لشهر رمضان عبقه الخاص الذي يميّزه عن غيره من الأشهر، إذ تحرص العائلات في أماكن مختلفة من ربوع تونس على إحياء عادات قديمة يجدّدونها ويضفي عليها هذا الشهر سحر نفحاته.
وطيلة أيام شهر رمضان، تتسلل من فوّهات المنازل روائح بعض المأكولات التي تميّز شهر الصيام دون غيره من الأشهر، وتفوح في الأزقّة والأنهج رائحة الشربة التي تتخذ بعداً آخر وكأنها لا تليق إلا بأجواء رمضان.
وبعد الزوال، تطغى روائح القمح والشعير اللذين حوّلتهما الأنامل إلى شربة ذات رائحة نفاذة إلى الأنوف وطعم تستسيغه الألسن، ويعدّ طبق شربة القمح أو الشعير تقليدًا قديمًا مازالت تحافظ عليه العائلات التونسية.
اقرأ/ي أيضًا: البريك.. الشمس التي لا تغيب عن مائدة رمضان
شربة القمح أو الشعير.. عنصر قار في "عولة" رمضان
تختلف تسمية شربة الشعير من جهة إلى أخرى حيث يطلق عليها " الدشيشة" أو "التشيش" أو "المرمز" فيما يطلق على شربة القمح "الفريك" ولا تخلو بعض المنازل من هاتين المادتين اللتين يُعدّ بهما حساء لذيذ وصحّي تميّز رائحته شهر رمضان.
وعملية تحضير "الفريك" أو "الدشيشة" من العادات والتقاليد القديمة التي يتشارك فيها الرجال والنساء في بعض الجهات، وهي تدخل في إطار "عولة" شهر رمضان، وتمر السنابل بعديد المراحل قبل أن تتحوّل إلى طبق تكاد لا تخلو منه موائد رمضان.
عملية تحضير "الفريك" أو "الدشيشة" من العادات والتقاليد القديمة في تونس وهي تدخل في إطار "عولة" شهر رمضان
في أواخر شهر ماي/آيار من كل سنة وقبل أن يتحوّل لونها من اللون الأخضر إلى اللون الأصفر، يُحصد القمح والشعير وفق ما حدّثتنا الخالة خيرة المرايحي التي تقول إنّها كانت تشارك زوجها عملية الحصاد بالمنجل سنوات خلت.
وهي تحدثنا عن المراحل التي تمرّ بها السنابل حتى تصير حساء، تشير الخالة خيرة وهي أصيلة ولاية الكاف إلى أنّ الآلة الحاصدة عوّضت اليوم المنجل، وأنّ آلات المصانع حلّت محلّ النسوة في تحضير "الفريك" و"التشيش" الذين أصبحا يباعان اليوم في أكياس معلّبة، مشيرة إلى اختلاف مراحل تحضير "الفريك" (شربة القمح) عن تحضير "التشيش" أو "الدشيشة" (شربة الشعير).
الرحى التقليدية لرحي القمح والشعير (برهان الدين الزغلامي)
كيفية إعداد "الفريك"/شربة القمح
تقول محدثتنا عن كيفية إعداد "التشيش القمح" أو "الفريك"، إنه بعد حصاد السنابل يقع ضمها إلى بعضها البعض وربطها باستعمال سيقانها، مشيرة إلى تشارك النسوة والرجال في تجميع السنابل.
تختلف مراحل تحضير "الفريك" (شربة القمح) عن تحضير "التشيش" أو "الدشيشة" (شربة الشعير) فلكلّ نوع طريقة إعداد خاصّة
اقرأ/ي أيضًا: "رائحة رمضان".. كيف تستعدّ المدينة العتيقة بسوسة للشهر؟
وتضيف أنه يقع لاحقًا إشعال النار في الحطب ورمي السنابل عليها مبيّنة: "حينما تحترق القشور الخارجية نرفعها عن النار وتكون لدينا "شوّاطة" (مفردة عامية من "شوّط" أي أحرق) توضع على جنب في انتظار أن تبرد قليلًا وتحكّ بين الأيادي في حركات مسترسلة تنتزع بها القشور عن حبات القمح".
وتشير الخالة خيرة إلى الطعم الخاص لحبات القمح المشوية وإلى تهافت الصبية على أخذ حفنات منها فيما تواصل النسوة حكّ "الشواط" بين أيديهن، مضيفة "وبعد انتزاع القشور عن حبات القمح، تجفف في الظل بعد أن توزّع على لحفات معدّة خصيصًا لها ومن ثم تطحن وتغربل وينتج عنها دقيق القمح والفريك الذي نعدّ منه الشربة".
كيفية إعداد "الدشيشة"/شربة الشعير
أما عن شربة الشعير التي تختلف تسمياتها باختلاف الجهات، تقول الخالة خيرة إن سنابل الشعير الخضراء الناضجة توضع في أكوام لتنزع عنها القشور بالدّرس الذي كان سابقًا موكولًا إلى الأحصنة وتستعمل النساء عصيًا لفصل الحبوب عن السنابل قبل أن توكل المهمة إلى الآلة الدارسة.
وتضيف أنه تُجمع الحبوب فيما بعد وتُغسل بالماء وتُصفى قبل أن توضع في "كسكاس"، وهو آنية بها ثقوب، ليصلها بخار ماء مغلي في قدر كبير. وتبيّن أنه بعد أن تلين حبات القمح، يُضاف لها الملح وتجفّف قبل أن تقوم النساء بعملية الطحن في الرحى التقليدية ثم عملية الغربلة للحصول على" الدشيشة" أو "المرمز" بعد أن تفصل عنه النسوة دقيق الشعير والنُخالة.
حسرة على الماضي
تؤكد الخالة خيرة، في حديثها لـ"ألترا تونس" أنّ طقوس تحضير شربة القمح أو الشعير ترتبط "باللمّة" أي الاجتماع في منزل إحدى النسوة، حيث يعددن الشاي على "الكانون" ويتشاركن في إعداد "عولة رمضان"، وهو أمر تفتقده اليوم إذ لم تعد عائلات كثيرة مهتمة بهذه التفاصيل خاصة في ظل توفر هذه المنتوجات في المساحات التجارية والمغازات، وفق قولها.
تؤكد الخالة خيرة أنّ طقوس تحضير شربة القمح أو الشعير ترتبط "باللمّة" والمشاركة في إعداد "عولة رمضان" وهو أمر تفتقده اليوم
وتؤكّد محدّثتنا أن نكهة "الدشيشة" و"الفريك" المعدّة في المنزل نكهة لا تضاهيها أية نكهة أخرى خاصة وأنها مصحوبة بأهازيج الغناء والأحاديث التي تتبادلنها النسوة خلال موسم الحصاد وما يعقبه من تحضيرات.
وهي تتحسّر على زمن جميل كانت النسوة تستثمر فيه الحبوب لإعداد الشربة والكسكسي والمحمصة والدقيق، تشير إلى أنّ الرائحة التي كانت تنبعث من حساء الشعير أو القمح قبل سنوات عدّة كانت أكثرًا نفاذًا وطعمه كان ألذ لأن صنعه منزلي وتراقبه ربة المنزل من بدايته إلى نهايته.
وعلى غرار بعض الأطباق الأخرى التي تميّز شهر الصيام، تظل شربة القمح أو الشعير أحد أهم الأطباق التي تزيّن الموائد في شهر رمضان رغم أنّ طريقة صنعها التقليدية باتت تقتصر على بعض الجهات وبعض العائلات فقط في ظل توفّرها في المغازات والمحلات التجارية.
اقرأ/ي أيضًا: