تواجه حركة النهضة في نهاية سنة 2019 محنتين، محنة الصّراع على رئاسة الحركة ومحنة تشكيل الحكومة، كلتاهما تتّصف بالتعقيد والخطورة ويخضع إلى ألوان من الضغط، منها الزمنيّ والمصلحيّ والمبدئيّ. محنة رئاسة النهضة يفرضها المؤتمر المقبل خلال النصف الأوّل من سنة 2020 في ظرف يعاني فيه الحزب من بوادر تصدّع تشكّلت من خلال الاتّهامات وتباين الاجتهادات حول مسألة خلافة راشد الغنوشي أو التمديد له.
أمّا المحنة الثانية فهي أشدّ وأكثر تشعّبًا، فتشكيل الحكومة بات مقصدًا عصيًّا بسبب الاختلافات الجوهريّة بين الأحزاب المعنيّة بالمشاركة في السلطة التنفيذيّة ذات الصلاحيّات الأوسع.
فشل النهضة في إدارة العديد من الملفات مع شركائها في الحكومات السابقة ووعيُها بما ينتظرها من تحديّات عاملان يساهمان في تمسّك بعض الأحزاب برفض المراهنة على "جواد خاسر" ويدفعانها بإلحاج إلى طلب الودّ السياسيّ بأساليب شتّى.
اقرأ/ي أيضًا: حوار| عبد الباسط بن حسن (المعهد العربي لحقوق الإنسان):هذا ما نطلب من قيس سعيّد
للوقوف على هذه الأجواء المتوتّرة والمشاغل المتشابكة بُغْية التحقّق والاستخبار والاستيضاح، كان لـ"ألترا تونس" لقاء مع نور الدين البحيري القيادي بحركة النهضة، وهو اختيار تبرّره بعض المزايا التي يتحلّى بها هذا النائب، فقد اتّفق الكثيرون على اعتباره أحد أكثر السياسيين غزارة في التجارب واستفاضة في الكلام ووفرة في الأفكار ورحابة صدر في التواصل واستعدادًا دائمًا للمواجهة.
هذه السمات جعلت نور الدين البحيري من أكثر السياسيين حضورًا في المنابر الإعلاميّة والسياسيّة، وهو ما يجعله "يحترف" فنّ الجدال والسجال والمناورة أحيانًا، وحرصًا على الفائدة توخّى" ألترا تونس" في التفاعل مع البحيري الحرص على الدقّة من خلال حصر الحوار في مشغلين الأوّل وطنيّ يرتبط بتشكيل الحكومة والعلاقة مع بقيّة الأحزاب والثاني حزبيّ يتّصل "بالتدافع" داخل حركة النهضة حول مسألة " الخلافة".
في هذا السياق يندرج الحوار التالي.
- قبل الخوض في المسائل الإشكاليّة حدِّثنا، أستاذ البحيري، عن الجديد في ما يتّصل بمشاورات تشكيل الحكومة؟
تقوم الحركة بكلّ ما في وسعها من أجل كسب الوقت لتشكيل الحكومة في الآجال المحدّدة وفق رؤية واضحة وبرامج دقيقة وأهداف محدّدة، وقد بدأت اللقاءات منذ الإعلان عن النتائج الأولّية للانتخابات، آخرها اجتماع أوّل عقدته النهضة مع كتلة الإصلاح الوطني التي تأسست يوم 5 نوفمبر/ تشرين الثاني أي منذ ثلاثة أيّام، وقد ضمّت أحزاب البديل والنداء والمشروع وعددًا من المستقلّين، وستكون لنا لقاءات لاحقة علّها تكون مثمرة بنّاءة.
نور الدين البحيري لـ"ألترا تونس": يبدو أن التيّار الديمقراطيّ يمارس لونًا من التخفّي وراء مطالب تعجيزيّة من فرط خشيته من تحمّل المسؤوليّة
- ماذا عن نتائج المشاورات مع بقيّة الأطراف؟
لا أخفي عليك أنّ الأمور لم تتقدّم خاصّة في علاقة بحركة الشعب والتيّار الديمقراطيّ رغم أنّ المشروع الذي قدّمته النهضة يضمّ نقاطًا تبدو جامعة تتمسّك بها جلّ الأطراف، منها العدول عن المحاصصة في توزيع المسؤوليّات والتعويل على الكفاءة ونظافة اليد والالتزام ببرنامج وطنيّ، فليس ثمّة خلاف حول ضرورة مكافحة الفساد والحدّ من ارتفاع الأسعار ومساعدة الطبقة الفقيرة وحماية الفئة المتوسّطة، وهو ما يقتضي بالضرورة الحرص على تطوير المنظومة العموميّة خاصّة في قطاعات التعليم والصّحة والنقل دون التغافل عن تعزيز الاستثمار ومواصلة تركيز الحكم المحلّي...
- ما دامت هذه النقاط موضوع إجماع، بم تفسّر الفجوة التي ما انفكّت تتسّع خاصّة مع التيّار وحركة الشعب؟
حركة الشعب حزب لا يرى نفسه إلّا في المعارضة، وقد كشف بعض قيادييه عن حرصهم على دعم رصيدهم السياسيّ في هذا الموقع، والحال أنّ المعارضة تقتضي التسلّح ببدائل والتوجّه نحو التنبيه والإثراء والضغط أحيانًا وفي نفس الوقت الاستعداد الدائم والجادّ لتحمّل مسؤوليّة الحكم في صورة إخفاق الأحزاب الفائزة، وحسب رأيي المعارضة التي تبني خطابها على الهدم والرفض المطلق لا مستقبل لها سواء في الحكم أو حتّى في المعارضة.
أمّا التيّار الديمقراطيّ فيبدو أنّه يمارس لونًا من التخفّي وراء مطالب تعجيزيّة من فرط خشيته من تحمّل المسؤوليّة، فقياداته على بيّنة من الرهانات الصعبة التي تنتظر الحكومة، وهي رهانات تتطلب صبرًا وشجاعة وتجربة وحسن تدبير. فما يطلبه التيار لا يقبله عاقل، ذلك أنّ حرمان النهضة من حقّها الدستوريّ في رئاسة الحكومة في المقابل تمتيع التيار بوزارتي الداخليّة والعدل فضلًا عن وزارة الإصلاح الإداريّ مقترحات ترقى فعلًا إلى مرتبة الشروط التعجيزيّة.
البحيري لـ"ألترا تونس": ليس لدينا احترازات إلّا على المتطرّفين والمشبوهين بالتورّط في الفساد والاستئصاليين وائتلاف الكرامة عامل دعم للنهضة لا مصدر حرج
- أشرت إلى الشجاعة في تحمّل المسؤوليّة، والحال أنّ جلّ خصومكم وحتى بعض أنصاركم يعيبون عليكم سياسة الأيادي المرتعشة والتطبيع مع الفساد؟
هذا الموقف إن صدر عن جهات تحرص على العدل والإصلاح فهو محتاج إلى التفسير والإيضاح، وإن صدر عن أطراف أخرى، فهو يندرج في باب الثورجيّة، فالنهضة كانت أوّل من أبدى عزمًا على مقاومة الفساد، ففي وزراة العدل على سبيل المثال إبّان حكومة الترويكا أَعفيتُ أكثر من ثمانين قاضيًا والعشرات من ضبّاط السجون المشبوهين، وغامرت بإصدار مذكّرة وزاريّة كانت منطلقًا عمليًّا لفتح العديد من الملفّات الخطيرة قبل التركيز القانونيّ للقطب القضائيّ الاقتصاديّ والماليّ، وقد تصدّى لهذه الخطوة رؤوس الفساد عبر أبواقهم المبثوثة في الإعلام وبعض المنظمات والتحق بهم السذج والمأجورون، فتمّ تنظيم احتجاجات ظاهرُها الدفاع عن استقلال القضاء وباطنُها تعطيل محاسبة الفاسدين، فدفعتْ النهضة بسبب ذلك فاتورة سياسيّة، وخسرت البلاد وقتًا طويلًا في مسار استرداد الأموال المنهوبة.
تلك الحملات أوهمت المتابعين في الداخل والخارج أنّ القضاء كان غير مستقلّ، بل ثمّة من نعت هذا المرفق بكونه "قضاء البحيري"، بسبب ذلك أفلت العديد من الفاسدين ومنهم صخر الماطري وبلحسن الطرابلسي، وكلكم تذكرون تلك المظاهرات المطالبة بإطلاق سامي الفهري رجل الأعمال التي حامت حوله شبهات فساد، فما تعليق هؤلاء حول هذه القضيّة التي عادت إلى السطح منذ أيّام؟
- كلامك يوحي بأزمة ثقة بين الأحزاب والمنظمات، ويكشف خاصّة عن خلافات عميقة بين النهضة وجلّ الأطراف الفاعلة، ألا تعتقد أنّ قيس سعيّد قادر بما يملكه من رصيد انتخابيّ على تقريب وجهات النظر؟
لا شكّ أنّ رئيس الجمهوريّة سيكون له دور تعديليّ فاعل في قادم المناسبات، وأظنّ جازمًا أنّه سيتفطّن إلى أنّ جزءًا من هذه التجاذبات يعود إلى القانون الانتخابيّ الذي يساهم في مزيد التفكّك والارتباك ومضيعة الوقت داخل البرلمان، وبناء على ذلك ننتظر أن يمضى قيس سعيّد على وثيقة التعديل الانتخابيّ التي صادقت عليها هيئة دستوريّة القوانين وتعطّل تفعيلها بسبب تزامن إصدارها مع مرض الرئيس الباجي قائد السبسي ثمّ وفاته.
- خلافًا لحركة الشعب والتيار تبدو علاقتكم بائتلاف الكرامة أكثر انسجامًا، والحال أنّ خصومكم يصفونه بالتشدّد، فهل يمثّل هذا المولود السياسيّ الجديد عامل دعم للنهضة أم مصدر حرج في علاقة بعدد من الأحزاب والمنظمات؟
نواب ائتلاف الكرامة أنصفهم الصندوق واختارهم آلاف المواطنين عبر انتخابات حرّة نزيهة، ليس لدينا احترازات إلّا على المتطرّفين والمشبوهين بالتورّط في الفساد والاستئصاليين، ما عدا هؤلاء فكلّ الأحزاب والائتلافات بالنسبة إلينا تعدّ مصدر دعم للديمقراطيّة وللمشاريع الوطنيّة بصرف النظر عمّا يتّصف به كلّ طرف من خصوصيّة وتبعًا إلى ذلك فإن ائتلاف الكرامة يعدّ عامل دعم لا مصدر حرج.
اقرأ/ي أيضًا: عبد اللطيف العلوي: النهضة والتيّار من حلفائنا وأعداء الثورة هم أعداؤنا (حوار)
- تعهّد ائتلاف الكرامة بعدم الاستجابة إلى ضغوطات المنظومة القديمة والإملاءات الخارجيّة، في المقابل دأبت النهضة على التنازلات، هل يمكن أن يفضي ذلك إلى خسران أحد أوثق الحلفاء؟
من حقّ ائتلاف الكرامة التمسّك بتصوّراته في إطار القانون ومراعاة مبادئ العدل والتعايش السلمي، لكن لا بدّ من التذكير بأنّ النهضة لم تقبل التنازل إلّا وفق قاعدة المصلحة الوطنيّة، فأمن تونس وأمن أبنائها وسلامتهم أهمّ بالنسبة إلينا من المقاصد الحزبيّة الضيّقة.
- فضلًا عن معضلة تشكيل الحكومة تنتظركم قضايا خطيرة منها مسألة المساواة في الميراث التي تراقبها عيون كثيرة في الداخل والخارج، كيف أنتم فاعلون إزاء هذا اللون الجديد من الضغط المتعارض مع قناعاتكم؟
الميراث مسألة قطعيّة الدلالة في القرآن والدفع نحو إقرار المساواة في الميراث يتعارض مع حريّة الضمير الجمعيّ للتونسيين، فلا يحقّ وفق المعايير الدوليّة والدستوريّة إرغام المواطن على فعل أشياء تتعارض مع عقيدته وقناعاته متى كان ملتزمًا بشروط التعايش السلميّ، وبناء على ذلك لن تتراجع النهضة عن موقفها في مسألة الميراث مهما بلغت الانتقادات والضغوط، فموقفنا صارم صرامة النصّ في هذه المسألة التشريعيّة.
- هل تنسحب هذه الصرامة على تمسّككم بترشيح أحد أبناء النهضة لرئاسة الحكومة؟
الدستور يبيح لنا بل يُحملنا مسؤوليّة ترؤس الحكومة وتشكيلها، والقوانين الداخليّة تحثّنا على ترشيح رئيس الحركة لهذا المنصب، وكفاءة راشد الغنوشي تمكنه من الاضطلاع بهذه المهمّة، سنظلّ متمسّكين بهذه النقاط ما لم تتعارض مع المصلحة الوطنيّة.
- كيف تحدّدون ما ترونه مصلحة وطنيّة؟
نراعي في ذلك الثوابت الدستوريّة من جهة وجملة من المعطيات التي تفضي إليها المشاورات مع الأحزاب والشخصيات السياسيّة والمنظمات والخبراء، وهي معطيات نناقشها بمنتهى الجديّة في مجلس الشورى.
البحيري لـ"ألترا تونس": الدستور يُحملنا مسؤوليّة ترؤس الحكومة والقوانين الداخليّة تحثّنا على ترشيح رئيس الحركة وكفاءة الغنوشي تمكنه من الاضطلاع بذلك وسنظلّ متمسّكين بهذه النقاط ما لم تتعارض مع المصلحة الوطنيّة
- هل ينطوي ما تقول على استعداد لترشيح شخصيّة مستقلّة؟
مبدئيًّا مرشّحنا من حركة النهضة ما لم يفض اجتماع مجلس الشورى إلى خيارات أخرى.
- هل طرحت بعض الأسماء مثل يوسف الشاهد ومصطفى بن جعفر؟
التركيز الآن على مرشّح من النهضة، بالنسبة إلى الشاهد مستبعد خاصّة من قبل بعض الشركاء، وبن جعفر لم يتمّ اقتراحه داخل الهياكل الرسميّة للحركة.
- هذه الهياكل التي أشرت إليها لم تعد منسجمة كما ألفناها في السابق، في هذا السياق أسألك عن المؤتمر المقبل للنهضة، هل أنتم عازمون على عقده في الآجال القانونيّة؟
لا شكّ في ذلك، فقد دأبت الحركة على الانضباط والالتزام بقوانينها الداخليّة.
- لكن، ما الذي عطّل بداية الاستعداد لهذا المؤتمر المرتقب؟
ساهمت في ذلك جملة مع العوامل منها ضغط الروزنامة السياسيّة، وقد ارتأت النهضة، كما قلت لك، في العديد من خياراتها تقديم الشأن الوطنيّ على المسائل الحزبيّة والشخصيّة، فكان التركيز على المشاركة في إدارة الحكم ومناقشة التشريعات والإعداد للانتخابات البلديّة والتشريعيّة والرئاسيّة فضلًا عن التفكير في مناسبات سياسيّة مقبلة منها الانتخابات المحليّة.
البحيري لـ"ألترا تونس": اقتراح التمديد لراشد الغنوشي جائز متى وجدنا في ذلك مصلحة للوطن أولًا وللحزب في مقام ثان
- هل يمكن أن يفضي ضغط الروزنامة السياسيّة إلى تأجيل المؤتمر الحادي عشر لحركة النهضة المزمع إنجازه في ربيع 2020؟
لِمَ لا، فالقوانين الداخليّة تقتضي الالتزام، ولكنها لا ترقى إلى منزلة الأحكام القرآنية الثابتة، فهي إذن قابلة للتعديل والمراجعة وفق معايير موضوعيّة.
- هل يمكن أن يمتدّ هذا التعديل إلى اقتراح التمديد لراشد الغنوشي؟
هذا جائز في رأيي متى وجدنا في ذلك مصلحة للوطن أوّلًا وللحزب في مقام ثان.
البحيري لـ"ألترا تونس": لا أفكر في مناصب وزارية أو برلمانية، سأحرص على تحمّل مسؤوليتي الجهويّة والتركيز على هموم أبناء بن عروس ومشاغلهم
- هل تفكّر في مواصلة ترؤس كتلة حركة النهضة في البرلمان أو تقلّد مسؤوليّة وزاريّة؟
لا هذا ولا ذاك، سأحرص على تحمّل مسؤوليتي الجهويّة، فالعقد الذي يربطني بمن انتخبني يقتضي مني التركيز على هموم أبناء بن عروس ومشاغلهم.
- هل تعترف بالتقصير في هذا الجانب؟
لا أنكر ذلك، وبناء عليه سأسعى إلى التدارك، فتدخّلات النائب في جهته كفيلة بتذليل العديد من العراقيل، وأنا أنصح النواب بالالتفات إلى جهاتهم وردّ جميل ناخبيهم عبر الإنصات والمتابعات والمبادرات، فتلك الجهود تندرج في صميم العقد الانتخابيّ.
اقرأ/ي أيضًا:
فوزية الشرفي: نعيش إسلام المظاهر.. والإسلام دين تونس وليس دين الدولة (حوار)
فوزية الشرفي: الدولة ليست "السيستام" والإسلام السياسي يهدد المجتمع (حوار)