21-أغسطس-2019

كثيرًا ما ترتبط فترات الانتظار السّياسيّ بتعطّل أو بشلل في الخدمات العامّة أو في بعضها (صورة أرشيفية/ ياسين القايدي/ الأناضول)

 

من زاوية الروزنامة السياسيّة والانتخابيّة، يصعب توقّع أن تكون سنة 2020 مستقرّة سياسيًّا واقتصاديًّا على النّحو الذي يأمله التّونسيّون. وفي حين تشخص كلّ الأنظار والطّاقات منذ وفاة الرئيس الراحل وحتّى قبل ذلك للاستحقاقين التشريعيّ والرئاسيّ، وتتعلّق آمال التّونسيّين بتغيير ما نحو الأفضل أو على الأقلّ نحو الأوضح بعد الانتخابات، فإنّ كلّ المؤشّرات تؤّدي إلى ما يُناقض أو على الأقلّ ما يُخالف تلك الآمال.

تونس، لم تتعوّد بعدُ على بطء الزّمن الديمقراطيّ..

سيكون النّصف الثاني للسنة الجارية عمليّا رهين الزّخم الانتخابيّ ورهين شلل انتظار القادم الجديد. وفي السّنوات القليلة الماضية كان واضحًا أنّ تونس لا تُجيد الانتظار ولا تطيق الفراغ، لا تطيق تونس زمن مفاوضات تشكيل الحكومات وزمن الترقّب الانتخابيّ وما يشوبهما من توتّر وغموض. وكثيرًا ما ترتبط فترات الانتظار السّياسيّ هذه بتعطّل أو بشلل في الخدمات العامّة أو في بعضها وبتفاقم اللامبالاة في البيروقراطيّة الإداريّة التي تخضع لها جلّ أوجه الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة في البلاد. ويبدو أنّ هذه العادة المذمومة في الحياة السياسيّة التّونسيّة بدأت بانقطاع المياه في عيد الأضحى وتتواصل بحالة من الفوضى والإدارة السيّئة في المطارات والموانئ في ذروة موسم التّوافد على تونس.

ما تُرجّحه نتائج سبر الآراء المُتداولة بالنّسبة لنتائج التّشريعيّة هو أنّ المشهد السياسيّ القادم قد يكون أكثر تشتّتًا من سابقه

اقرأ/ي أيضًا: مترشحون للرئاسيات ...زيارات للمقامات على نخب الانتخابات

سيكون على التّونسيّين تحمّل هذه الضبابيّة والاضطراب إلى حين الانتهاء من الانتخابات التشريعيّة والرئاسيّة وانتهاء آجال الطّعون في النّتائج في شهري نوفمبر/ تشرين الثاني وديسمبر/ كانون الأول المُقبلين، ليبدأ على إثر ذلك سباق تشكيل الحكومة وتعيين الوزراء. وفي أحسن الحالات فإنّ قانون الماليّة (الميزانيّة) لسنة 2020 سيتمّ التصويت عليه في البرلمان قبل نهاية السنة الحاليّة وفقًا للآجال الدستوريّة، ولكنّ الجميع يعلم أنّ هذا القانون سيكون مؤقّتًا بانتظار التعديلات التي ستُحدثها الحكومة الجديدة المُرتقبة، وهي تعديلات ستكون بمثابة الامتحان الأوّل للعلاقة مع الاتّحاد العامّ التونسي للشّغل وستكون مفتوحة على كلّ الأزمات أو التّوافقات الممكنة.

وعلى هذا النّحو لا يمكن توقّع قانون ماليّة نهائيّ ووضوحًا نسبيّا في الشكل الحكومي قبل ربيع السّنة المقبلة، ليأتي بعد ذلك شهر رمضان وتدخل البلاد في نسق الارتخاء الصيفيّ. وهو ما يعني أنّ الاقتصاد والاستثمار والأجهزة البيروقراطيّة ستبقى في حالة الانتظار وشبه الشّلل الذي يعرفه التّونسيّون جيّدًا على الأقلّ سنة أخرى. ونحن نقدّم هذا التّقدير دون اعتبار ما يقترحه بعض المُرشّحين للانتخابات الرئاسيّة من مشاريع لتعديل النّظام السّياسيّ في الدّستور وما يتطلّبه ذلك من تركيز المحكمة الدّستوريّة ونقاش وطنيّ واسع، وهو ما قد يُمدّد آجال الضبابيّة وانتظار التّونسيّين للنّخبة السياسيّة.

تفكّك المشهد السياسيّ وشبح العجز عن الحكم1

إنّ حالة ضبابيّة الانتظار المُشار إليها آنفًا والتي يجب أن تتدرّب عليها تونس تدريجيًّا لكونها في صميم الزّمن الديمقراطيّ، لا يبدو أنّها ستكون الميزة الوحيدة لما بعد الانتخابات. فما تُرجّحه نتائج سبر الآراء المُتداولة بالنّسبة لنتائج التّشريعيّة هو أنّ المشهد السياسيّ القادم قد يكون أكثر تشتّتًا من سابقه. وفي حين أدّت انتخابات 2014 إلى كتلتين كبيرتين (النّهضة ونداء تونس) أنتجتا تحالفًا عريضًا مُتوقّعًا في حينها امتدّ لأحزاب أخرى (آفاق، الاتّحاد الوطني الحرّ)، فإنّ الانتخابات الحاليّة قد تتمخّض عن صعود عائلات سياسيّة لم تخض بعدُ غمار العمل البرلماني ويُنظر لها من طرف المكوّنات التقليديّة (حركة النهضة، حزب نداء تونس، حزب تحيا تونس، التيار الديمقراطي..) والتي لا يتجاوز عمرها ثماني سنوات كأطراف دخيلة على المعادلة الحزبيّة والسياسيّة.

إلى حدّ كبير لن يكون من المُستبعد أن تكون الانتخابات القادمة جسرًا لمرحلة قد تكون سمتها الرئيسيّة عدم القابليّة للحكم، إمّا بحكومة ضعيفة سياسيًا أو بالفشل في تكوين أغلبيّة مستقرّة

في المقابل، فإنّ هذه الأطراف الصّاعدة (حزب قلب تونس، الحزب الحرّ الدّستوري..) تنطلق في خطابها السياسيّ من فشل كلّ الطّبقة السياسيّة القائمة ليستند قدر مهمّ من شرعيّتها لدى النّاخبين إلى القطيعة مع ما تعتبره فشلًا للديناميكيات القائمة، وهو ما ينطوي على صعوبات حقيقيّة لتشكيل تحالف حكوميّ متين وصلب. وإلى حدّ كبير لن يكون من المُستبعد أن تكون الانتخابات القادمة جسرًا لمرحلة قد تكون سمتها الرئيسيّة عدم القابليّة للحكم، إمّا بحكومة ضعيفة سياسيًا أو بالفشل في تكوين أغلبيّة مستقرّة.

اقرأ/ي أيضًا: انتخابات 2019.. ماذا لو لم يحكم أحد؟

الحلّ ليس من داخل اللعبة السياسيّة الديمقراطيّة بل من خارجها

يحيلنا هذا المشهد السياسيّ الذي لا شيء يُنبئ فيه بالاستقرار والهدوء، على ديناميكية تتجاوز تونس وليس من المؤكّد إن كان لها علاقة بهشاشة الديمقراطيّة وبحداثة عهد التّونسيّين بها، بل لعلّها من صميم ما آلت إليه الديمقراطيّة في أعرق التّجارب. تكفي بهذا الصّدد إطلالة صغيرة على المشهد السياسيّ في العالم لننتبه إلى ما يشبه غير قابليّة للحكم أو إفلاسًا غير مسبوق للعمليّة السياسية الديمقراطيّة.

في فرنسا يقرّ ماكرون بعد هزّة السّترات الصّفراء بأنّ فرنسا غير قابلة للإصلاح، في بريطانيا أمّ الديمقراطيّات البرلمانيّة تشير نتائج سبر الآراء إلى رغبة متزايدة داخل الشّارع البريطاني في رؤية رجل قويّ يُحكم قبضته على العمليّة السياسيّة، براغ تهتزّ لمظاهرات لم تشهدها منذ انهيار جدار برلين وبصفة أعمّ فإنّ أكثر من ربع البرلمانات الحاليّة في القارة الأوروبية تمخّضت عن انتخابات مبكّرة. حتّى في السّويد التي باتت تُوصّف بالدّيمقراطيّة العاجزة عن الحُكم وتمرير القوانين، استمرّت المفاوضات حول تشكيل الحكومة 4 أشهر لينتهي الأمر بصيغة سياسيّة شديدة الهشاشة.

قد يعيب كثير من التّونسيّين على الحكومات السّابقة المتعاقبة عجزها عن فعل شيء مّا إلاّ ما ندر، وقد يتطلّعون إلى فعل سياسيّ أقوى ينبثق عن الخيار الشعبيّ الديمقراطيّ. بيد أنّهم وإذ يتطلّعون إلى كلّ ذلك إنّما يأملون فيما ليس من المُؤكّد إن كانت العمليّة السياسيّة الديمقراطيّة قادرة أصلًا على إنجازه: فالمعادلة واضحة: اللعبة السياسية الديمقراطيّة في لحظتها الراهنة على الأقلّ هي الطّريق الأسرع لفوضى الحكم لا لاستقراره.

طبعًا لا يعني ذلك توهّم أنّ السلطويّة سياسيّة كانت أم عسكريّة هي الحلّ، ولا يعني الانخراط في جوقة من جوقات التباكي على الماضي، وإنّما يعني أهمّية الوعي بكون الاهتزازات من طبيعة الدّيمقراطيّة، وإنّ ما حمى "الديمقراطيّات العريقة " لعقود من شبح عدم القابليّة للحكم هو وجود أحزاب قويّة تتداول على السّلطة وتحظى بشرعيّة مجتمعيّة حقيقيّة. بيد أنّ نجم الأحزاب القويّة واللّعبة الديمقراطيّة الثنائيّة أو المنضبطة للاستقرار قد أفل في الغرب نفسه، وبقدر ما لا يمكن الجزم بصعوده مرة ثانية فإنّه لا يمكن الجزم بقدرة اللعبة السياسية التونسيّة على تجاوز أمراض ديمقراطيّتها التي أصابتها أعراض الشيخوخة بسرعة مذهلة.

ما يُخشى على تونس هو أنّ السنوات الثماني الماضية لم تكن كافية لإعداد المؤسّسات والحياة العامّة والاقتصاد لاستقلاليّة أكبر ولانسحاب منظّم للدّولة

وما نودّ توضيحه هنا، هو أنّ ما يجب التّركيز عليه هو بناء قدرة تونسيّة مؤسّساتيّة ومجتمعيّة على امتصاص ما تُحدثه أمراض الديمقراطيّة، والتي لا تختصّ بها تونس، من اهتزازات. تبدأ ما نُسمّيه قدرة على امتصاص الاهتزازات الطبيعيّة للديمقراطيّة بوضع اللعبة السياسيّة المركزيّة البرلمانيّة والرئاسيّة في حجمها الطبيعي ولا تنتهي عند التقليص من مجال تدخّل الدّولة والسّياسة في كلّ أوجه الحياة المجتمعيّة والثقافيّة وحتّى الدينيّة.

فمن زاوية تدبير الشّؤون العامّة اليوميّة، قد يكون الأجدر هو المضيّ قدما في تقليص صلاحيّات الحكم المركزيّ لصالح الجماعات المحلّية أي البلديّات والمجالس الجهويّة وفق ما نصّ عليه الدّستور الذي لم تحُل روحه اللامركزيّة من بقاء الدّولة التونسيّة بعد خمس سنوات من المصادقة عليه شديدة المركزيّة، وحتّى المجالس البلديّة المُنتخبة أخيرا باءت بفشل يطول شرحه وليس المُنتخبون هم وحدهم المسؤولون عنه.

أمّا من زاوية الدّولة الأخطبوط التي لم تترك مجالا إلاّ وتدخّلت فيه تشريعًا أو تسييرًا، فإنّ صمود الديمقراطيّات أمام مخاطر العجز عن الحُكم يُعزى أيضًا إلى مستويات معقولة من حضور الدّولة لصالح حرية واستقلاليّة أكبر للقطاعات الاقتصاديّة والتعليميّة والثقافيّة. إذ لا يمكن ولا يجب أن يؤدّى اهتزاز السياسة وعدم القابليّة للحكم إلى اهتزاز المجتمع والتّعليم ولاقتصاد والسّوق وارتخاء كلّ نواحي الحياة. وإذا ما أدّت الفوضى الطبيعيّة للديمقراطيّة إلى ذلك فهذا يعني أنّ السياسة والدّولة قد أخذا حظًّا أكبر ممّا يجب في حياة المجتمع والأفراد وقد تصبح فوضى السياسة بذلك فوضى المجتمع والاقتصاد.

ليس ما يُخشى على تونس بعد الانتخابات القادمة هي عدم القابليّة للحكم فحسب، فذلك امتحان ديمقراطيّ طبيعيّ، ما يُخشى هو أنّ السنوات الثماني الماضية لم تكن كافية لإعداد المؤسّسات والحياة العامّة والاقتصاد لاستقلاليّة أكبر ولانسحاب منظّم للدّولة وللتدخّل العمومي من مجالات يجب أن تُترك أساسًا للمُجتمع والسّوق. فإذا كان لا بدّ من نموذج سياسيّ ديمقراطيّ عاجز في العالم بأسره، فالأجدر هو تضييق حدود تأثير هذه اللعبة وما يستتبعها من فوضى على حياة الأفراد والمجتمع.

 

1:  العجز عن الحكم مفهوم يصف جُملة الظّروف والنّزاعات التي تؤدّى إلى عدم قدرة المؤسّسات المُنتخبة عن الاضطلاع بدورها ungovernability 

 

اقرأ/ي أيضًا:

المترشحون للانتخابات الرئاسية: كم من وزير سابق؟ من كان سجينًا؟ ومن ألف كتبًا؟

بالأسماء وحسب الكتل: هذه تفاصيل التزكيات البرلمانية لـ11 مترشحًا للرئاسيات

الرئاسية تسبق التشريعية.. هكذا بُعثرت أوراق الأحزاب في تونس