مقال رأي
نادرًا ما أعترف بأني أحبُّ تونس. خلال الأيّام الماضية وبمناسبة المباريات التي خاضها منتخبنا الوطني لكرة القدم في إطار بطولة أفريقيا للأمم، وجدتني أصرخ بأعلى صوتٍ في المقهى كلّما اقترب المهاجم طه ياسين الخنيسي من دفاعات الفرق المنافسة، وأفقد السيطرة على جسميَ الّذي ما انفكّ يرتعش من فرط الخوف والتّوتّر.
وكنتُ، كلّما عبر منتخبنا الوطنيّ نحو أدوارٍ متقدّمةٍ من البطولة، أقف أمام المقهى وأمعن النّظر في مظاهر السّعادة الّتي تُزيّن الشّوارع، فأشعر بغبطة.
ومساء اليوم، رُحْتُ أفكّر، ما الذي يجعلني أحبّ وطني لهذه الدّرجة وأنا الّذي ألعنه يوميًّا إذا ما أمضيتُ دقائق طوالٍ تحت أشعّة الشّمسِ في انتظارِ حافلةٍ لا موعد محدّدٍ لقدومها، أو إذا ما أغلق موظّفُ البلديّةِ نافذته في وجهي معلنًا انتهاء ساعات دوامه.
ما الذي يجعلني أحبّ وطني لهذه الدّرجة وأنا الّذي ألعنه يوميًّا إذا ما أمضيتُ دقائق طوالٍ تحت أشعّة الشّمسِ في انتظارِ حافلةٍ لا موعد محدّدٍ لقدومها
رُحْتُ أفكّر، ما الذي يجعلني أحبُّ وطني رغم أنّه لا يملك، كما مصر مثلاً، نيلاً لأشرب منه، ولا حباليَ الصّوتيّة تسمح لي بالغناء له مثلما تفعل الفنّانة شيرين تجاه وطنها؟
وقد قطعَ تفكيري هذا خبرُ اختيار لاعب المنتخب الوطني التونسي لكرة القدم كأحسن لاعب في مباراة الخميس. كم أحسدُ الفرجاني ساسي، فتونسُ تحبّه أكثر منّي. أجزمُ أنّ فيكم من هو مثلي، يتمنّى أحيانًا أن يكتشفَ أحدهم صدفةً مهاراتك، لنُقل مثلاً الغنائية.
اقرأ/ي أيضًا: لا فرق بيننا.. كلنا أحمد أحمد!
يُخيّل إليك أن شخصًا قد ترسله السّماء، يقف خلسةً تحت نافذة غرفتك ليستمع إلى صوتك فيفتح في وجهك أبواب عالم الشهرة. وسريعًا تمرّ أمام عينيك صورةٌ لك على خشبةِ مسرحٍ والآلاف يتدافعون ويتراقصون على أنغامك، بينهم تلك الفتاة التي لطالما أحببتها دون أن تُخبرها والسّبب أنك تعلم جوابها مسبقًا.
أشعُر بأنّ هذا ما حصل مع الفرجاني ساسي. وكأنّ أحدهم مرّ به يومًا فتفطّن إلى مهاراته العالية في كرة القدم، فقدّمه إلى أكبر الأندية وحاز له مكانًا في صفوف أحدها في مصر، ومكانًا في قلوب الجماهير بمختلف جنسيّاتها.
هكذا، يوجدُ نوعٌ من البشر خُلقوا ليحقّقوا كلّ ما يحلو لهم، تأتيهم كلّ الظّروفِ ملائمةً، وكأنّهم يكتبون أقدارهم. تُحبّهم مهما فعلوا ولا ترى سوى جانبهم المُشرق. تُحبّهم تونس. وحسبيَ أنّ الفرجاني ساسي واحدٌ من هؤلاء!
يوجدُ نوعٌ من البشر خُلقوا ليحقّقوا كلّ ما يحلو لهم، تأتيهم كلّ الظّروفِ ملائمةً، وكأنّهم يكتبون أقدارهم. تُحبّهم مهما فعلوا ولا ترى سوى جانبهم المُشرق. تُحبّهم تونس. وحسبيَ أنّ الفرجاني ساسي واحدٌ من هؤلاء!
لنتّفق هنا أنّيَ لا أتحدّثُ عن الفرجاني ساسي تحديدًا، ولعلّه قد مرّ بكثيرٍ من الصّعاب حتّى يصل إلى ما وصل إليه اليوم. إنّما اتّخذته كمثالْ، فلا أجد، بالنّظر إلى مكانته الحاليّة وابتسامته التي تُبكي الجنس اللّطيف، شخصيّةً تتماشى أكثر منه مع ما سأرويه.
عقب المباراة التي جمعتنا بالمنتخب الغاني، قال الفرجاني ساسي إنّه تمنّى أن تُسجّل غانا ركلتها الترجيحية الأخيرة لتُسند إليه الركلة الترجيحية الأخيرة للمنتخب الوطني التونسي، وقد حصل ذلك فعلاّ. بل وأنّ حارس منتخب غانا ظلّ شاخصًا ينظر إلى كرة الفرجاني ساسي تمرّ على مهلٍ بجانبه، دون أن يتمكّن من الحراك، وكانت لقطةً جابت كلّ صفحاتِ منصّات التّواصل الاجتماعي.
اقرأ/ي أيضًا: التونسي مواطن تفرّق دمه
وعلى النّقيض من مجموعة البشر الّتي لخّصتُها في الفرجاني ساسي، يوجد أناسٌ آخرون، تأتيهم كلّ ظروف الحياة، منذ الصّغر، على غير ما يريدون.
هؤلاء أيضًا كما الفرجاني ساسي، تونس تحبّهم أكثر منّي. تُحبّهم خوفًا! فميزةُ هؤلاء، نعم هي ميزةٌ في أيّامنا هذه، أنّهم وبفعل ظروفهم الصّعبة، تحوّلوا إلى "بانديّة" يخشاهم الجميع، ويؤتون كلّ ما تُحدّثهم به أنفسهم، وقد جمعتني مقاعد الدّراسة بواحدٍ منهم. هو اليوم في سويسرا بعد أن مرّ بفرنسا وبلجيكا، حيث وفّر له والداه كلّ المصاريف اللاّزمة ليطأ أوروبا. وقد فعلا ذلك فقط لأنّه هدّدهما بالرّحيل إلى الأبد. ووالداه يعلمانِ بأنّه لا يهدّد من فراغ.
وبين الفرجاني ساسي وصديقي "الباندي"، يوجدُ كاتب هذه الكلمات. هو نوعٌ آخر من البشر يُوصفُ بلغتنا العاميّة بـ"حدّو حدّ روحو". عزيزي القارئ، أَعِدْ قراءة الوصف مجدّدًا "حدّو حدّ روحو"، أرأيت، إحساسًا بالشّفقة ينتابك الآن. ثمّ أنّك إذا ما ركّزت جيّدًا فستجدُ أنّك كلّما استعملت هذا الوصف فإنّك تستخدم قبله وصفَ "مسكين"، فتكونُ على هذه الشّاكلة، "مسكين، حدّو حدّ روحو".
على النّقيض من مجموعة البشر الّتي لخّصتُها في الفرجاني ساسي، يوجد أناسٌ آخرون، تأتيهم كلّ ظروف الحياة، منذ الصّغر، على غير ما يريدون
كنتُ قد ضربتُ مثل الفرجاني ساسي ومثلَ صديقي "الباندي" (الفتوّة) للتّعريف بنوعيْ البشر السّابقيْن، وسأختار نفسي كمثالٍ للنّوع الثّالث "المسكين". شابٌّ يقتربُ رويدًا من سنّ الثّلاثين، ابن لموظّفيْن في القطاع الحكوميّ، متوسّطيْ الدّخل وهو ما يجعلني ألتزم الصّمت إذا ما تبادل أقرانيَ في المقهى خبر ارتفاع قيمة الدّينار مقابل اليورو أو انخفاضها، فالأمران سيّان بالنّسبة لي ولن أشعر بأيّ تغيير لا إلى الأفضل ولا إلى الأسوء.
شابّ بلا ظروف، تمرّ أيّامه بلا جديد، أيّامي رتيبةٌ ومملةٌ إلى درجةٍ قاتلة، لدرجةِ أنّيَ أصبحتُ أخشى أيّ تغيّرٍ في الظّروف. في الحقيقة، أخشى كلّ شيء! أخشى أفراد الأمن فدائمًا ما أتوقّع بأنّ واحدًا منهم سيكرهُني ما إن يراني فيناديني ليلفّق لي مصيبةً ما.
وأخشى في الوقت ذاته غياب الأمن لقناعةٍ عندي بأنّي سأكون أولى ضحايا الفوضى. أخشى الدّيمقراطيّة الّتي قد تأتي بحكّامٍ أجهل ما سيقومون به حال تقلّد السّلطة! وأخشى الدّيكتاتوريّة الّتي قد تزُجّ بي في زنازين مليئة بأهوالٍ لا طاقةَ لي على تحمّلها.
ثمّ إنّي أخشى حتّى الكلام! ذاتَ مرّةٍ، عندما كنتُ تلميذًا، طرح معلّمي سؤالاً وأعلن بأنّ صاحبَ الإجابةِ الصّحيحة سيتحصّل على نقاطٍ إضافيّةٍ في الامتحان، وقد قلتُ الإجابةَ الصّحيحةَ وقتها، بصوتٍ خافت، ليقفَ صديقي "الباندي" الذي كان يجلس إلى جانبي، بكلّ ثقةٍ ويكرّر ما قلتُه ويفوز بالنّقاط الإضافيّة.
أذكر أنّي صُدمتُ آنذاك. فأنا أعلم بأنّ صديقي "الباندي" غبيّ، وهو يعلمُ ذلك أيضًا! فمن أين أتى بتلك الجرأة ليقف أمام الجميع ويردّد إجابةً لم يكن واثقًا من صحّتها؟ ماذا لو تبيّن أنّ الإجابة خاطئة؟ ألم يفكّر في ذلك وقتها كما فكّرتُ أنا؟!
أخشى الدّيمقراطيّة الّتي قد تأتي بحكّامٍ أجهل ما سيقومون به حال تقلّد السّلطة! وأخشى الدّيكتاتوريّة الّتي قد تزُجّ بي في زنازين مليئة بأهوالٍ لا طاقةَ لي على تحمّلها
أذكرُ أيضًا نظراتِ الإعجابِ الّتي رمقتُه بها زميلتُنا الشّقراء الّتي أحببناها، وفضلاً عن النّقاط الإضافيّة في الامتحان، فاز صديقي "الباندي" لزمنٍ، بقلبها، ورغم أنه كان يعاملها بقسوةٍ إلا أنها كانت تُحبّه. تُحبّه خوفًا! طبعا كان ذلك قبل أن تتعرّفَ على "ريّان".
و"ريّان" هو زميلٌ لنا أيضًا قد وقع في شراكها، يشبه الفرجاني ساسي، بشعرٍ أملس وقامةٍ طويلة. من أولئك الّذين يُخيّل إليك بأنّهم يكتبون أقدارهم. لم يبذل "ريّان" جهدًا كبيرًا ليجلب أنظار الشّقراء ويُقصي صديقي "الباندي" من المنافسة، وطبعًا لم يحتج هذا الأخير كثيرًا من الوقت لكيْ ينساها.
وبينهما لا أزال أنا عالقًا في شراكها رغم أنّها لم تلحظ ذلك يومًا، بل لم تمنحني يومًا حتّى تلك النّظرات الّتي منحتها لزميليّ في المدرسة رغم أنّي كنتُ أحزنُ أشدّ الحزن لحزنها وأفرحُ أشدّ الفرح لفرحها، وأظنّ أنّ الأمر نفسه يتكرّرُ مع تونس.
تونس نسيها صديقي "الباندي"، تحبّ الفرجاني ساسي ويحبّها، لم تلحظ وجودي يومًا، وأنا هنا أحبّها، وأحزن أشدّ الحزن لحزنها وأفرحُ أشدّ الفرح لفرحها. الغريب أنّي هذه المرّة أعبّر عن حبّي لها!
اقرأ/ي أيضًا: