07-مايو-2019

حفر في الذاكرة الثقافية لقبلي والجريد التونسي

 

رغم أننا نعيش في زمن الصورة كما يؤكد الفيلسوف الفرنسي ريجيس دوبريه في كتابه "حياة الصورة وموتها"، إلا أنه من النادر أن تجد في تونس من يشتغل على الصورة اشتغالًا جماليًا وفكريًا فينشئ أعمالًا تحرض العين على الفتنة والعقل على مغامرات الجدل والتفلسف والتفكير.

ومن النادر أيضًا أن يصادفك معرض للصور الفوتوغرافية يتلبس تفكيرك ويحث قلمك على التحبير والتفاعل النقدي، لكن معرض "أبصرهم" للفنان الفوتوغرافي زكرياء الشائبي الملتئم ببهو قاعة الأوبرا بمدينة الثقافة من 1 إلى 9 ماي/آيار 2019 يكسر هذه القاعدة ويردم الهوّة السحيقة في المشهد الثقافي التونسي معطيًا الشرعية لفعل فوتوغرافي تونسي وُصف بالأمس أنه لقيط وسط باقي الفنون الأخرى.

معرض "أبصرهم" بمدينة الثقافة من 1 إلى 9 ماي/آيار  2019

 

يمعن هذا العرض الفوتوغرافي منذ الوهلة الأولى في إغواء الرّائي فيأخذ بيده نحو الأعمال الفوتوغرافية المتباينة الأحجام والمتناضدة بعشوائية ممتعة، هو عرض يورّطك في جولة متأنية وتأمل وتيه وافتتان بالمادة الفوتوكميائية.

هي رحلة نحو الجنوب التونسي وتحديدًا إلى أهل الصحراء بجهة قبلّي حيث الحياة اليومية لها منطقها الخاص بها، وحيث الحركة في تماه مع حركة الكثبان ورفيف الجريد في أعالي النخل. هي رحلة نحو الصحراويين الذين يقيمون إقامة شعرية على فوق زرابي الرمل اللامتناهية أين يتزودون من بلاغة الكلام قليله ومن التقشف في القيم عدا الرجولة وحب الجمال والتفاني في العمل وتنغيم خطى الإبل وذلك على إيقاعات الأمل البعيد علّ الحياة تتغير.

اقرأ/ي أيضًا: الفنان التشكيلي صفوان ميلاد.. عن توحد الحرف والذات وتحرّرهما من الأغلال

الفوتوغرافيا الساردة   

"أبصرهم" هو مكسب سردي وجمالي يضم ثلاثين لوحة فوتوغرافية تقف على الهامشي والمنسي الذي يتهيأ للانقراض من الحرف والصناعات اليدوية التي تجتهد اليد وتتفانى في صوغها.

تمرّس صاحب المعرض زكرياء الشائبي في عوالم التصوير لسنوات عديدة وهو لم يزده إلا إصرارًا وتعلقًا باستنطاق الكاميرا الصمّاء وتحويلها إلى قلم ناقد يكتب ما لم تستطعه الأقلام العادية.

يضمّ معرض "أبصرهم" 30 صورة فوتوغرافية (رمزي العياري/ ألترا تونس)

 

في هذا الجانب، يعلق الباحث في الفلسفة سليم دولة، الذي اشتغل على صور الشائبي بالقول: "تبقى عين الناقد زكرياء الشائبي في هذا المتن البصري إنما هي العين الرقوب للآخذ في العبور والزوال والانقراض، وحتى التهشش في المهن والحرف وتصوير أحوال الحياة، حياة من تصفهم اللغة العربية بدقة غريبة وموجعة إذ تطلق عليهم نعت الهباّشة. حرفة الهباشين والهبّاشات تتطلب البصر الحاذق المربّى والمهذّب والبصيرة المتحفّزة والصبر الدؤوب والمران والمرونة من أجل تحويل الشيء إلى كائن حيّ في حياة الانسان. له هوية ووجود وقامة ومقام والتي يمكن التنصيص عليها بكلمة واحدة "الحكمة العملية" التي تقترن فيها اللذة بالألم".

اختار الفوتوغرافي زكرياء الشائبي زاوية مستحيلة بكسر القاعدة التي تعرّف الصورة بأنها "شلّ حركة الحياة" وانبرى لتصوير الحركة

اقرأ/ي أيضًا: رسم مائة شخصية في تاريخ تونس.. مشروع وطني بريشة شباب مبدع

زكرياء الشائبي اختار زاوية مستحيلة وكسر قاعدة التي تعرّف الصورة بأنها "شلّ حركة الحياة " وانبرى لتصوير الحركة، حركة الأيادي وهي تدق الحديد الممدّد على ناصية السندان أو تظفّر سعف النخيل لتقدّ مظلّة أو تخيط الجلد لتصنع مداس أو تعالج وبر الجمال لتنجز خطاء خيمة أو تغزل خيوط الصوف لتخيط ثوبًا أو لحافًا أو خشبة ستتحول الى هودج أو سرج.

لم تغر المصور الفوتوغرافي جماليات أخرى بجهة قبلّي بقدر ذهاب "زوم" الكاميرا إلى أخاديد أيادي الحرفيين وخشونة الأصابع واعوجاجها من فرط العمل ومن فرط التحنان إلى حرف وصنائع ذاهبة الى الزوال جرّاء المكننة والعولمة والرقمنة.

نحن إزاء غوايات دلالية لا يمنحنا إياها أي فنّ آخر سوى الصورة الفوتوغرافية المثيرة فكريًا، فهذه الحرف القديمة التي شبت عليها أجيال وصنعت أفراحهم ورسخت خصوصيات ثقافية باتت سمة مجتمع صغير يستوطن الصحراء في أقاصي الوطن نراها تتسرب دون أدنى تفكير للمحافظة عليها وحمايتها ومتحفتها.

صوّر الفوتوغرافي حركة الأيادي وهي تظفّر سعف النخيل لتقدّ مظلّة (رمزي العياري/ ألترا تونس)

 

"أبصرهم".. لحن المنسيين الذين تناستهم الأغاني

من التواشج الفني والسوسيولوجي لأعمال المصور الفوتوغرافي زكرياء الشائبي هو التلاقي بين حفره في الذاكرة الثقافية للجريد التونسي من جهة وإبرازه للمنسيين من أبناء الوطن الذين يكتفون بالكفاف في جميع تجلياته من جهة أخرى. هم أولئك الذين تناستهم الأغاني على حد عبارة الشاعر آدم فتحي في أغنية الفنان لطفي بوشناق "هاذي غناية ليهم".

حفر في الذاكرة الثقافية للجريد التونسي (رمزي العياري/ ألترا تونس)

 

تبدو الوجوه التي قدمها الشائبي في "أبصرهم" باسمة وزاهية رغم سياط الأيام الموجعة، ويكاد يضيء زيت أيادي سيدات قبلّي الشامخات الباسقات كالنخل وهي تمتد لتصنع ما تصنع بهدوء وسط سكينة المساءات البعيدة في صحراء الجنوب.

ثلاثون صورة فوتوغرافية تشبه "رمية النّرد" وهو تعريف خطّه الهادي خليل، السينمائي التونسي وأحد القلائل الذين أغوتهم الصورة واستبدت بهم في كتابه الذي يحمل ذات العبارة. يقول الكاتب هي "نرد ترمي به أو بالأحرى يرمي بك في مربّع دون أن تعرف على أي وجه يستقرّ دورانه ودون أن تدرك التحليلات الذاتية الحميمية والموجعة التي ستقودك إليها الرّمية العابثة". وهي تقريبًا نفس الأحاسيس التي يمكن أن تنتابك وأنت تتصفح هذا المتن البصري المتميز الذي قدمه الفوتوغرافي زكرياء الشايبي داعيًا إيانا للإبصار بعيدًا عن لغة النظر.

 

اقرأ/ي أيضًا:

بـ"غاليري" قصر خير الدين.. عبد العزيز القرجي ينهض كطائر الفنيق مزهرًا ومبهجًا

صالونا الشباب والخزف المعاصر... رهانات وتعثّرات