مقال رأي
"ما هو الجحيم؟ معاناة ألا أكون قادرًا على الحب"، هكذا اختصر الروائي والفيلسوف الروسي فيودور دوستويفسكي ما يمكن أن يحتاج إلى كثير من الحبر والصفحات للحديث عن الحياة دون حب، هذا الشعور الذي يدغدغ كلّ إنسان دون أن يُعثر له إلى اليوم على تفسير واحد.
كان الحب ولا يزال ملهم الشعراء والفنانين والكتاب والموسيقيين والمبدعين بمختلف مشاربهم
اقرأ/ي أيضًا: رسائل الحب بين الأمس واليوم.. من سهاد المحبوب إلى السهر على فيسبوك
فالفلاسفة لم يتوصلوا إلى اليوم إلى تحديد مفهوم واحد للحب واختلفت تفسيراته ومقارباته بين مختلف المدارس الفكرية والفلسفية. وبين من اعتبره تلبية لحاجة طبيعية لضمان استمرارية البشر على كوكب الأرض، ومن نظر إليه بسوداوية ورآه سببًا للحزن أو مدعاة للسعادة، بقي الحب عتيًا عن الشرح والتفسير، وهو الأمر ربما الذي يجعله محاطًا بهالة من القداسة والجمال.
وفي كلّ الحالات، كان الحب ولا يزال ملهم الشعراء والفنانين والكتاب والموسيقيين والمبدعين بمختلف مشاربهم، ومصدر سعادة لكلّ من يفتح أبواب قلبه لهذا الشعور، وأحيانًا قد يكون يؤدي إلى شعور بالألم والحزن اللذين لا توجد كلمات كافية لوصفهما، ولكن ما الحب دون وجع الشوق ولهفة اللقاء؟ ألم يقل أشهر المتصوفين جلال الدين الرومي "ألق نفسك في نهر العشق، حتى وإن كان نهرًا من الدماء؟".
وبغض النظر عما إذا كنا نحب بسبب دافع طبيعي غريزي كسائر الثديات، أو بفعل إحساس غير طبيعي، أو هدية من السماء، فنحن عندما نحب نتحول إلى أشخاص أفضل، وكأن هذا الشعور الخارق يلهمنا لأن نكون أكثر عطاء، أن نمنح من أنفسنا وأرواحنا الكثير دون أن ننتظر شيئًا في المقابل، أن نسعى أن نكون دائمًا إلى جانب من نحب في أحلك الظروف وأصعبها ونتقاسم معهم الحزن قبل السعادة، ويصبح إسعادهم سبيلًا لفرحنا، حتى أننا عندما ننظر في المرآة نشعر بأننا أجمل، ونتمتع بلمعة في العيون لا يمكن تفسيرها.
ورغم كلّ هذه المشاعر السامية والقيم الكونية التي يمكن أن يغذيها الحب، يبقى السؤال مشروعًا "لماذا نحب؟". فنحن لا نختار من نحب ولكن شيئًا ما غريبًا، لا يمكن تفسيره، يجذبنا إلى شخص دون غيره. فلما نحب؟ يقول المفكر والفيلسوف المغربي سعيد ناشيد إن الإنسان في تجربة الحب يرغب في أن يحظى بالاعتراف المطلق بكينونته باعتبارها غاية في ذاتها، ليصبح الشخص الذي نحبه كينونة مطلقة، فنحن نحب هذا الشخص بالذات وهو كذات متفردة ولا تتكرّر إلى ما لا نهاية، فهو (أي الشخص الذي نحبه) بمنزلة الوجود الكلي والمطلق الواحد الأحد. وفي الحب يدرك الإنسان هشاشته وتناهيه، لتصبح لحظات الحب بالنسبة إليه نوعًا من التعويض – ولو مؤقتًا – عن كينونة سائرة نحو الشيخوخة والاندثار. ويضيف ناشيد أن هذا التعويض مجرّد وهم ولكنه في الأخير وهم ضروري لتفادي التعلق الوسواسي بـ"الثوابت" و"الهويات" و"اليقينيات" كتعويض عن وهم الخلود.
نحن تعساء الحظ الذين تزامن وجودهم على كوكب الأرض مع اندثار الرسالة الأولى والأهم لمختلف الديانات السماوية وغير السماوية: الحب
هنا ربما نجد بعضًا من التفسير حول الجحيم الذي ذكره دوستويفسكي والذي نعيشه اليوم في عالم ابتعد عن الحب مسافات طويلة وأصبح قريبًا من التخلي عنه مقابل غرقه المتواصل في مستنقع الثوابت واليقينيات والهويات.
فعالمنا اليوم تملؤه الحروب، ولا تكاد تنتهي حرب هنا ومعركة هناك، لتندلع أخرى في أكثر من مكان، وسكان الكرة الأرضية باتوا اليوم أقرب إلى كائنات يحرّكها في الأغلب الجشع واللهفة على السلطة والقوة والثروة وتقودها رغبات استهلاكية بحتة بعيدة كلّ البعد عن القيم الإنسانية.
نحن تعساء الحظ الذين تزامن وجودهم على كوكب الأرض مع اندثار الرسالة الأولى والأهم لمختلف الديانات السماوية وغير السماوية، الحب، مقابل صعود غير مسبوق للإيديولوجيات المفرغة والقاتلة والأفكار المتعصبة المنغلقة التي ترفض أي نقاش والتي باتت تقدّس أشخاصًا وأعمالًا إنسانية أكثر من تقديسها للآلهة.
نحن الجيل الذي يواكب زمن التمسك بالخطإ لأننا خلقنا على هذا الدين أو ذاك، والجيل الذي وجد نفسه غارقًا بتقنيات وتكنولوجيا متطورة إلى درجة منعته من التفكير والنقد وحجبت عن عقله النور لينفذ إليه الصدأ. نحن الجيل الذي غرق في مستنقع الاستهلاك حتى غرق فيه وبات يبحث عن ملئ فراغاته العاطفية الداخلية بشراءات لا قيمة لها.
نحن نمثل إنسان ما بعد الحداثة، ولكن يبدو أن هذا الإنسان تاه عن نفسه وابتعد عن قيم حقوق الإنسان وكونيتها وما دافع عنه الفلاسفة والمفكرون منذ عقود، كلّ ذلك، وفي مفارقة غريبة، باسم الحداثة والتقدم والتطور. فهيمنة الرأسمالية والثقافة الاستهلاكية قضت، أو تكاد تقضي، على كلّ ما هو جميل فينا من مشاعر وقيم ومبادئ، لنجد أنفسنا نعيش في زمن الرداءة بامتياز، الرداءة التي أطلقها عليها الكاتب الصحفي والروائي التونسي الصافي سعيد "الكيتش" في روايته "الكيتش".
الرداءة تلاحقنا في كلّ مكان، سواء كانت في وسائل الإعلام وما تبثه معظمها من محتوى يحث على العنف ويرسخ مفاهيم الذكورية والبطريركية في مجتمع مريض، في الشوارع التي نسير فيها، في المقاهي والمطاعم التي تعددت أسماؤها وعناوينها ولكن محتواها لا يختلف، حتى الأعياد والمناسبات الجميلة، تحولت بدورها إلى مناسبة لاستعراض عضلات الاستهلاك، فمن يشتري أجمل البضائع وأكثرها سعرًا ينظر إليه كمن حقق إنجازًا عظيمًا، حتى وإن كان الشعور بالحب أو السعادة غائبًا.
اقرأ/ي أيضًا: نساء مستقلات: لقد أصبحنا الرجال الذين كنا نريد أن نتزوج!
نحن نحتاج أن نتذكر ونعي أيضًا ضرورة تأنيث الحب
الرداءة أيضًا تلاحق أفكارنا ومعتقداتنا، فكلّنا، أو جلّنا، متعصّب لما يراه صحيحًا أو مناسبًا، وأصبح التعصّب، سواء كان دينيًا أو إيديولوجيًا أو سياسيًا، عنوان المرحلة بامتياز. كلّ هذا التعصب والانغلاق على الذات ظواهر تتعدّد تفسيراتها ولا يمكن حصرها في هذا المقال، ولكن لا بدّ من الإشارة إلى أن غياب الحب قد يكون أحد أسبابها.
قد يبدو هذا غريبًا ولكنه واقعي ومنطقي إلى درجة ما، ففي لقاء مع صديق مؤخرًا حدثني عن حوار جمعه بشاب تونسي أبدى استنكاره الشديد لما ترتديه النساء والفتيات بتونس من ملابس قصيرة أو ضيقة، وعبّر عن امتعاضه من سلوكياتهن بل واعتبر أن ما تعيشه البلاد من مشاكل مردّه ابتعاد المرأة عن تعاليم الإسلام. وفي الغوص معه أكثر، تبيّن أن هؤلاء الفتيات اللواتي يرتدين مثل هذه الملابس ويجلسن في المقاهي ويتردّدن على الملاهي الليلية ويعشن حياتهن كمواطن طبيعي، يرفضن في الكثير من الحالات الحديث معه والتعرّف إليه نظرًا لظروفه الاجتماعية الصعبة.
من خلال هذه التجربة، يبدو أن شعور هذا الشاب بكره المرأة التونسية المتحرّرة يعود بالأساس إلى رفضها له. طبعًا لن أكون في يوم من الأيام من المدافعين عن الذكوريين من أبناء وطني وغير أبناء وطني، ولكن غياب الشعور بالحب لدى هذا الشخص هو ما دفعه إلى الكره. وهنا نعود إلى الجحيم مرة أخرى، جحيم فقدان القدرة على الحب.
في زمن الكيتش، هذا الزمن الذي نعيشه اليوم بحروبه وصعوباته وصعود التيارات الإرهابية خلاله، ينتقد الكثيرون الاحتفال بعيد الحب يوم 14 فيفري/ شباط من كلّ سنة، بتعلّة أنه يوم رأسمالي استهلاكي بامتياز، قد يكون هذا صحيحًا، ولكن أين المعيب في أن نحتفل بشعور لا ندرك ماهيته ولكنه قادر على إلهام كلّ المشاعر الإنسانية الفضلى داخلنا، ربما نحن نحتاج، كإنسانية جمعاء، إلى هذا اليوم كي نتذكر أن نحب، أن نحب أنفسنا، أن نحب عائلتنا وأصدقائنا، أن نحب رجلًا أو امرأة، أن نحب إنسانًا لذاته، لكينونته، أو ربما أن نوقظ في أنفسنا الرغبة أن نحب؟
نحن نحتاج أن نتذكر ونعي أيضًا ضرورة تأنيث الحب، فالرجل قادر على التوالد دون حب ولكن المرأة وحدها تدرك أنه لا شيء يدل على الحب العميق إلا قبلة عميقة، وتأنيث الحب يعني في النهاية تحريره من قيود الضرورات الطبيعية والغريزية.
اقرأ/ي أيضًا:
استراتجيات الرجال لإنهاء العلاقات مع النساء: "تستاهل ما خير؟"