشريعية في دورها الثاني من خلال مزيد تخصيص حصص لهم وإجراء ما أسمتها مناظرات بينهم وأشرفت بدورها عليها، رغم أن الانتخابات التشريعية السابقة إبان الثورة في تونس لم تشهد أي مناظرات بين المتنافسين.

نسبة المشاركة المعلن عنها في الدور الأول لم تخل من عنصر المفاجأة لضعفها الشديد، وهي أضعف نسبة مشاركة في تاريخ الانتخابات في تونس، وهي وفق تقديرات عديد المراقبين للشأن الانتخابي عالميًا أدنى نسبة مشاركة معلن عنها على  الإطلاق

وأعلنت ذات الهيئة توجهها نحو تقديم نسب مختلفة للمشاركة، بمعنى تقديم نسبة مشاركة من مجموع المسجلين آليًا، وأخرى من مجموع المسجلين إراديًا.. الخ، وهو ما يحصل للمرة الأولى في تونس ويوحي برغبة لإفقاد نسبة المشاركة قيمتها وجوهرها ويعكس تخوفًا من تدنيها خلال الدور الثاني أيضًا، وهو ما ينفيه أعضاء هيئة الانتخابات خلال تدخلاتهم الإعلامية.

ولم يقتصر الاهتمام بنسبة المشاركة في هذه الانتخابات على المحللين للمشهد التونسي بل كانت محل اهتمام من رأس السلطة، إذ سارع الرئيس التونسي قيس سعيّد إلى رفض توصيفها بالنسبة الضعيفة وقال إن "نسبة المشاركة في انتخابات ما، لا تقاس وفق دور واحد"، كما سارعت المعارضة التونسية إلى استحسان تدني النسبة واعتبارها تعكس عدم رضا على مشروع الرئيس وتوجهاته.

حرصت هيئة الانتخابات رفقة الإعلام العمومي على التعريف أكثر بالمترشحين للانتخابات التشريعية في دورها الثاني من خلال إجراء ما أسمتها مناظرات بينهم وأشرفت بدورها عليها

على أرض الواقع، تشبه الحملة الانتخابية، التي تواصلت لأسبوعين تقريبًا، الحملة الخاصة بالدور الأول، وفق تقديرات منظمات المجتمع المدني التونسي المختصة في مراقبة وملاحظة الشأن الانتخابي كمرصد شاهد وشبكة مراقبون، إذ وصفوها بالباهتة وبغياب الاهتمام الشعبي.

 

 

وقد دعت هيئة الانتخابات حوالي 8 ملايين شخص للمشاركة في التصويت، تحديدًا 7 ملايين و853 ألف و447 مسجلًا، ينقسمون إلى مسجلين إراديًا وآليًا، ويتوزعون على 4222 مركز اقتراع، و10012 مكتب اقتراع.

وتأتي هذه الانتخابات في سياق يتسم بالتدهور الاقتصادي وهو ما ينعكس على أحوال التونسيين ويثير استياء واسعًا. وكانت قد أعلنت وكالة "موديز" للتصنيف الائتماني، الجمعة 27 جانفي/يناير 2023، تخفيض التصنيف السيادي لتونس من "caa1" إلى "caa2" مع آفاق سلبية. كما خفضت تصنيفها للبنك المركزي التونسي المسؤول قانونيًا عن المدفوعات المتعلقة بكل سندات الخزينة، إلى "caa2" مع آفاق سلبية. ويعني التصنيف في خانة "Caa2" أن الحكومة التونسية والبنك المركزي يتعرضان إلى مخاطر عالية على مستوى إمكانية عدم القدرة على الإيفاء بالالتزامات المالية.

تأتي هذه الانتخابات في سياق يتسم بالتدهور الاقتصادي وهو ما ينعكس على أحوال التونسيين ويثير استياء واسعًا. وكانت قد أعلنت وكالة "موديز" للتصنيف الائتماني، قبل يوم من الدور الثاني، تخفيض التصنيف السيادي لتونس من "caa1" إلى "caa2" مع آفاق سلبية

ويتنافس في الدور الثاني من الانتخابات التشريعية التونسية 262 مرشحًا بينهم 34 امرأة وهو ما يوحي بهيمنة ذكورية على المجلس المنتخب لاحقًا.

وتعتبر هذه الانتخابات من الخطوات الأخيرة في ما صار يٌعرف إعلاميًا بخارطة طريق الرئيس، والتي انطلقت باستشارة إلكترونية تواصلت منذ بداية جانفي/يناير إلى 20 مارس/آذار 2022، تلاها استفتاء على دستور جديد أعده الرئيس ولاقى انتقادات حادة وذلك في 25 جويلية/يوليو 2022 ثم انتخابات  لمجلس النواب بدورتين، ويبقى الغموض مخيّمًا على الغرفة الثانية التي استحدثها دستور 2022، وهي مجلس الجهات والأقاليم وحول طريقة انتخاب/تنصيب أعضائها.

وسبق أن قرر سعيّد، في 25 جويلية/يوليو 2021، إقالة رئيس الحكومة السابق هشام المشيشي وتجميد عمل مجلس النواب قبل أن يقرر حله إضافة إلى سن إجراءات أخرى مكنته من حكم مطلق عبر المراسيم وتجميع للسلطات.

يتنافس في الدور الثاني من الانتخابات التشريعية التونسية 262 مرشحًا بينهم 34 امرأة وهو ما يوحي بهيمنة ذكورية على المجلس المنتخب لاحقًا

جدير بالذكر أن مجلس النواب القادم وفي حال انعقاده بعد صدور النتائج النهائية للدور الثاني من الانتخابات التشريعية، وهو المتوقع في مستهل مارس/آذار القادم، مدعو للإعلان عن انتخابات  تشريعية جزئية في عدد من الدوائر التي لم تشهد انتخابات بالمرة لغياب مترشحين مقبولين، لكن نائب رئيس هيئة الانتخابات كان قد تعرض لفرضية أن يباشر مجلس النواب عمله بـ154 نائبًا فقط أي دون استكمال عدد نوابه.

ومجلس النواب المذكور، وفق دستور 2022، لا يحق له عزل الرئيس وأمامه فرضية "شبه مستحيلة" لعزل الحكومة مما يترك كل الصلاحيات تقريبًا عند رئيس الجمهورية، وهو ما ساهم أيضًا في ضعف الاهتمام بهذه الانتخابات.

مجلس النواب، وفق دستور 2022، لا يحق له عزل الرئيس وأمامه فرضية "شبه مستحيلة" لعزل الحكومة مما يترك كل الصلاحيات تقريبًا عند الرئيس، وهو ما ساهم في ضعف الاهتمام بهذه الانتخابات

يرتكز اهتمام التونسيين على الوضع الاقتصادي والاجتماعي ومن ذلك غلاء المعيشة، نقص بعض المواد الأساسية خاصة الغذائية منها، تدهور المقدرة الشرائية وقد تجاوزت نسبة التضخم 10 في المائة، تتالي الإضرابات في عدة قطاعات، وعناصر مشابهة أخرى.

ولا يبدو أن هذه الانتخابات ودعوات المشاركة فيها أو مقاطعتها تلقى أي صدى واضحًا في الشارع التونسي، وهو شارع مكتف بالمشاهدة وانتظار ما سيؤول إليه الصراع بين الرئيس من جانب ومعارضته السياسية والمدنية الواسعة من جانب آخر، ومبادرات حل الأزمة المتزايدة والغامضة في آن والتي لم تكشف أي بوادر تقدم بعد.