تصدير: "أفضل الصور تدور حول عمق الشّعور وليس عمق المجال..."
-المصور الفوتغرافي بيتر أدامز-
لم تكن الفوتوغرافيا لديه مجرّد إدراك لحزمات الضوء والقبض عليها برصّة قرص بسيطة على ماكينة التصوير بل هي فعل نبوئي يمارسه "الحبيب هميمة" منذ ثلاثة عقود ونيف.
المصور الصحفي "الحبيب هميمة" مشى خطواته الأولى على أرض الفوتغرافيا الذهبية انطلاقًا من دار الثقافة ابن خلدون بالعاصمة تونس، تلك القلعة الثقافية التي علّمت جيلًا بأكمله سحر الفعل الثقافي. هناك في أروقة الدّار عرف "هميمة" مع بداية سبعينات القرن الماضي ابتهاجات الغرفة السوداء وشقشقات "البلّيكيل" المتدلّية كحبل غسيل في مواجهة نسائم المساء وتكشّف ذهنه الفتيّ على اللحظة الأشدّ غرابة وهي لقاء الضوء بالظل وتدربت أصابعه السّمر النّحاف على إيقاع أصوات مياه أحواض التحميض.
لم تكن الفوتوغرافيا لديه مجرّد إدراك لحزمات الضوء والقبض عليها برصّة قرص بسيطة على ماكينة التصوير بل هي فعل نبوئي يمارسه "الحبيب هميمة" منذ ثلاثة عقود ونيف
انطلق "الحبيب هميمة" من شرنقة دار الثقافة ابن خلدون كفراشة نادرة الألوان نحو سماء تجربته العظيمة وفي جيبه تمائم الخلود المَخفيّة عن البقية والتي كتبها بنفسه لنفسه ومنها نقرأ في غفلة منه: "يجب أن تتعلّم العيون الاستماع قبل المشاهدة"، "القدرة الكبيرة على الحلم هي ما يقود أي واحد منّا إلى أن يصبح مصوّرًا رائعًا"، "هناك شيء واحد يجب أن تحتويه الصورة الفوتوغرافية وهو إنسانية اللحظة"، "زرّ الكاميرا دوره حفظ ما تراه عين العقل".
"هميمة" كان في غاية الغبطة عندما أحسّ أنه قادر على تدوين الفضاء بالصور بالسليقة، لقد كان محمولًا على رغوة فن التصوير وكانت تجربته النفسية الأولى مع زيارة العندليب إلى تونس بدعوة من فريق النادي الإفريقي سنة 1970 بمناسبة خمسينيته فجعلنا المصور الشاب نرى ما كان يراه هو بشغف ويحدّق فيه بقلبه وعقله. فجاءت صور البدايات جيّاشة العاطفة قابضة على أحاسيس ورومنسية إلى حد بعيد وحانية نفس حنو عبد الحليم حافظ وهو يغني تحت القبّة "يا خليّ القلب" و"زي الهوى" و"الهوى هوايا".
كان "هميمة" شمسًا لا تغيب عن الملاعب وصالات اللعب حتى أن نجوم كرة القدم التونسية ومختلف الرياضات الأخرى كانوا يجولون بأبصارهم في منصات التصوير وعلى حافة الخطوط بحثًا عنه قبل انطلاق المباريات
انطلق "هميمة" الشاب نحو عالم قنص الصور البصرية البديعة والساحة الفنية والصحفية مأخوذة بالصور الباذخة لكبار المصورين الفوتوغرافيين من أمثال عبد الحميد كاهية الذي كانت صوره تتحول إلى بطاقات بريدية تقول تونس وتراثها في اتجاه العالم والبشير المنوبي قناص الملاعب وعبد العزيز الفريخة الذي ذاع صيته لتصويره الحرمين الشريفين والمصور المجنون "المولدي شعيرات"...
لم تكن مهمّة "هميمة" سهلة وهيّنة، لكنّ الشاب المأخوذ بهذا الفنّ تعلّقت همّته بفتنة الصورة فراح يسرف بسخاء على معاني صوره تمامًا كشاعر يولّد المعاني من الكلمات أو كرسام ينفث من روحه على قماشة بيضاء فتتحول إلى مشهد فائض الجمال والدلالات والإيحاءات.
اقرأ/ي أيضًا: صورة العيد: الفوتوغرافيا المقدسة تقولنا ولا نفهمها
انخرط "الحبيب هميمة" بهدوء في أفلاك الصورة الفوتوغرافية فكانت تأخذه المستجدات التقنية والفنية في عالم التصوير لكنه في لحظة ما تحوّل إلى عرّاب فجذب معه إلى مناطق السحر التي دوّخته وأَسَرَته أشقاءه "رضا" و"مختار" و"نور الدين" فكوّنوا مع بعضهم البعض ما بات يعرف بزمرة أو كتيبة "أولاد هميمة" للتصوير الفوتوغرافي الصحفي في تونس. فحازوا ما حازوا من الأمجاد والنجاحات بعد أن أفنوا العمر في طرز الصور الأخاذة التي تلقتها الأعين في تونس وخارجها عبر مختلف الصحف السيّارة وغيرها.
كانت مصوّرة "هميمة" تذهب إلى المسارح ودور الثقافة وقاعات السينما ومعارض الفنون التشكيلية فتأتي صوره مترعة بالتفاصيل والزوايا المستحيلة من العرض والانكسارات العجيبة للأضواء على الوجوه
قد يكون الأشقاء مجانين تصوير ومطاردة للحظات الجميلة الفالتة، لكنّ "الحبيب" كان أشعرهم فشُبّهت صوره الفوتوغرافية بالأعمال الفنية لما تحويه من علامات بصرية مميزة وإيحاء وكناية ورمزيات وجماليات آسرة. لقد كانت عينه شغوفةً بما لا نَرى.
دخل "الحبيب هميمة" إلى ملاعب كرة القدم وراح يصوّر جنبًا إلى جنب مع العميد "البشير المنوبي"، لكنه كان مختلفًا عنه في تشكيل الصورة وما تحويه من استعارات وكيفية تأطيرها وشحنها بحركة اللاّعبين وأصوات الجماهير. وصادف أن تكون انطلاقته في الملاعب مع "ملحمة منتخب 78" فخلدت عدسته أشهى الصور وأنبلها وأذكاها لنجوم المنتخب الوطني: "طارق ذياب" و"حمادي العقربي" و"تميم الحزامي" و"خالد القاسمي" و"علي الكعبي"، وغيرهم من الكبار المخلّدين.
كان "هميمة" شمسًا لا تغيب عن الملاعب وصالات اللعب حتى أن نجوم كرة القدم التونسية ومختلف الرياضات الأخرى كانوا يجولون بأبصارهم في منصات التصوير وعلى حافة الخطوط بحثًا عنه قبل انطلاق المباريات، إنه جزء من إحساسهم باللعب فقد كان يغدق عليهم بمسكه للحظات من مسيرتهم لم يكونوا ليتوقعوها بعد المشاهدة. لقد صنع "هميمة" لنفسه نسقًا خاصًا به وصورًا خاصة يدرك رائيها منذ الوهلة الأولى أنها بإمضاء عدسته.
المصوّر الفوتوغرافي الفذّ "الحبيب هميمة" هو أحد صنّاع ذاكرة الشعب التونسي فقد خلّد ضمن نسق أيقوني أجمل اللحظات وأقساها وأغربها، التي يعود إليها القاصي والداني للبحث والقراءة والتأمل والتيه في أزمنة ولّت
لم يكن "الحبيب هميمة" صديقًا للعائلة الرياضية ومصورًا بالملاعب فقط، بل كانت مصوّرته تذهب إلى المسارح ودور الثقافة وقاعات السينما ومعارض الفنون التشكيلية ومحلات العروض الفنية المغلقة. إنه مجال آخر مختلف تمام الاختلاف عن الرياضة لكن "هميمة" كان منجذبًا لهدوء الفنّ والفنانين فكانت تصاويره تأتي مترعة بالتفاصيل والزوايا المستحيلة من العرض والانكسارات العجيبة للأضواء على وجوه الممثلين والمطربين. لقد كان يشبع رغبة العين ويحوز إعجاب القلب دونما تكلّف.
المصوّر الفوتوغرافي الفذّ "الحبيب هميمة" هو أحد صنّاع ذاكرة الشعب التونسي فقد خلّد ضمن نسق أيقوني أجمل اللحظات وأقساها وأغربها، التي يعود إليها القاصي والداني للبحث والقراءة والتأمل والتيه في أزمنة ولّت.
"الحبيب هميمة" جديرة أعماله التي تعدّ بآلاف الصور المنجزة بتقنيات مختلفة ومحامل ورقية متنوعة بأن نحوّلها إلى خطاب تاريخي وأن تدرس سيمائيًا حفاظًا على الذاكرة الاجتماعية للشعب التونسي.
اقرأ/ي أيضًا:
"الماتر" الحبيب بوعبانة... فرشاة على حدة
فيديو: أمين الأندلسي.. عين الثورة التونسية