02-سبتمبر-2019

منذ 2011 لم يعرف المسار التّونسيّ مُناخًا انتخابيًّا بضبابيّة المُناخ الحاليّ (فتحي بلعيد/ أ ف ب)

منذ 2011 لم يعرف المسار التّونسيّ مُناخًا انتخابيًّا بضبابيّة المُناخ الحاليّ. وفي غضون الاستحقاقين الانتخابيّين لسنتي 2011 و2014 لم يشهد التّونسيّون سباقًا انتخابيًّا دراماتيكيًّا على النّحو الذي يشهدونه: حركة النّهضة تقدّم مرشّحها فيما يبدو خرقًا لعُرف سياسيّ يقتضي أن لا يتطلّع الإسلاميّون لقصر قرطاج، مُرشّح آخر تُعطيه نتائج سبر الآراء حظوظًا واسعة داخل قضبان السّجن، ورئيس حكومة مُترشّح يُتّهم بتوظيف القضاء لصالحه وكلّ ذلك في ظلّ انتخابات مبكّرة فاجأت الجميع وجعلت السّباق نحو الرئاسة في قلب الحدث.

ماذا لو قُدّر أن يكون أحد المتنافسين في الدّور الثّاني في السّجن؟ وماذا لو قُدّر أن يكون التّنافس بين سجين ورئيس حكومة؟ 

وإلى حدود إعلان الترشّحات للسّباق الرئاسيّ، كان يبدو أن الديمقراطيّة التونسيّة مطمئنّة بحدود ما هو معروف بخصوص عدم إقرار المحكمة الدّستوريّة، ومسار اللامركزيّة المتعثّر باستقالات متكرّرة لعدد من المجالس البلديّة، بيد أنّ المستجدّات الأخيرة تضع المسار التّونسيّ برمّته وبسرعة مذهلة مُقارنة بالديمقراطيات التقليديّة على محكّ أزمة الشّرعيّة.

اقرأ/ي أيضًا: الانتخابات التونسية.. مدخل للاستقرار أم للعجز عن الحكم؟

أزمة الشرعيّة ومخاطر التشكيك في نتائج الانتخابات

فمن ناحية أولى بدأت بعض الأصوات ومنها الاتّحاد العامّ التونسيّ للشغل تعلو وتخفت مُعبّرة عن قلق متزايد إزاء نزاهة العمليّة الانتخابيّة سواء لأسباب تقليديّة معروفة منها الإعلام والمال أو لعوامل مباشرة على غرار ما اعتُبر توظيفا للقضاء في إيداع نبيل القروي السّجن.

ومن ناحية ثانية، فإنّه وبقدر ما يقترب التّونسيّون من الاقتراع بقدر ما يبدو شبح أزمة الشّرعيّة هذه أخطر وأكثر وضوحا. ماذا لو قُدّر أن يكون أحد المتنافسين في الدّور الثّاني في السّجن؟ وماذا لو قُدّر أن يكون التّنافس بين سجين ورئيس حكومة؟ أيّة مصداقيّة انتخابيّة أو أخلاقيّة للمُنتصر في الحالتين؟ وماذا لو تحصّل المُرشّح السّجين على نسبة مُعتبرة من المُنتخبين دون أن يمرّ للدّور الثّاني، هل سيعتبر مناصروه أن مُرشّحهم كان ضحيّة لإيداعه في السّجن لأسباب سياسيّة؟ وكيف سيكون موقف ممثّليه في البرلمان وما مدى تأثير ذلك على السّير العاديّ للمؤسّسات؟ ماذا لو أصبح عدم الاعتراف بنزاهة العمليّة الانتخابيّة عنوانًا للمعارضة في المرحلة المقبلة وإلى أيّ حدّ سيُغري ذلك المستثمرين في إجهاض الحدّ الأدنى الديمقراطيّ والفوضى أيّا يكن شكلها؟

إنّ درجة التوتّر الذي بلغه التنافس الانتخابيّ الرئاسيّ يضرب أساسًا من أسس فلسفة النظام السياسيّ وهو أن يكون رئيس الجمهوريّة عامل وحدة لا تقسيم

اقرأ/ي أيضًا: هل يجب أن يكون رئيس تونس الجديد فصيحًا وخطيبًا؟

كلّ تلك أسئلة تبدو أكثر واقعيّة بقدر ما يقترب موعد الاستحقاق الانتخابيّ وتتسارع الأحداث الدراماتيكية، وإذا كان الدّستور التّونسيّ قد جعل من الانتخاب المباشر لرئيس الجمهوريّة أداة لتعديل ما قد يعتري النّظام البرلمانيّ من اضطراب ليكون الرّئيس رمزا لوحدة الدّولة، فإنّ الأرجح في هذه الظّروف أن تكون الانتخابات الرئاسيّة حمّالة لمخاطر أكبر من تشتّت السّلطة التّشريعيّة.

إنّ درجة التوتّر الذي بلغه التنافس الانتخابيّ الرئاسيّ يضرب أساسًا من أسس فلسفة النظام السياسيّ وهو أن يكون رئيس الجمهوريّة عامل وحدة لا تقسيم. ففي انتخابات 2014 ورغم التناقض الكبير بين المرشّحين الرئيسيّين في حينها، الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي والرئيس الأسبق المنصف المرزوقي، إلاّ أنّ موضوع النّزاهة وتوظيف مؤسّسات الدّولة لم يُطرح إلاّ بحدود معقولة وهامشيّة. كما أنّ التوافق السابق لانتخابات 2014 بين الشيخين، قائد السبسي وراشد الغنّوشي، كان بمثابة الأرضيّة لصيغة بدا أنّها على حدّ أدنى للاستقرار وتحقّق درجة ما من الالتفاف إن لم يكن حول الرئيس المُنتخب فعلى الأقلّ حول شرعيّته بصفته مُنتخبًا. أمّا في الانتخابات الحاليّة، فيبدو التوتّر الذي تحوّل إلى صراع دون خطّ رجعة بما قد يحول دون أن يكون المُنتصر فخورًا بانتصاره. ولمّا كانت نتائج الرئاسيّة سابقة للانتخابات التشريعيّة وبالتالي مُحدّدة لقسط كبير من نتائجها، فإنّ أيّ تشكيك في نتائج الأولى سينعكس على شرعيّة السّنوات الخمس المُقبلة.

نمط جديد في ممارسة السياسة

هل أصبح هذا المُنحدر شديد الخطورة أم لا تزال ثمّة فرصة لتداركه؟

تبقى إمكانيّة التّدارك ممكنة ما لم تتحوّل أزمة الشّرعيّة هذه إلى كرة ثلج قد تشكّل عنوانًا لمعارضة أو احتجاج من خارج مُسلّمة الاعتراف بنتائج العمليّة الانتخابيّ على ضوء صراع محموم على الرئاسة لا يبدو أنّه ينضبط لأيّ قواعد لعبة.

في الواقع، يمكن فهم عدم الانضباط لقواعد اللعبة في إطار عدم الإعداد الجيّد المؤسّساتيّ والقانوني للانتخابات بحكم مفاجأة مرض ثمّ وفاة الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، يبدأ ذلك بعدم إرساء المحكمة الدّستوريّة ولا ينتهي عند عدم استيفاء شروط التأكّد من التزكيات الشّعبيّة أو التصدّي للإخلالات المُحتملة في القانون الانتخابيّ وشروط الترشّح كما تدافع عن ذلك رئاسة الحكومة. ولكنّ عدم الحرص هذا على قواعد اللّعبة وروح المغامرة والمخاطرة سواء في مساري الغريمين الرئيسيّين الشّاهد والقروي قد يُعزى إلى دخول جيل جديد من السّياسيّين لم ينشأ في متاهات الأفكار والأحلام الكبرى السّياسيّة ولم يتمرّس بالتّجارب التنظيميّة في معارضة السّلطة ولم يُعرف عنه مسار سياسيّ نضاليّ بالمعنى التقليديّ للكلمة. نحن إزاء جيل أو لعلّه نزق جديد وليس جيليًّا بالضرورة في الممارسة السياسيّة.

يشعر التونسيون وهم يتابعون حلقات " الشّاهد والقروي" المثيرة بأنّهم إزاء عمل سينمائي واقعي تتصارع فيه تحالفات المال والإعلام والسياسة 

ولعلّ ما يميّز هذه الشخصيّات هو أنّ صيتهم السياسيّ ينشأ في السّلطة وفي دوائرها الإعلاميّة أو الماليّة وليس خارجها، كما أنّهم يميلون إلى مذهب في فهم السّياسة باعتبارها صراعًا على القوّة والنّفوذ وسباقًا لا تهمّ فيه الوسائل ما دام فيها حدّ أدنى مقبول من الإخراج. وعلى هذا النّحو، لا يهمّ إن كانت قناة إعلاميّة ومؤسّسة خيريّة مطيّة لإشهار سياسيّ مباشر أو غير مباشر في حالة المرشّح نبيل القروي، ولا يهمّ أن يتمّ تنقيح القانون الانتخابي عشيّة العمليّة الانتخابيّة وكذلك كان الأمر فيما يتعلّق بالاعتقالات حول شُبهات الفساد والتي برّأ القضاء بعض المعنيّين بها. وللتدقيق فإنّ التونسيّين يشعرون وهم يتابعون حلقات " الشّاهد والقروي" المثيرة بأنّهم إزاء عمل سينمائي واقعي تتصارع فيه تحالفات المال والإعلام والسياسة على غرار مسلسلات نات فليكس التي يقبل عليها الشّباب.

ومن هذه الزّاوية، فإنّ هذا النمط الجديد من ممارسة السياسية ليس غريبًا عن مآلات الديمقراطيّة في الزّمن الراهن: أليس ترامب في الولايات المتّحدة وبولزونارو في البرازيل وجونسن في بريطانيا نماذج للسياسيّ الجديد المغامر والمخاطر والقويّ؟ لا سيّما وأنّ التونسيين كما تفيد نتائج بعض التكهّنات يتطلّعون إلى رجل قويّ وهو أمر يتقاطعون فيه مع موجة جديدة في الرأي العام الغربي والعالمي؟ ولعلّ شعار "تونس القوية" في حملة الشّاهد وصورة الأسد في حملة القروي والتركيز على تجربة وزارة الدّفاع في حملة عبد الكريم الزبيدي  وغير ذلك دلائل على فكرة القوّة ومعاني الحرب والحسم والمخاطرة.

لكن هل تحتمل تونس الهشّة من حيث البناء الديمقراطيّ طموحات أشخاص بحجم ما يبدو أنّها طموحات المترشّحين الحاليّين أو أبرزهم على الأقلّ؟ وهل يحتمل المولود الديمقراطيّ ضعيف البنية مغامرات ومخاطرات على هذا النحو؟ ليست الإجابة بديهيّة ولكنّها حتمًا مسؤوليّة تاريخيّة على عاتق كلّ المترشّحين للرئاسة دون استثناء.

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

السيكولوجية الجماهيرية وصناعة الزعيم

المترشحون للانتخابات الرئاسية 2019.. قراءة في التركيبة واستشراف للحظوظ