08-أغسطس-2018

المعهد الفرنسي بتونس يحتلّ جانبًا هامًا من "شارع باريس" في العاصمة التونسية (أمل المكي/الترا تونس)

"لغة الاستعمار التّي تركها عند أيتام فرنسا... عند بيض الجراد"، بهذه العبارات المشحونة بالغضب، وصف الباحث في الحضارة العربية كمال السّاكري اللغة الفرنسية والفرنكفونيين التونسيين. كان ذلك بمناسبة تظاهرة ثقافية نظّمتها إحدى الجمعيات في المكتبة الوطنية بالعاصمة تونس أواخر فيفري/شباط الماضي.

لم تكد الندوة التي اختار لها منظّموها عنوان "اللغة التونسية من أين وإلى أين" تنطلق حتّى ارتفع صوت كمال وعدد من رفاقه بالهتاف أن "أوقفوا هذه المهزلة" و"أنتم أيتام فرنسا". اتّهامات السّاكري قابلها عدد من الحضور باتّهامات مضادّة بـ"الرجعية" و"التخلّف" وعبارات من قبيل "إذا عرّبت خرّبت" و"تريدون العربية اذهبوا إلى السعودية". مشهد تكرّر كثيرًا في السنوات الأخيرة.

 الباحث في الحضارة العربية كمال السّاكري: أتباع اللّهجة التونسية هم بالأساس أتباع الفرنكفونية الذين يسيطرون على دواليب المشهد الثقافي والسياسي اليوم

يتّهم السّاكري منظّمي التظاهرة بالعمل على ضرب اللغة العربية في تونس من خلال الدعوة إلى "الارتقاء باللّهجة التونسية إلى مستوى اللّغة قائمة الذّات"، إذ أنّ تقهقر العربية الفصحى سيفسح المجال أكثر أمام اللغة الفرنسية الأمر الذي يعتبره "أجندة أجنبية استعمارية". ويعتبر الباحث في الحضارة العربية أنّ "أتباع اللّهجة التونسية" هم بالأساس "أتباع الفرنكفونية" الذين يسيطرون على دواليب المشهد الثقافي والسياسي اليوم، مستشهدًا بمقولة نسبت إلى الجنرال الفرنسي شارل ديغول في حديثه عن خروج فرنسا من المستعمرات "لقد خرجنا منها لكنّنا تركنا فيها بيض الجراد".

سهام بلخوجة... صديقة ماكرون

"سأقتلكم جميعًا وحسابكم قادم. لم يتكلّم أحد. جميعكم صامتون". بهذه العبارات المغلّفة بالتهديد، خاطبت مدرّبة الرّقص التونسية سهام بلخوجة تجّار المدينة العتيقة. كانت بلخوجة تتصدّر وقتها موكب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال زيارته إلى تونس وشكّل وعيدها بـ"القتل" للتّجار إذا هم لم يهتفوا لرئيس فرنسا صدمة كبيرة للتونسيين.

بعد مضيّ فترة من ذلك، التقيت سهام في مقرّ عملها الجديد بمدينة الثقافة بالعاصمة تونس أين تقدّم دروسًا في الرّقص لمجموعات من الشباب. منعتنا الأشغال المتواصلة في المدينة من إنجاز اللقاء هناك، فأخذتني بلخوجة إلى بيتها. منزل في أحد الأحياء الراقية للعاصمة التونسية، يتوسّط ساحته الخلفية حوض سباحة ويجري عبرها بطباط (caniche) أبيض الفروة، الكلب المفضّل لدى الفرنسيّين.

اقرأ/ي أيضًا: الجرائم الفرنسية ضدّ التونسيين والثأر غير المنسي

وجه خالي من المساحيق، شعر أشقر وفستان أنيق مفتوح الصّدر. بلهجة تونسية تغلب عليها ألفاظ فرنسية، حدّثتني سهام عن محبّتها للفرنكفونية لغة وثقافة ومبادئ حقوق الإنسان.

تفتخر سهام بأنّ الرئيس الأوّل للجمهورية التونسية الحبيب بورقيبة كان من الآباء المؤسّسين للمنظمة الدوليّة للفرنكوفونية إلى جانب الرئيس الأسبق للسّينغال ليوبولد سيدار سينغور والرئيس النيجيري هاماني ديوري والأمير الكمبودي نورودوم سيهانوك. فالفرنسية بالنّسبة للمرأة التي تتّهم دائمٍا بكونها "يتيمة فرنسا" هي "سلاح" تركه بورقيبة للتونسيين فضلًا عن اللّغة العربية. وإن كانت سهام تحبّ لغة "موليير" لأنّها لغة الشّعر والحريّة وفق تعبيرها، فإنّها تصف اللغة العربية بالـ"ثريّة" جدّا وتتمنّى لو أنّها كانت تجيدها بشكل أفضل.

[[{"fid":"100955","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"1":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":400,"width":600,"class":"media-element file-default","data-delta":"1"}}]]

سهام بلخوجة هي من أبرز الوجوه الفرنكفونية في الساحة الثقافية التونسية

تعتقد سهام بلخوجة أنّ الفرنسية قد تراجعت في تونس بسبب تزايد إقبال الأجيال الشابّة على تعلّم الإنجليزية وتأثّرها بالثقافة الأنجلو-ساكسونية. ولذلك، يتوجّب، وفق قولها، العمل على ترغيب الأطفال والشباب مجدّدًا في المطالعة ومشاهدة الموادّ الإعلامية الفرنسية باختلافها، مباركة في ذلك جهود السفارة الفرنسية والمعهد الفرنسي بتونس.

تقع السفارة الفرنسية، المحاطة بالأسلاك الشائكة، في قلب العاصمة تونس، وتحديدًا بشارع "الحبيب بورقيبة" والذي كان يحمل اسم "جول فيري" أو عرّاب الاحتلال الفرنسي لتونس كما عُرف عنه. يؤمّن مبنى السفارة، مقرّ الإقامة العامّة الفرنسية زمن الاستعمار، كتيبة من العسكريّين والحرس الوطني التونسي الذين يتحصّنون بأكياس ترابية. أمّا المعهد الفرنسي بتونس، فقد أصبح يحتلّ منذ انتقاله من "شارع الحريّة" جانبًا هامًا من "شارع باريس" الذي ينتهي إلى "شارع الثورة". ويقدّم المعهد دروسًا في اللّغة كما يقوم بتنفيذ وتمويل أنشطة ومشاريع ثقافية عديدة.

انطلقت مسيرة سهام بلخوجة بالظهور في برامج تلفزية بداية تسعينيات القرن الماضي ممّا فتح أمامها أبواب الفنّ الرّابع لتشارك في أعمال مسرحيّين كبار على غرار الفاضل الجزيري والفاضل الجعايبي، قبل أن تبلغ مرحلة العالمية باستضافتها في برنامج "كلمات منتصف اللّيل" على القناة الفرنسية الثانية. وفي عام 2001، أسّست مدرّبة الرّقص جمعية "ناس الفنّ" لتقدّم نفسها كـ"جبهة لمقاومة التطرّف وكلّ مشتقّاته الكريهة". ومنذ ذلك الوقت، بعثت الجمعية ثلاث تظاهرات كبرى بتمويل فرنسيّ بالأساس وهي "لقاءات قرطاج للرّقص" و مهرجان "وثائقيّات بتونس" (Doc à Tunis) ومهرجان "التّصميم والموضة في قرطاج".

تشعر سهام بلخوجة بـ"الوجع" لردود الفعل الغاضبة في تونس على الفيديو الذي ظهرت فيه تتوعّد تجّار المدينة العتيقة. تقول إنّها لطالما اعتقدت أنّ التونسيّين "يرجون لها الخير" وأنّها "لم تتخيّل أن يحسدوها يومًا".

سهام بلخوجة وهي من أبرز وجوه الفرنكفونية في الساحة الثقافية التونسية تدعو إلى ترغيب الأطفال والشباب في المطالعة ومشاهدة الموادّ الإعلامية الفرنسية لمواجهة تراجع الإقبال على اللغة الفرنسية في تونس

"ميزة ماكرون أنّه رئيس شابّ... وتونس ديمقراطية شابّة"، تلاحظ بلخوجة مبتسمة قبل أن تستخلص "إذاً علينا أن نتعامل معه بمنطق أعطني أعطك". فالمسألة تتعلّق في اعتقادها بمصالح متبادلة تستفيد فيها فرنسا من نشر ثقافتها وبيع منتوجاتها الصناعية في تونس والمنطقة الفرنكفونية وتستفيد تونس بدورها من الفرص التي تقدّمها اللغة الفرنسية في المجال الإفريقي الفرنكفوني من مواطن شغل على وجه الخصوص. وتضيف شارحة: "الأبواب مفتوحة اليوم في إفريقيا للعمل في بلدان ترغب في جلب عمّال وموظّفين تونسيين فرنكفونيين لا عمّال وموظّفين فرنسيين".

"من المفروض أن يسعد التونسيون لأجلي كوني صديقة ماكرون وزوجته بريجيت"، تقول سهام مضيفة "وأعلمكم أنّني كنت صديقة مقرّبة جدًا من نيكولاس ساركوزي وكارلا بروني صديقتي منذ 30 عامًا أمّا جولي قايي (ممثّلة فرنسية وحبيبة الرئيس السابق فرانسوا هولاند) فقد سبق لها أن حضرت أحد المهرجانات التي أديرها". وتتساءل "هل يتوجّب عليّ قطع علاقاتي لأنّني سهام بلخوجة؟".

تصرّ سهام على أنّ ما يجمعها بالرئيس الفرنسي الحالي هي مجرّد علاقات إنسانية وصداقة وليس "ولاءً سياسيًا لفرنسا"، مؤكّدة أنّ "الولاء لا يكون إلاّ لتونس" وأنّ الصداقات مع الرؤساء والمسؤولين الأجانب تعود بالنّفع على المواطن التونسي عمومًا لا على صاحبها وحده. وهي تدعو التونسيين بالتّالي إلى القطع مع الاتّهامات والبقاء على عهدها بهم "شعبًا مضيافًا".

فيديو: الفرنكفونية.. محل خلاف في تونس

الفرنكفونية... صراع ثقافة وافدة مع ثقافة محليّة

تعرّف الفرنكفونية بأنّها أحد أكبر المجالات اللّغوية في العالم، حيث يتحدّث بها قرابة 274 مليون شخص موزّعين على القارّات الخمس وفق تقرير نشره مرصد اللّغة الفرنسية عام 2014. لكنّ الفرنكفونيين يعتبرون أنّ ما يجمعهم أكثر من مجرّد تقاسم للّغة بل اشتراك في قيم إنسانية تمثّل الفرنسية القناة الرئيسية لنقلها.

يعود مصطلح الفرنكفونية إلى الجغرافي الفرنسي أونسيم روكولو الّذي عرّفه عام 1880 بأنّه مجموع الأشخاص والدّول الّتي تستخدم اللغة الفرنسية. أمّا "المنظّمة الدّولية للفرنكفونية" فقد تأسّست رسميًا سنة 1970 بهدف تفعيل اللغة الفرنسية وتطويرها والتّرويج لها.

اقرأ/ي أيضًا: "فطاير باب عليوة" والحضارة الإفرنجية.. ما رأي باي تونس؟

دخلت الفرنكفونية، لغة وثقافة، إلى تونس مع دخول المستعمر الفرنسي سنة 1881. واعتمد التعليم الفرنسي وحده خلال فترة الاستعمار التي امتدّت إلى عام 1956. فيما تواصل الأنظمة التونسية المتعاقبة بعد الاستقلال تعليم الفرنسية إلى جانب العربية واعتمادها كلغة أساسية للمواد العلمية والبلاغات الإدارية. وقد صنّف تقرير صادر في نوفمبر/تشرين الثاني 2014 عن المنظمة الدولية الفرنكوفونية تونس الثانية إفريقيًا من حيث استعمال اللغة الفرنسية.

ولا يكاد يغيب عن كلّ زوّار تونس من الأشقاء العرب أو الأجانب ملاحظة حضور الفرنكفونية بشكل كبير في المجال العامّ، إذ تغلب على لافتات المحلاّت والمقاهي والمطاعم والصيدليات وغيرها الكتابة بلغة "موليير" وتتعدّد البنايات المشيّدة على المعمار الكولونيالي الفرنسي. أمّا التونسيون أنفسهم فيستخدمون عبارات فرنسية عديدة أثناء التخاطب. 

[[{"fid":"100966","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"2":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":399,"width":600,"class":"media-element file-default","data-delta":"2"}}]]

يغلب استعمال اللغة الفرنسية في تسمية المحلات والمقاهي في تونس

في المقابل، يعرّف الصغيّر شامخ، الباحث في علم الاجتماع، الفرنكفونية في تونس كالتالي: "هي أن يتبنّى مواطن، بمقوّمات شخصيّة قاعدية ثقافية ناتجة عن الهجنة الثقافية لساكنة إفريقيا، مقوّمات هويّة وافدة ويعيش وفقها"، ليخلص إلى أنّها إذًا "صراع ثقافة محليّة مع ثقافة وافدة تكون الغلبة فيه لمقوّمات الثقافة الوافدة للمستعمر الفرنسي على حساب مقوّمات الثقافة المحليّة لساكنة شمال إفريقيا".

ويشير الصغيّر إلى ضرورة التمييز بين "أن تتقن اللغة الفرنسية باعتبارها لغة للتواصل مع المتحدّثين بها، وبين أن توطّن مبادئ وثقافة الفرنسيين في شخصية قاعدية من خارج المجال الجغرافي والنّسق الثقافي الفرنسي".

تواصل دعم الفرنكفونية في تونس هو استمرار طبيعي للأشكال الجديدة من الاستعمار، وفق الباحث في علم الاجتماع، فالهيمنة الاقتصادية والثقافية جاءتا تواصلًا للاستعمار المباشر. ويرى أنّنا إزاء عولمة للغة والعملة والفقر في سياق عالمي شبه متمركز حول العقل الغربي. أمّا بالنسبة لتونس، المستعمرة الفرنسية سابقًا، فهي حسب وصف الصغير شامخ "متمركزة حول العقل الفرنسي" باعتبار استمرارية الأنظمة التعليمية والإدارية والمعرفية الفرنسية المتحيّزة جغرافيًا للنسق الفكري الفرنسي لا للنسق الفكري التونسي في امتداده العربي والإفريقي والإسلامي".

الصغيّر شامخ الباحث في علم الاجتماع: تواصل دعم الفرنكفونية في تونس هو استمرار طبيعي للأشكال الجديدة من الاستعمار

رحلت فرنسا الاستعمارية إذًا دون أن ترحل معها برامج التعليم والبرامج الثقافية وهيكلة الإدارة والدولة الفرنسية، بل "وبقي الجامعيون التونسيون، خرّيجو النّسق الفكري والثقافي الفرنسي، ليؤمّموا المشهد في المجال السياسي والحيويّ"، وفق الصغيّر شامخ.

وينبّه الباحث في علم الاجتماع بجامعة تونس في ختام حديثه إلى أنّ فرنسا تواصل تصدير لغتها ومبادئها دون مقوّمات التطوّر والتقدّم مما يؤدّي إلى مزيد من الاستتباع الفكري والثقافي والاقتصادي والسياسي لهذه الدول المنضوية تحت مظلّة الفرنكفونية خارج المجال الجغرافي لفرنسا.

 

(يتبع)

 

اقرأ/ي أيضًا:

تونس.. وثائق جديدة حول استغلال المستعمر الفرنسي للثروات الباطنية

في ذكرى الحبيب بورقيبة.. جروحٌ تونسية باقية