08-فبراير-2019

مخلوف يعبّر عن نسق تفكير له أنصار وأتباع في مجتمع مأزوم

 

مقال رأي

 

أثارت تصريحات ومواقف المحامي والناشط السياسي في مبادرة "ائتلاف الكرامة" سيف الدين مخلوف حول قضيّة أطفال "المدرسة القرآنية بالرقاب" في ولاية سيدي بوزيد جدلًا واسعًا في صفحات التواصل الاجتماعي وفي المنابر الإعلامية التونسية بمختلف مللها ونحلها حيث كادت أن تتحوّل إلى الحدث الأبرز والأهم من المسألة الأم.

وقد تعمّق الجدل بشكل مستعر خاصة بعد استضافته في برنامج بـ"توقيت تونس" على القناة الوطنية الأولى بصفته يمثّل وجهة نظر كانت مغيّبة عن جلّ وسائل الإعلام التي تناولت الموضوع من زوايا متشابهة لم يتمّ فيها تشريك ممثّل عن أولياء الأطفال، علاوة عن نمطية الخطاب والمقاربات في التعاطي مع قضيّة الحال التي تعدّدت فيها الآراء الرافضة والمندّدة بما تمّ اكتشافه من فظاعات ارتكبت في حقّ الطفولة تحت يافطة تعليم القرآن دون الغوص في جوهر الظاهرة وخطورتها على النموذج المجتمعي والتربوي العصري ومدنية الدولة، وفقًا لأدوات تحليلية علمية وموضوعية من شأنها كشف النقاب عن الأسباب التي آلت بنا إلى هذا الوضع والدفع نحو محاسبة ومساءلة كلّ طرف أو جهة تتحمّل مسؤولية التقصير الذي حصل سياسيًا وأمنيًا وإداريًا.

أثارت تصريحات ومواقف المحامي سيف الدين مخلوف حول قضيّة أطفال "المدرسة القرآنية بالرقاب" في ولاية سيدي بوزيد جدلًا واسعًا

بلغ الأمر درجة تجريم هذه الاستضافة والدعوة لمقاطعة القناة ومقدّم البرنامج، الذي يعدّ في تقديرنا من أبرز الإعلاميين التونسيين في العقود الأخيرة ومن أكثرهم كفاءة وثقافة وأخلاقًا مهنية، وذلك بتعلّة الترويج للفكر المتطرف المتعارض مع قيم الجمهورية وحقوق الطفل ودور المرفق الاعلامي العمومي المموّل من أموال دافعي الضرائب في نشر خطاب يرتكز على مبادئ الحداثة والتقدميّة وفق أصحاب هذا الرأي المنتقد لحضور سيف الدين مخلوف مع بقيّة الضيوف الذين كانوا تقريبًا في اختلاف تام معه ومع أسلوب تفكيره وخلفيته الايديولوجية.

يقول الرافضون لاستضافة مخلوف في وسائل الإعلام ولاسيما في التلفزة الوطنية التي يفترض أنّها تعكس الرؤية العمومية للدولة إنّ هذا الرجل هو "محامي الارهابيين" وقد يكون يتقاطع موضوعيًا مع "الطابور الخامس للإرهاب" في تونس بالنظر إلى خطابه التبريري والتحريضي ضدّ الحداثيين والتقدميين والذي وصل إلى حدّ التطاول على القضاء والمسؤولين في السلطة التنفيذية.

اقرأ/ي أيضًا: تونس.. بلد العجائب السياسية

لا شكّ في أنّ المتابع لخطاب سيف الدين مخلوف ومريديه خاصة في منصات التواصل الاجتماعي يستشف الطابع الديماغوجي الخبيث والمخادع والذي ينطوي على شعارات جوفاء يتمّ عبرها دسّ السمّ في الدسم من قبيل فكرة أنّ غلق المدارس القرآنية العشوائية هو يعكس إرادة سياسية ضدّ تحفيظ القرآن للناشئة وهي تعادي بذلك هوّية غالبية الشعب المسلم الذي بات دينه الحنيف في خطر.

إنّه نفس الخطاب السلفي الذي كثيرًا ما يتدثّر به أنصار التيارات الدينية المحافظة للحشد والتعبئة ومغالطة عموم المواطنين وقد يكون مدخلًا للتكفير والتحريض وإباحة الدم. لكن هل هذا يبرّر الدعوة لإقصاء مثل هذه الأصوات التي تعبّر عن جزء من الشعب المتلاعب به؟

تضع مثل هذه الوضعيات الحسّاسة وسائل الإعلام والصحفيين في وضع دقيق مثل الذي يمشي على رمال متحركة أو حقل ألغام. فهل يحقّ تمكين أمثال المحامي سيف الدين مخلوف من التعبير عن وجهة نظرهم دون إقصاء يشرّع لتنامي ثقافة المظلومية التي صنعت في العديد من الحالات أبطالاً ومناضلين هم في حقيقة الأمر أفرغ من فؤاد أمّ موسى؟ وهل يتعارض هذا التمشي الملتزم بمبدإ التوازن والتنوع مع المواثيق الصحفيّة التي تؤكد على ضرورة الالتزام بالقيم الكونية لحقوق الإنسان وبنشر فكر مستنير وعقلاني بدلًا عن توفير منابر دعائية للتطرف الديني؟

هل يحقّ تمكين أمثال المحامي سيف الدين مخلوف من التعبير عن وجهة نظرهم دون إقصاء يشرّع لتنامي ثقافة المظلومية؟

قطعًا لن يكون الإقصاء هو الحلّ وإلا كيف يمكن أن نفسّر صعود نجم الإسلام السياسي والمجموعات السلفية بعد الثورة في تونس رغم الحرب الشعواء التي شنت ضدّ هذه التيارات الإسلاموية زمن الرئيس السابق زين العابدين بن علي لمحاصرة الظاهرة والتضييق عليها في كلّ المجالات والقطاعات. إنّ الحلّ الحقيقي يكمن أساسًا في الخروج بالأفكار الديماغوجية والماضوية من كهوف الجهل والإقصاء الذي لم يعد ممكنًا في زمن التعددية الإعلامية والميديا الاجتماعية إلى أنوار أشعة الشمس الساطعة على مرأى ومسمع من مختلف مكونات الرأي العام الديمقراطي.

لقد خلق مناخ الحريات في تونس بعد الثورة فرصًا سانحة لفتح نقاشات عميقة وبناءة حول قضايا استراتيجية تهم مستقبل التجربة الديمقراطية مثل التربية والتعليم والثقافة والمشروع المجتمعي وعلاقة الدولة بالمعتقدات الدينية التي هي شأن خاص وحرية شخصية، غير أنّ النخب الاعلامية والسياسية والفكرية كثيرًا ما سقطت في مطب الديماغوجيا والشعبوية الغوغائية عوض توجيه البوصلة صوب أصول الداء وطرق الدواء.

اقرأ/ي أيضًا: الإعلام التلفزي.. إيهام بالتفكير وتسيّد المبتذل

من العبث اعتبار المحامي سيف الدين مخلوف، الذي يتمتّع بجميع حقوقه المدنية والسياسية علاوة عن مكانة المهنة التي يمتهنها في المخيال الجمعي، مجرد ظاهرة صوتية عابرة يمكن القضاء عليها بغلق أبواب المحامل الإعلامية التقليدية عنها، فهو بات رمزًا لجزء من المجتمع التونسي خاصة الفئات المحافظة التي هي من إفرازات أزمة مشروع التحديث الذي كانت المنظومة التربوية أحد أهم مرتكزاته. مازالت، في الأثناء، قصور عقول سياسية وثقافية نخبوية تعيش في برج عاجي بعيدًا عن الواقع وعن الهوامش وربّما هي قد تكون أصبحت خارج سياق اللحظة التاريخية ومقتضياتها رغم الادعاء بأنّها تمثّل روح العصر.

صحيح أنّ خطاب سيف الدين مخلوف يتسم بالتشنج وكثيرًا ما يتضمن مغالطات موجهة غير بريئة لكنّه في الحقيقة يعبّر عن نسق تفكير له أنصار وأتباع في مجتمع مأزوم يهتزّ وينفعل لمجرد إثارة قضيّة "المدرسة القرآنية بالرقاب" وفي المقابل لا يحرّك ساكنًا تجاه الانهيار الذي أصاب المنظومة التربوية والفساد الذي ينخر الدولة ويشوب ممارساتها والمجموعات السياسيّة والايديولوجية التي تمارس التحيّل على الشعب بوجه سافر.

صحيح أنّ خطاب مخلوف يتسم بالتشنج وكثيرًا ما يتضمن مغالطات موجهة غير بريئة لكنّه في الحقيقة يعبّر عن نسق تفكير له أنصار وأتباع في مجتمع مأزوم

المدارس القرآنية العشوائية التي أصبحت بين عشيّة وضحاها قضيّة الساعة وأولوية الأوليات على النطاق الوطني هي الابن الشرعي لمنظومة إعلامية طغى فيها التضليل والتفاهة والرداءة على امتداد السنوات التي تلت الثورة في انحراف كثيرًا ما كان مقصودًا بدور السلطة الرابعة عن مسؤولية تنمية الوعي ووضع الإصبع على مكامن الخلل حتّى يتسنّى إيقاف نزيف محاولات تخريب الدولة والمجتمع استنادًا إلى الجهل المقدس ويوتوبيا التمكين والأسلمة. 

ليس المشكل في تدريس القرآن وتحفيظه للأطفال وإنّما الطامة الكبرى في ظروف وطريقة تلقينه وتفسيره للناشئة فقرآن تنظيم "داعش" الارهابي لا علاقة له بقرآن التيار الزيتوني المستنير المتأصل في التربة التونسية. ألا يعري هذا حقيقة لا مراء فيها وهي أنّ المسألة أعمق من تلخيصها في صراع مانوي مغلوط ربّما قد يكون مفتعلًا بهدف الاستثمار السياسي؟

إنّ الديماغوجيا في المجال العمومي التونسي لم تعد حكرًا فقط على التيارات الاسلاموية بل هي أضحت سمة مشتركة بين المحافظين والحداثيين تزدهر كلّما حلّ موسم الريع السياسي من الانتخابات وهنا سيكون للإعلام دور كبير باعتباره مرآة للواقع لكي ينفض الغبار عن المخفي في بواطن المعارك التي تطمس فيها الحقيقة ويغيّب فيها العقل.

من المؤكد أنّ التأسيس لدولة المواطنة الراشدة والانتصار لقيم الجمهورية المدنية لا يمكن أن يتحقّق بالنفخ في نار الاستقطابات الهووية والأيديولوجية المغشوشة بطرق فجّة ينقلب فيها السحر على الساحر عوضًا عن فسح المجال أمام الإعلام للاضطلاع بمهامه كسلطة تنير الرأي العام، ولا تلهث وراء إثارة العواطف والمشاعر وإرضاء العقليات المرضية التي تعيش على وقع أوهام الحلول السحرية والأنا المتضخمة التي تدعي امتلاك الحقيقة المطلقة.

لم يكن سيف الدين مخلوف غبيًا في إحدى التسجيلات المصوّرة التي نشرت له في مواقع التواصل الاجتماعي حينما توعد المساندين لقرار غلق "المدرسة القرآنية بالرقاب" ونقل الأطفال إلى مركز للإحاطة والرعايا النفسية والاجتماعية بالثأر منهم وجرد الحساب بعد الانتخابات المرتقبة التي ستجرى نهاية العام الحالي مشدّدًا على أنّه سيتم إعادة الأئمة الذين عزلوا بتهمة عدم الحياد والدعاية للفكر التكفيري فضلًا عن فتح العديد من الفضاءات التي تدرّس القرآن خارج المنظومة التربوية القائمة فهو يعي جيدا ما يقول.

إنّ الديماغوجيا في المجال التونسي لم تعد حكرًا فقط على التيارات الإسلاموية بل أضحت سمة مشتركة بين المحافظين والحداثيين تزدهر كلّما حلّ موسم الريع السياسي من الانتخابات 

يستعدّ مخلوف على الأرجح لخوض غمار الانتخابات التشريعية القادمة في قائمة مستقلّة في دائرة تونس العاصمة رغم أنّ بعضهم حثّه على دخول معترك السباق الرئاسي كمرشح للخطّ المساند للثورة وهو ما قد يمكنّه من الولوج إلى مجلس نواب الشعب عبر الآليات الديمقراطية التي تكون السيادة فيها للشعب. فهل يمكن وقتها أن يحافظ أصحاب الرأي الرافض لدعوته في وسائل الإعلام على موقفهم أم أنّهم قد يذهبون إلى أبعد من ذلك من خلال تصنيف الناخبين للمحامي سيف الدين مخلوف وأمثاله إرهابيين و"دواعش" وجب لعن الديمقراطية التي مكنتهم من حق الاقتراع؟

إنّ الأخطر ممّا كشف بعد التحقيق الذي أنجز حول "المدرسة القرآنية بالرقاب" هو سقوط الإعلام في فخّ الترويج للديماغوجيا المزدوجة التي أدت بالبلاد إلى المأزق الرّاهن الذي كان نتيجة منتظرة للتصويت المفيد في انتخابات 2014. ألم يصدق ألكسيس دوتوكفيل عندما قال "حين لا يضيء الماضي الحاضر فإنّ الروح تمضي إلى الظلمات"؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

يسار مفاوض حزبيًا و"ثوري" نقابيًا: ما وراء الأكمة؟

هل قرأت الدستور يا السبسي أم على قلوب أقفالها؟