26-سبتمبر-2022
 عصام بوقرة

مقال رأي

 

أثر "الفراشة" لا يزول بقانون 52 و أثر قانون 52 لسنة 1992 إلى يومنا هذا وبعد 30 عامًا من صدوره لا يزال ضيفًا ثقيل الظل على أفئدة الشباب والمبدعين، قانون وُضع على القياس لتلبية إكراهات أجنبية ولإيهام الجميع بأن "تونس القانون والمؤسسات" تُعاضد جهود العالم في مكافحة جريمة الاتجار بالمخدرات.

تطبيق القانون 52 الخاص بالمخدرات على أرض الواقع بقي تعسفيًا يكرس التنفيذ "الطبقي للقوانين"

لذا قد تم سنّ القانون 52 لسنة 1992 المتعلق بالمخدرات والذي في ظاهره جاء كشكل من أشكال الردع لمجابهة سياسة الإفلات من العقاب والإطاحة بشبكات ترويج المخدرات التي تورط فيها المنصف بن علي الشقيق الأكبر للرئيس الأسبق زين العابدين بن علي والتي شكلت آنذاك حديث الساعة.

 

 

لكن تطبيقه على أرض الواقع بقي تعسفيًا يكرس التنفيذ "الطبقي للقوانين" -ليس لفظًا قانونيًا إنما هو لفظ مواطني- أي أن القانون لا يطبق على جميع الأفراد بشكل متساوٍ بل يطبق ليحمي مصالح طبقة على حساب الأغلبية من الشعب أو لإسكات أصوات من لا صوت لهم - ممن حلموا ببلاد تمنح للمواطن كرامته-  كغيره من القوانين الزجرية التي تحد من الحريات العامة والفردية والتي لم تتغير إلا شكليًا منذ نحتت أسس السياسة الجزائية في تونس.

أغلب المساجين في تونس من الشباب حيث بلغت نسبة المنتمين للشريحة العمرية بين 18 - 29 سنة أكثر من النصف 55% و 29% من المساجين تتراوح أعمارهم بين 30 - 39 سنة

وفي عرض برقي لبعض النسب نلحظ ارتفاع عدد مساجين قضايا المخدرات أو ما يطلق عليهم تسمية مساجين "52" حيث بلغت نسبتهم 26% من جملة النزلاء، حسب تقرير مكتب المفوضية السامية لحقوق الإنسان بتونس لسنة 2014، وهو تقرير بعنوان "السجون التونسية بين المعايير الدولية والواقع"، خاصة وأن أغلب نزلاء السجون من الشباب حيث بلغت نسبة المنتمين للشريحة العمرية بين 18 - 29 سنة أكثر من النصف 55% من النزلاء و 29% من نزلاء السجون تتراوح أعمارهم بين 30 - 39 سنة.

وبالبحث أكثر في النسب والأرقام، وجدنا أن آخر الإحصائيات التي قدمتها وزارة العدل التونسية كانت في شكل رد كتابي على السؤال الكتابي الذي توجه به النائب السابق زياد غناي بتاريخ 03/12/2020 وفحوى السؤال كان عن عدد قضايا الاستهلاك أو المسك والاتجار في مادة القنب الهندي من سنة 2016 إلى ساعة السؤال.

وقد ورد الجواب في 05/01/2021  بأن:

  • "عدد القضايا المتعلقة باستهلاك مادة مخدرة من سنة 2016 إلى سنة 2020 يساوي 9109 قضايا، بلغ عدد المحكوم عليهم في تلك القضايا 12430 متهمًا …
  • عدد القضايا المتعلقة بالترويج والتوريد والانخراط في عصابة المخدرات من سنة 2016 إلى سنة 2020 يساوي 2568 قضية, بلغ عدد المحكوم عليهم في تلك القضايا 4840 متهمًا …"

ونتبيّن هنا الطابع الزجري لهذا القانون من خلال ما يمتاز به من جمود حيث أن القاضي الابتدائي لا يتمتع بسلطة تقديرية تسمح له بتخفيف عقوبة الاستهلاك وفقًا لشروط التخفيف الواردة صلب الفصل 53 من المجلة الجزائية هذا قبل التنقيح الذي صدر في 08/05/2017 والذي استثنى الفصلين 4 و8 (من قانون المخدرات) من تحجير ظروف التخفيف, ورغم هذا الاستثناء إلا أن القضاء لا يزال متمسكًا بـالمقاربة الزجرية, والتي لم تنجح في تحقيق التغيير المنتظر إلى حد الآن.

من اللافت الطابع الزجري للقانون 52 من خلال ما يمتاز به من جمود حيث أن القاضي الابتدائي لا يتمتع بسلطة تقديرية تسمح له بتخفيف عقوبة الاستهلاك

هذه المقاربة الزجرية قد ساهمت بشكل واضح في ظاهرة اكتظاظ السجون في تونس حيث أنه قد جاء في تقرير مكتب المفوضية السامية لحقوق الإنسان بتونس "لاحظنا كذلك أن عددًا كبيرًا من السجناء والسجينات هم في بداية العشرينات من عمرهم ومنهم من يزاولون تعليمهم بمؤسسات جامعية كانوا بصدد تنفيذ عقوبات نتيجة تورطهم في جريمة استهلاك مادة مخدرة…" خاصة وأن أغلب نزلاء السجون هم من الموقوفين دون محاكمة ( 58% من نزلاء السجون موقوفين حسب نفس التقرير).

 

 

وتعود إطالة فترات الإيقاف في أغلب الأحيان إلى السياسة المنتهجة داخل المحاكم في التعاطي مع الملفات خاصة مع غياب الرقمنة وبطء الزمن القضائي في الفصل في الملفات القضائية. لكن معاناة السجين وبالخصوص سجناء الـ52 لا تبقى رهينة القضبان فحسب بل تمتد لتطال العائلة و الأصدقاء وجيلًا كاملًا من الشباب.

هذا القانون قد أضحى أداة فرز طبقي وثقافي في حرب النظام ضد شبابه، ذريعة في يد الأمنيين لإسكات الأصوات غير المرغوب فيها، فمن بين الشباب السجناء نجد الدارسين والفنانين والمبدعين والرياضيين وغيرهم ممن نرى في عيونهم الحلم بغدٍ أفضل،  بدولة تعاملهم على أنهم نخبة لا مجرمين.

القانون 52 قد أضحى أداة فرز طبقي وثقافي في حرب النظام ضد شبابه، وذريعة في يد الأمنيين لإسكات الأصوات غير المرغوب فيها

وفي عيون الشباب الحالمة، نرى أيضًا قضية المخرج الشاب "عصام بوقرة" فهي بوابتنا لقضايا أترابه، لطالما أراد عصام أن يكون صوت من لا صوت لهم، مثلما سعى لإيصال مشاغل شعبه عن طريق فنه، وكان له ذلك حيث كانت التتويجات المتتالية التي تحصل عليها فيلمه القصير "فراشة" وهو خلف القضبان، وقد فتحت أمامنا الباب على مصراعيه لإعادة طرح النقاش حول القانون عدد 52 وضرورة تغييره.

وقد حاز فيلمه القصير "فراشة" على الجائزة الأولى في الدورة الثانية للمهرجان الدولي "فيلمي الأول" بباريس الذي نظمه المركز الدولي للثقافة والفنون قصر العبدلية بالمرسى بالشراكة مع دار تونس بباريس وقد تم تكريم المخرج الشاب عصام بوقرة في شخص والده "عبد الجليل بوقرة" في افتتاح مهرجان ليالي العبدلية.

عصام بوقرة هو المخرج الذي يحلق فيلمه "فراشة" في أرجاء العالم بينما هو قابع في سجنه هكذا اختارت الدولة تكريمه..

عصام بوقرة هو المخرج الذي يحلق فيلمه في أرجاء العالم بينما هو قابع في سجنه هكذا اختارت الدولة تكريمه، بينما اختار أصدقاءه من النشطاء والفنانين تكريمه بـ"لمّة فنيّة" أطلقوا عليها عنوان "خلي الفراشة تطير: لمة للمخرج عصام بوقرة".

اجتمع عدد مهم من الفنانين والمخرجين والممثلين والنشطاء السياسيين والحقوقيين يوم الأربعاء 21 سبتمبر/أيلول 2022 بقاعة الريو وسط العاصمة تونس، وذلك لتجديد الدعم والتضامن مع المخرج عصام بوقرة وللتعريف أكثر بقضيته ومن خلاله الوقوف عند معاناة سجناء الـ52 عن طريق مدخلات بخصوص هذا القانون الجائر وآثاره, وكانت هذه فرصة لإعادة مشاهدة جملة من مشاريعه الفنية وعلى رأسها فيلمه المتوج مؤخرًا "فراشة" والتذكير بأن المكان الطبيعي للمخرج هو أن يكون خلف الكاميرا لا خلف القضبان وأن عصام هو مروج فن وأفلام لا مروج مخدرات وأن بقاءه في السجن أكثر من عام دون محاكمة هو قرار جائر في حقه.

وأروقة المحاكم تشهد في هذه الفترة خاصة اختبارًا عسيرًا من خلال فتح ملف من الملفات المهمة وهو ملف "التسفير", لكن ما نراه هو الإبقاء على المتهمين في ملف تسفير الشباب التونسي إلى بؤر التوتر في حالة سراح ومحاكمتهم وهم طلقاء في المقابل استسهال بطاقات الإيداع في وجه الشباب الناشط والمبدع, وهو ما جعل من والد عصام، الأستاذ عبد الجليل بوقرة يدوّن على صفحته الخاصة بفيسبوك "تمنيت لو كان عصام متورطًا في قضية التسفير إلى سوريا لكان الليلة معي في البيت".

سياسة الردع في قضايا المخدرات هي سياسة عرجاء لم تعد تستقيم خاصة مع التطور التشريعي في العالم، فمن الضروري إعادة النظر في قانون المخدرات وخاصة في جانب الاستهلاك والزرع للاستهلاك الشخصي

نخلص هنا إلى أن سياسة الردع في قضايا المخدرات هي سياسة عرجاء لم تعد تستقيم خاصة مع التطور التشريعي في العالم، فمن الضروري إعادة النظر في قانون المخدرات وخاصة في جانب الاستهلاك والزرع للاستهلاك الشخصي كذلك من الضروري التخلي عن المقاربة الزجرية وانتهاج مقاربة إصلاحية وعلاجية لمقاومة انتشار المخدرات وهذا ما جاء في بيان اللجنة الوطنية لمساندة السينمائي عصام بوقرة "نادت أغلب مكوّنات المجتمع المدني بتونس بضرورة مراجعة قانون 52 جذريًا بعد أن انتهت صلاحيته وأثبت عدم نجاعته ولم يعد يتلاءم مع مقتضيات العصر ومع المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان والحرّيات العامّة والفردية ولا مع التوصيات الأخيرة للمنظمة العالمية للصحة (2019) وقرار لجنة المخدرات بالأمم المتحدة (2020)، ودعت بناء عليه إلى اعتماد مقاربة جديدة عادلة وفعّالة وعلاجية لمقاومة ظاهرة انتشار المخدّرات".

وقد اتخذت اللجنة الوطنية لمساندة السينمائي عصام بوقرة عدد من الخطوات من بينها إطلاق عريضة وطنية قصد جمع توقيع المساندين قبل انطلاق محاكمة عصام، حيث طالبت اللجنة في هذه العريضة بإطلاق سراح المخرج عصام بوقرة معلنة تضامنها مع كافة مساجين القانون 52 مطالبة كذلك بضرورة مراجعة القانون عدد 52 واعتماد مقاربات إصلاحية بدلاً من المقاربة الزجرية التي لم تجد نفعًا.

متى تعي السلطة أن العقاب في مسألة الاستهلاك الشخصي للقنب الهندي لا يضع حدًا أمام ظاهرة انتشار المخدرات بل سلب الحرية بالسجن يفتح آفاقًا "إجرامية"؟

ومن المرتقب أن يتم عرض عصام بوقرة على أنظار القضاء يوم 6 أكتوبر/تشرين الأول 2022، وفي الأثناء يبقى الجدل حول القانون عدد 52 لسنة 1992 المتعلق بالمخدرات قائمًا إلى حين تبني الدولة لسياسة إصلاحية حقيقية بعيدًا عن الأوهام الانتخابية التي يتم ترويجها من حين إلى أخر.

فمتى تعي السلطة أن العقاب في مسألة الاستهلاك الشخصي للقنب الهندي لا يضع حدًا أمام ظاهرة انتشار المخدرات بل أن سلب الحرية بالسجن يفتح آفاقًا "إجرامية" ولنا في ذلك أمثلة وفصول من روايات انتهت بشكل مأساوي.
 

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"