30-ديسمبر-2023
احتجاجات تونس سنة 2023

الاحتجاجات في تونس، وإن اختلفت وتيرتها باختلاف طبيعتها وخلفياتها، فقد ظلت عمومًا محافظة على نسقها، مادام حقّ الاحتجاج لا يزال إلى حدّ ما متاحًا بالبلاد (ياسين القايدي/ الأناضول)

 

تواصل النسق المرتفع للاحتجاجات في تونس خلال عام 2023، خاصة منها الاحتجاجات ذات الطابع السياسي والحقوقي، مقابل تراجع الاحتجاجات المطلبية النقابية، دون أن ننسى سلسلة التحركات الداعمة لفلسطين التي طبعت الأشهر الأخيرة منذ انطلاق عملية "طوفان الأقصى" في أكتوبر/تشرين الأول 2023.

تواصل النسق المرتفع للاحتجاجات في تونس خلال عام 2023، خاصة منها ذات الطابع السياسي والحقوقي، مقابل تراجع الاحتجاجات المطلبية النقابية، دون أن ننسى سلسلة التحركات الداعمة لفلسطين التي طبعت الأشهر الأخيرة

  • احتجاجات التضامن مع فلسطين

سرعان ما هبّ الشارع التونسي لمساندة الشعب الفلسطيني والتنديد بالعدوان الإسرائيلي على غزة، بمجرد انطلاق عملية "طوفان الأقصى"، ولم تقتصر التحركات، من مسيرات ووقفات احتجاجية وأشكال احتجاج أخرى، على العاصمة التونسية بل اتسعت رقعتها لتشمل جلّ الولايات التونسية.

الشعارات المرفوعة في هذه التحركات، انطلقت في بدايتها بالتضامن مع المقاومة الفلسطينية ومساندة الشعب الفلسطيني والتنديد بجرائم الاحتلال الإسرائيلي، لتتطوّر في غضون أيام قليلة إلى تجديد المطالبة بسنّ قانون لتجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني، وطرد سفراء الدّول المتواطئة مع الاحتلال في مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا.

 

صورة
وقفة احتجاجية أمام البرلمان للمطالبة بسن قانون يجرم التطبيع في 2 نوفمبر (حسن مراد/ Defodi Images)

 

تواتر الاحتجاجات المطالبة بسنّ قانون يجرّم التطبيع مع الكيان الصهيوني دفع البرلمان التونسي إلى النظر في مشروع قانون تجريم التطبيع الذي كانت قد تقدمت به كتلة الخط الوطني السيادي منذ جويلية/يوليو 2023، لكنه ظلّ في الأرفف لولا عملية "طوفان الأقصى".

لكن عمومًا، بمجرد عقد الجلسة العامة المخصصة للنظر في مشروع القانون تم تعليق أشغالها دون العودة إليها لاحقًا، إثر تصريح للرئيس التونسي قيس سعيّد، نقله رئيس البرلمان إبراهيم بودربالة، بأنّ مشروع القانون "سيضرّ بالمصالح الخارجية لتونس".

تجاوزت التحركات التضامنية مع فلسطين الأشكال الكلاسيكية، بل تضمنت أشكالًا جديدة على غرار كتابة شعارات على حائط المعهد الفرنسي بتونس مُدينة لمجازر الاحتلال ولمواقف فرنسا المبررة لها، ناهيك عن عرض أفلام مساندة لفلسطين على حائط المعهد ذاته

على صعيد آخر، تجاوزت التحركات التضامنية مع فلسطين الأشكال الكلاسيكية من مسيرات ووقفات، بل تضمنت أشكالًا جديدة، على غرار كتابة شعارات على حائط المعهد الفرنسي بتونس مُدينةٍ للمجازر التي يرتكبها الكيان المحتلّ في حق الفلسطينيين، وأخرى منددة بمواقف فرنسا المبررة لهذه المجازر.

وتطوّرت أشكال الاحتجاج على مستوى مبنى المعهد الفرنسي بتونس، لتتحول من كتابة الشعارات إلى عرض أفلام مساندة للقضية الفلسطينية على حائط المعهد يشاهدها المتظاهرون وهم يجلسون القرفصاء على أسفلت الرصيف، في حركة رمزية داعمة لفلسطين ومُدينة لدعم فرنسا للكيان. 

 

 

وفي ذات سياق المجال السينمائي، نفذت مجموعة من النشطاء المدنيين في تونس، ضمن تنسيقية العمل المشترك من أجل فلسطين، تحركًا احتجاجيًا على هامش افتتاح تظاهرة "أيام الفيلم الأوروبي" السينمائية من تنظيم الاتحاد الأوروبي ومعاهد ثقافية أوروبية وبحضور دبلوماسيين أوروبيين، في فضاء مدار بقرطاج.

وقام النشطاء التونسيون باقتحام قاعة العرض بعد لحظات من انطلاق الفيلم الافتتاحي للتظاهرة السينمائية، "احتجاجًا على المواقف الأوروبية المتواطئة مع العدوان الإسرائيلي على غزة، ودعمًا للمقاومة الفلسطينية"، وفقهم.

 

 

وقد شارك في التحركات الاحتجاجية في تونس، على اختلاف أشكالها ومواقعها الجغرافية، تونسيون من مختلف الفئات العمرية، ولعلّ من بين أبرز التحركات الرمزية، وقفة نفذها أطفال تونسيون بالعاصمة التونسية تضامنًا مع أطفال غزة، افترشوا خلالها الأسفلت مجسّدين مشهدًا يصوّر جثث شهداء غزة من الأطفال، في حركة رمزية أرادوا من خلالها تبليغ العالم مدى فظاعة الجرائم التي يرتكبها الاحتلال في حقّ الأطفال بالخصوص.

 

صورة
تحرك احتجاجي لأطفال تونسيين بتونس العاصمة بتاريخ 2 ديسمبر (ياسين القايدي/ الأناضول)

 

 

  • احتجاجات المعارضة التونسية

مثلت احتجاجات المعارضة التونسية، التي تواصلت على مدار أشهر سنة 2023، أبرز الاحتجاجات في تونس من حيث تواترها واستمراريتها، إذ نجد الوقفات التضامنية الأسبوعية التي دأبت جبهة الخلاص الوطني (ائتلاف سياسي يضمّ مكونات سياسية معارضة في تونس) على تنظيمها نهاية كلّ أسبوع تقريبًا، منذ حملة الاعتقالات التي طالت شخصيات سياسية في تونس، خاصة بداية من شهر فيفري/شباط 2023، في قضايا مختلفة أبرزها ما يعرف بقضية "التآمر على أمن الدولة".

مثلت احتجاجات المعارضة، التي تواصلت على مدار سنة 2023، أبرز الاحتجاجات في تونس من حيث تواترها واستمراريتها، إذ نجد الوقفات التضامنية الأسبوعية التي دأبت جبهة الخلاص على تنظيمها منذ حملة الاعتقالات التي طالت شخصيات سياسية في فيفري

ناهيك عن ذلك، تواترت الوقفات التضامنية أمام مقرات محاكم تونس، تزامنًا مع جلسات التحقيق مع شخصيات سياسية أو حقوقية أو إعلامية في تونس على خلفية قضايا رأي ارتبطت بتصريحات إعلامية أو تدوينات أو غيرها.

كما انتظمت مسيرات، في فترات متواترة من سنة 2023، جابت شوارع العاصمة التونسية تنديدًا بحملة الإيقافات، وشاركت فيها مختلف الأطياف السياسية المعارضة، سواءً جبهة الخلاص الوطني، أو تنسيقية القوى التقدمية الديمقراطية التي تضم أحزاب العمال والجمهوري والتكتل والقطب، إضافة إلى عدد من منظمات المجتمع المدني التونسي.

 

صورة
وقفة احتجاجية أمام قصر العدالة بتونس للمطالبة بإطلاق سراح المساجين السياسيين في 7 سبتمبر (ياسين القايدي/ الأناضول)

 

كما نجد، سياسيًا، أشكالًا احتجاجية أخرى، كالدخول في إضرابات جوع مثلما فعل عدد من الموقوفين فيما يعرف بقضية التآمر على أمن الدولة في سجن إيقافهم، وعلى سبيل الذكر تواصل إضراب الجوع الذي نفذه عضو جبهة الخلاص الوطني جوهر بن مبارك الذي تواصل لأكثر من أسبوعين، من 25 سبتمبر/أيلول إلى غاية 12 أكتوبر/تشرين الأول 2023، احتجاجًا على ما وصفها بـ"المهزلة القضائية" في علاقة بقضية "التآمر على أمن الدولة"، والذي لم يعلّقه إلا بعد تدهور وضعه الصحي.

وفي سياق مماثل، انتهج المعارض السياسي غازي الشواشي، الموقوف في القضية ذاتها، شكلًا احجاجيًا خارجًا عن المألوف، بدخوله في "حالة اعتزال بزنزانته وعصيان، رافضًا التعامل مع إدارة السجن والوظيفة القضائية، وعدم أخذ الدواء علمًا أنه يعاني من أمراض مزمنة، وعدم الخروج إلى الساحة أو قبول القفة ومقاطعة مقابلة المحامين والعائلة، والتوقف على الكلام"، وفق بيان صادر عن عائلته بتاريخ 25 ديسمبر/كانون الأول، وذلك على خلفية قرار التمديد للمرة الثانية في مدة إيقافه بـ4 أشهر إضافية، علمًا أنه قضى فترة أولى بالسجن بـ6 أشهر ثم تم التمديد فيها في مرة أولى بـ4 أشهر.

 

 

  • احتجاجات حقوقية

لعلّ حرية التعبير، مثلت أحد أبرز دواعي خروج احتجاجات في تونس، كانت في أغلبها للتنديد بالتتبعات القضائية والإيقافات، التي لم تطل سياسيين فحسب، بل شملت أيضًا نشطاء وصحفيين وغيرهم، على خلفية تصريحات أو تدوينات أو غيرها من أساليب التعبير عن الرأي

ولعلّ حرية التعبير، كانت من بين أبرز دواعي خروج احتجاجات حقوقية في تونس، كانت في أغلبها للتنديد بالتتبعات القضائية والإيقافات، التي لم تطل سياسيين فحسب، بل شملت أيضًا نشطاء وصحفيين ومدونين ومحامين وطلبة وغيرهم، على خلفية تصريحات أو تدوينات أو غيرها من أساليب التعبير عن الرأي، وذلك على معنى المرسوم 54 المتعلق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال، الصادر في 13 سبتمبر/أيلول 2022، والذي أثار جدلًا واسعًا في تونس واعتبرته منظمات حقوقية أداة جديدة لمزيد التضييق على حرية التعبير في تونس.

 

صورة
مسيرة احتجاجية لمنظمات حقوقية منددة بالتضييق على الحريات في 9 ديسمبر (ياسين القايدي/ الأناضول)

 

وقد أصدرت منظمة "هيومن رايتس ووتش"، بيانًا في 19 ديسمبر/كانون الأول 2023، أكدت فيه أنّ السلطات التونسية حكمت بموجب المرسوم عدد 54 على ناشطَيْن معارضَيْن بالسَّجن لانتقادهما الحكومة، كما استخدمته لاعتقال ما لا يقل عن 20 صحفيًا، ومحاميًا، وطلبة وغيرهم من المنتقدين أو اتهامهم أو التحقيق معهم، بسبب تصريحاتهم العلنية على الإنترنت أو في وسائل الإعلام، بدل استخدامه للتصدي للجرائم الإلكترونية.

هيومن رايتس ووتش: السلطات التونسية استخدمت المرسوم 54 لاعتقال ما لا يقل عن 20 صحفيًا، ومحاميًا، وطلبة وغيرهم من المنتقدين أو اتهامهم أو التحقيق معهم، بسبب تصريحاتهم العلنية على الإنترنت أو في وسائل الإعلام

وفي هذا الإطار، قالت مديرة شؤون تونس في هيومن رايتس ووتش سلسبيل شلالي: "خلال العام الذي تلى إصدار الرئيس قيس سعيّد مرسوم جرائم أنظمة المعلومات والاتصال، استخدمت السلطات التونسية هذا المرسوم لخنق مجموعة واسعة من المنتقدين وترهيبهم، بينما استخدمت قوانين أخرى لاحتجاز بعض أقوى خصوم سعيّد السياسيين بتهم التآمر المشكوك فيها".

وأكدت شلالي أنه "ينبغي لتونس أن تفرج فورًا عن أي شخص محتجز بسبب تعبيره السلمي، وإسقاط جميع التهم ضده، وإلغاء المرسوم عدد 54"، وفق ما جاء في بيان المنظمة الدولية.

وفي هذا السياق، حسب تقرير منظمة "مراسلون بلا حدود"، تراجعت تونس 49 مرتبة في التصنيف العالمي في غضون عامين. وهي الآن في المرتبة 121 من أصل 180 دولة.

 

 

كما مثّل الحقّ النقابي، موضوع سلسلة من الاحتجاجات خرجت في مختلف الولايات التونسية في فيفري/شباط ومارس/آذار 2023، بدعوة من الاتحاد العام التونسي للشغل، والتي تُوّجت بتجمّع عمالي بساحة محمد علي بتونس العاصمة تلته مسيرة احتجاجية جابت عددًا من شوارع العاصمة، رفضًا لـ"المساس بالحق النقابي" من قبل السلطة في تونس.

وقد رفعت في هذه التحركات شعارات منددة بـ"الممارسات القمعية وضرب الحريات العامة والفردية" ومدافعة عن الحق النقابي في الإضراب والتنظم والاحتجاج ومُدينة للإيقافات والتتبعات التي تمت على أساس تحركات احتجاجية وإضرابات.

 

 

  • احتجاجات مطلبية نقابية

لئن ظلت التحركات الاحتجاجية ذات الأبعاد السياسية والحقوقية متواصلة بنسق متواتر وأحيانًا متصاعدٍ، فإنّ الاحتجاجات المطلبية شهدت تراجعًا ملفتًا سنة 2023. إذ تم تسجيل  انخفاض في عدد الاحتجاجات إلى 680 احتجاجًا في الثلاثي الثالث من سنة 2023، مقابل 894 احتجاجًا في الثلاثي الثاني للسنة ذاتها، و1262 احتجاجًا في الثلاثي الأول، وفق بيانات المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.

لئن ظلت التحركات الاحتجاجية ذات الأبعاد السياسية والحقوقية متواصلة بنسق متواتر وأحيانًا متصاعدٍ، فإنّ الاحتجاجات المطلبية شهدت تراجعًا ملفتًا سنة 2023

ويقول المنتدى، في نشرية الثلاثي الثالث لسنة 2023 حول الاحتجاجات الاجتماعية والانتحار والعنف والهجرة، إنّ "الثلاثية الثالثة لسنة 2023 عرفت تواصل مسار الشعبوية وتداعياتها على المواطنين. وقد زاد في الشعور العام بالإرهاق وحتى العجز، غياب الإجابات أو محدوديتها لدى السلطة لتبقى المؤشرات العامة للفقر والتهميش أحد أبرز الدوافع لتجدد الحراك الاجتماعي وإعطاء نفس جديد للتعبيرات الشعبية"، وفق تقديره.

وقد تم، في الثلاثي الثالث من 2023، تنفيذ 35.88 % من الاحتجاجات من قبل السكان المحليين، و32.25 % من قبل العمال، و 10.44% من قبل المعلمين، و8.38 % من قبل النشطاء، و2.06% من قبل المزارعين والفلاحين، و1.91% من قبل أولياء التلاميذ، إلخ. وشارك في التحركات سواق سيارات الأجرة والموظفون والتجار والعائلات.

وتعددت الأسباب الكامنة وراء هذه التحركات، فتعلق جزء كبير منها بظروف العمل، بينما يدور البعض الآخر حول البيئة والوصول إلى الخدمات العامة. وتعلق 112 احتجاجًا بمطلب الحصول على المستحقات والحقوق المالية للعمال، و87 بمشكلة انقطاع الماء و47 بوضعية المعلمين النواب، وفق إحصائيات المنظمة الحقوقية ذاتها.

منتدى الحقوق الاقتصادية: عدم الاستقرار والصعوبات التي يواجهها التونسيون ورغبتهم في الحماية والعدالة الاجتماعية، جميعها جعلت من موضوع العمل حاضرًا كعنصر أساسي وفي علاقة بمختلف تحركات ومطالب التونسيين خلال الثلاثية الثالثة

عدم الاستقرار والصعوبات التي يواجهها التونسيون ورغبتهم في الحماية والعدالة الاجتماعية، جميعها جعلت من موضوع العمل حاضرًا كعنصر أساسي وفي علاقة بمختلف تحركات ومطالب التونسيين خلال الثلاثية الثالثة، وفق ما يراه المنتدى.

ومن الأمثلة على هذه الآثار عدم دفع المستحقات والحقوق المالية، وتسوية أوضاع المعلمين النواب، وحالة عمل المزارعين، وصعوبات سائقي سيارات الأجرة. وتعلقت الاحتجاجات بمطلب تسوية الأوضاع المهنية والمطالبة بالحقوق الأساسية التي يكفلها طبيعة العمل نفسه.

الاحتجاجات في تونس، وإن اختلفت وتيرتها باختلاف طبيعتها وخلفياتها، فإنّها ظلّت بشكل عام محافظة على نسقها، مادام حقّ الاحتجاج لا يزال، إلى حدّ ما، متاحًا بالبلاد -وإن تعددت، في مناسبات عدة، مساعي الالتفاف عليه بدوره-.