27-يوليو-2018

شهد مهرجان أوسو إقبالًا شعبيًا واسعًا (ماهر جعيدان/ الترا تونس)

"أوسو نحيلي الداء اللي نحسو" تلك هي الصيحة التي يتوجه بها أهالي الساحل التونسي إلى البحر في كل سنة من شهر جويلية/يوليو، الذي يعتبرون فيه البحر شفاء من كل داء ومنتزعًا لهم من الآلام فيؤمونه ثلاثة أيام دون انقطاع ويحتفلون خلاله بكل ما تركه المخيال الشعبي من أساطير آلهة البحر "أوسو".

اقرأ/ي أيضًا: المهرجانات الصيفية: يكفينا هدرًا للمال العام

"أوسو" أو إله البحر، أسطورة "أغسطس" كما كان يلقب في الحقبة الفينيقية منذ أكثر من ألفي سنة، رسمت صورًا له على جداريات فسيفسائية وجدت ضمن آثار مدينة سوسة التونسية الساحلية. ذاك الرجل الملتحي الأشعث ذي الرأس الضخم يمسك بعصاه محاطًا بخيرات البحر كان عنوانًا للقوة ورمزًا للعظمة وملهمًا لتاريخ سوسة بمهرجان خص باسمه وهو "مهرجان استعراض أوسو بسوسة".

اقترن مهرجان استعراض أوسو بتاريخ إعلان الجمهورية التونسية في 25 جويلية/يوليو من سنة 1957 وتأسس المهرجان في السنة الموالية مباشرة أي سنة 1958 ومنذ ذلك الزمن احتضنت سوسة فعاليات احتفالية استعراضية تطورت بتقدم الزمن وتأثرت بالحقبات السياسية والثقافية التي مرت بها البلاد خلال الستين سنة الأخيرة.

مهرجان أوسو التاريخي كان يسمى في عهد الاستعمار الفرنسي احتفال "سانتا ماريا" حيث كان يحتفى بإله البحر ليصبح بعد الاستقلال مهرجانًا يعانق العالمية ويحمل رسائل حب وسلام ومحبة ذات بعد تاريخي وحضاري لتونس

مهرجان أوسو التاريخي كان يسمى في عهد الاستعمار الفرنسي احتفال "سانتا ماريا" حيث كان يحتفى بإله البحر، ليصبح بعد الاستقلال مهرجانًا يعانق العالمية ويحمل رسائل حب وسلام ومحبة ذات بعد تاريخي وحضاري لتونس. وقد عُرف الكرنفال قديمًا بأنه استعراض شعبي يجمع بين الاحتفالات الشعبية والسيرك ويعتبر تقليدًا كاثوليكيًا، ثم جردت في عدة حضارات من بعدها الديني، وكلمة "كرنفال" إيطالية الأصل وقد جاءت من عيد كان يقام للإلهين ساتورن وساتور في آخر الحكم الروماني حيث كانت تتميز هذه الاحتفالات بالتحرر من كافة القيود.

وقد عرفت العديد من دول العالم كرنفالات شهيرة مثل احتفال "رييكيا" في كرواتيا، واحتفال "ألبورغ" في الدنمارك، واحتفال "ستروميكا" في جمهورية مقدونيا، واحتفال "ماسترخت" في هولندا، واحتفال "راينلاند" في ألمانيا، واحتفال "مولايل ألاباما" في أمريكا، واحتفال "قاديش" في إسبانيا وغيره من الاحتفالات، وتسمّى الاحتفالات بـ"الكرنفالات" في جنوب بافاريا، وبـ"الفاشينغ" في النمسا، وتنتشر أيضًا مثل هذا النوع من الكرنفالات في أمريكا الجنوبية.

تطلق الألعاب النارية في اليوم الأول من فعاليات مهرجان أوسو (ماهر جعيدان/ الترا تونس)

يضمّ مهرجان سوسة ثلاث فقرات رئيسية في برنامجه السنوي/ فاليوم الأول الذي يسبق 25 جويلية/ تموز تطلق فيه الألعاب النارية على شاطئ "سيدي بوجعفر" الممتد على شريط ساحلي يتجاوز الميل برماله الصفراء وزرقة مياهه الصافية المتلألئة، وفي اليوم الثاني يستعرض فرقًا موسيقية في ساحة المدن المتوأمة قبالة البحر، وخلال اليوم الثالث ينتظم كرنفال ضخم يضم العشرات من العربات الرمزية والفرق الفنية واللوحات الراقصة الفلكلورية تتصدرها عربة "إله البحر" يمتطيها الشخصية الأسطورة "أوسو" ترافقه ترنيمات وأناشيد وصيحات.

متقمص شخصية أوسو لـ"الترا تونس": كرنفال أوسو تخلى عن مظاهر الوثنية والتقاليد الكاثوليكية منذ زمن الاستقلال

بلغ هذه السنة مهرجان أوسو دورته التاسعة والخمسين وقد تزامن مع العيد 61 لذكرى إعلان الجمهورية واستهل سهرة 25 جويلية/يوليو بعرض للألعاب النارية الذي استمر 30 دقيقة دون توقف وبحضور شعبي تجاوز 350 ألف شخص حسب إحصائيات أمنية بالجهة.

وفي تصريح لـ"الترا تونس"، أفادرياض حسين المدير الفني للمهرجان أنه تم جلب هذه الشماريخ المتطوّرة من فرنسا وأشرف على إطلاقها خبراء فرنسيون متخصصون في إطلاق الشماريخ.  

وأضاف أن اللوحات كانت مكثفة اهتزت لها هتافات عشرات الآلاف من المصطافين على امتداد شارع الهادي شاكر (طريق بوجعفر) وعلى امتداد الشاطئ الذي يؤمه المصطافون والسياح الذين توافدوا على مدينة سوسة بشكل كبير هذه السنة.

بوراوي الوحيشي المسرحي الذي يتقمص شخصية أوسو (ماهر جعيدان/ الترا تونس)

اقرأ/ي أيضًا: بيض وسمك وضرب.. أغرب عادات الزواج في تونس

بوراوي الوحيشي ممثل مسرحي يتقمص شخصية أوسو على مدى عقود

وفي لقاء لـ"الترا تونس" مع الممثل التلفزي والمسرحي بوراوي الوحيشي متقمص شخصية "أوسو" الأسطورية، حاولنا استجلاء ملامح وخفايا هذه الاحتفالية على مدى أكثر من 30 سنة وعمق التفاعل الفني والحضاري والأسطوري بين الوحيشي وأوسو والكرنفال.

هنّأنا الممثل بوراوي الوحيشي بذكرى عيد الجمهورية الواحد والستين وأردف قائلًا "عندما تقمصت شخصية أوسو الأسطورية سنة 1985 لأول مرة في عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة بإيعاز من عبد الحفيظ بوراوي شيخ مدينة سوسة آنذاك، وباعتباره أول كرنفال في إفريقيا تحملت مسؤولية هذا الدور وكنت شابًا يافعًا أحب جوهرة الساحل سوسة وعشق هواءها وبحرها، ولعل انتمائي إلى الساحة الفنية المسرحية منذ سن مبكرة جذبتني إلى شخصية أوسو التاريخية حتى باتت جزء من مسيرتي المهنية ونحتت جزءًا من عشقي لفن التمثيل".

الممثل بوراوي الوحيشي: قمصت شخصية أوسو الأسطورية سنة 1985 لأول مرة وتحملت مسؤولية هذا الدور وكنت شابًا يافعًا أحب جوهرة الساحل سوسة وعشق هواءها وبحرها

وأضاف الوحيشي "كان قد سبقني في تقمص شخصية أوسو حامد زغدان أحد رجال سوسة. كان فنانًا فكاهيًا وكذلك الحبيب بالطيبية، وقد ترك الرجلان بصمة في كرنفال أوسو تحتفظ بها الذاكرة الجمعية الثقافية بسوسة".

وأشاد بوراوي الوحيشي بحرية المبادرة في اختيار دوره التمثيلي يوم الكرنفال "كنت أختار الأزياء التي ارتديها بعناية وأقتني كل سنة لحية طويلة وأصبغ شعري بما يتماشى مع الشخصية الأسطورية كما وردت في لوحات فسيفسائية مثبتة إلى اليوم بمتاحف سوسة تعود إلى العهد الفينيقي، وكنت أمتطي مرة عربة تحمل قوقعة بحرية وكنت أتوسطها كحبة المرجان ثم غيرت بعضًا من ملامحي في دورات أخرى واخترت أخرج من البحر مبللًا تحت أنغام الموسيقى فأتجه نحو المنصة الشرفية أمام مسؤولي الدولة وأردد الصيحة العظيمة صيحة أوسو التي تتردد عبر العصور".

وشدد بوراوي الوحيشي في تصريحه لـ"الترا تونس" على أن "كرنفال أوسو تخلى عن مظاهر الوثنية فيه منذ زمن الاستقلال فما أذكره أن بعض المسرحين وعلية القوم من مدينة سوسة بحثوا في أرشيف بلدية مدينة سوسة بعد الاستقلال ومن بين هؤلاء عبد الحفيظ بوراوي ومحمد الزرقاطي والطيب البوكشاري وحامد زغدان وغيرهم.. ونزعوا من شخصية أوسو ما تعلق بالوثنية والتقاليد الكاثوليكية حين كان يحتفل به من طرف المستعمر الفرنسي ومسيحيي سوسة وحافظوا على تلك الشخصية الخارقة التي تحمل البهجة والحب والسلام والفرحة التي تقترن بتقاليد المجتمع التونسي في الاصطياف والتعلق بالبحر، وكان عنوان أول كرنفال سنة 1958 "فرحة شعب" تيمنًا بالتحرر والانعتاق من ربقة الاستعمار".

بوراوي الوحيشي: رمال بوجعفر وجسم أوسو الضخم سيظلان رمزًا للساحل الذي انطفأت جوهرته ويسعى إلى استعادة بريقه المعتاد

وحول مسار الكرنفال قال الوحيشي إن "كرنفال أوسو قد غير مساره عدة مرات فكان ينطلق من جنوب سوسة أول باب جديد ويتجه نحو شارع الحبيب بورقيبة، وكانت المنصة الشرفية تنتصب أمام مقر البلدية قبالة الميناء التجاري، ولما تم إنشاء دار الشباب بسوسة صار ينطلق من هناك مرورا بشارع الحبيب بورقيبة في اتجاه شاطئ بوجعفر، واستقر اليوم مساره لينطلق من دار الشباب نحو طريق الهادي شاكر على امتداد شاطئ بوجعفر متجهًا نحو شارع الحبيب بورقيبة ويتم تركيز المنصة قبالة البحر لتمر العربات الرمزية المختلفة أمامها".

كرنفال أوسو في دورته التاسعة والخمسين تحدى كافة مظاهر الترهل في الحكم التي تمر بها البلاد (ماهر جعيدان/ الترا تونس)

الكرنفال و السياسة: جدل السلطة

ولم يخف الوحيشي أن مهرجان "أوسو" لطالما بثّ رسائل سياسية خاصة قبل ثورة 14 جانفي/ كانون الثاني 2011 ففي عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة كان الكرنفال تحت إشرافه مباشرة رغم عدم حضوره في الدورات الأولى بعد الاستقلال. وقد أشار على المنظمين لنقله إلى المنستير بعد عرضه في سوسة وذلك للاحتفاء بعيد ميلاده يوم 3 أوت/أغسطس بمسقط رأسه في المنستير، كما كانت تطرح العربات الرمزية أطروحات سياسة الدولة بعد الاستقلال وخاصة ما يمثل منها مرافق الدولة من وزارات ومندوبيات وإدارات.

وفي قراءة لفترة حكم بن علي في علاقته بكرنفال "أوسو" فإننا نعثر على تداخل بين السياسة والثقافة ففي أواخر التسعينيات كانت السياسة تقبض روح الثقافة بأن وظفت كافة المظاهر الاحتفالية في التسويق السياسي لنظام الحكم. ففي أواخر التسعينات، تخلى المهرجان عن كافة مظاهره الإبداعية والفنية وتم إخلاء الشاطئ من كافة المصطافين ليجد بن علي نفسه أعلى المنصة أمام شاطئ خلا من مظاهر الاصطياف وانتشرت قوات الأمن ببدلاتهم الزرقاء على الرمال الصفراء وفي كافة أرجاء المدينة وعلى الأسط،  كما أغلقت كافة الطرقات وتقمص الاحتفال جنود من الجيش الوطني مما أثار استياء كبيرًا وكان سببًا في إعفاء العديد من المسؤولين الذين أرادوا إرضاء رئيسهم.

 كانت السياسة في عهد الاستبداد تقبض روح الثقافة بأن وظفت كافة المظاهر الاحتفالية في التسويق السياسي لنظام الحكم

وفي حوارنا مع بوراوي الوحيشي قال "الخطأ ليس في بن علي ولكن في المحيطين به الذين أرادوا إرضاءه فكانت النتيجة عكسية". وأضاف الوحيشي " السياسة محمودة كي تشجع الثقافة ولكن لا يجب أن تفتك الثقافة إليها فما يلاحظ في استعراض كرنفال أوسو أن كافة العربات كانت تشيد ببن علي وبتاريخ السابع من نوفمبر/ تشرين الثاني حتى افتقد العرض نكهة العفوية وانتفى عنه الجانب الفني، أنا مع أن يبقى الكرنفال ذا بعد فني احتفالي ترفيهي ولا للاستعمار السياسي لاحقًا".

بعد 14 جانفي/ كانون الثاني لم يكن من السهل أن يستأنف مهرجان أوسو الدولي مسيرته التي بدأها منذ أكثر من خمسين سنة وعاد من جديد بعد توقف دام أربعة أعوام سنة 2015 وبدأ يستعيد عافيته ضمن منظومة حكم جديدة وتفاعل جمعياتي نوعي وإدارة حكم محلي تختلف عن سابقاتها، ومنذ الدورة السادسة والخمسين إلى اليوم استعاد كرنفال "أوسو" جمهوره الذي يتفاعل معه بعفوية ودون إكراهات الساسة والسياسيين رغم فقدان كثير من الدعم المادي الذي كان يقدم لمنظومة الحكم هدية وقربانًا.

وعاد بنا محدثنا الممثل بوراوي الوحيشي متقمص شخصية أوسو إلى عادات العائلات التونسية التي تحتفي بسوسة قائلًا "رمال بوجعفر وجسم أوسو الضخم سيظلان رمزًا للساحل الذي انطفأت جوهرته ويسعى إلى استعادة بريقها المعتاد وتعود احتفاليتنا كل سنة ويعود معها طهي الكسكسي بلحم الديك عند الغذاء وأكل التين بالبسيسة عند فطور الصباح وشواء السردينة .. تلك هي عاداتنا التي دأبنا عليها و متمسكون بمحاكاة أجدادنا من خلالها".

عاد مهرجان "أوسو" بعد الثورة ضمن منظومة حكم جديدة وتفاعل جمعياتي نوعي وإدارة حكم محلي تختلف عن سابقاته فاستعاد جمهوره وعفويته

كرنفال "أوسو" في دورته التاسعة والخمسين تحدى كافة مظاهر الترهل في الحكم التي تمر بها البلاد فكان شمعة مضيئة في تاريخ البلاد إذ شهد إقبالًا شعبيًا واسعًا يوم افتتاحه 26 جويلية/يوليو 2018، وكان الالتحام الشعبي مع مظاهر الفرح وأحيط الكرنفال باستعدادات أمنية واسعة تأمينًا لمساره وحفاظًا على النظام العام من كل مظاهر تجاوز القانون، واستمر لفترة زمنية تتجاوز الساعتين شكلت فيه العربات الرمزية واللوحات الراقصة التقليدية والحديثة فسيفساء الثقافة في الساحل معززة بفرق فلكلورية واستعراضية جزائرية وروسية وفرنسية.

ومما يثير الانتباه استقلالية مكونات المجتمع المدني عن هيمنة السلطة السياسية التي كانت توجهه وتفتك منه جماليته، فالكرنفالات هي علامة الالتحام بين الشعب و تمظهراته الثقافية بعيدًا عن المركب والمعقد الذي يذهب بريحه ويطفئ بريقه.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مهرجان قرطاج الدولي.. السّياق التاريخي ومراكمة الذاكرة الثقافية

على دفتر العود إلى مسرح قرطاج.. أمينة فاخت تكتب "سجّل.. أنا الديفا"