26-أكتوبر-2019

بلغت حركة النهضة نهاية السباق في المركز الأوّل غير أنّها وصلت منهكة (الشاذلي بن إبراهيم/ NurPhoto)

 

أفضت نتائج الانتخابات التشريعيّة والرئاسيّة 2019 إلى ألوان من الالتباس والتعقيد والتباين، فقد سكن قيس سعيّد الشخصيّة المستقلّة قصر قرطاج بما يشبه التفويض الشعبيّ، وهو الذي فاز فوزًا ساحقًا في الدور الثاني على منافسه نبيل القروي رجل الأعمال بنسبة فاقت 72 في المائة. في المقابل تحوّلت نشوة المنتصر في السباق البرلماني إلى مصدر قلق وارتباك وتردّد، فالمقاعد التي نالتها حركة النهضة لم تتخطّ الاثنين وخمسين، وهي نسبة تعادل تقريبًا ربع كراسي البرلمان، ظنّ المنتشون بصعود أحزاب وائتلافات "تقول إنها ثوريّة" أنّ التحالف بينها كفيل بتحويل هذا "النصر الصغير" إلى تكتّل قويّ متين، فاكتشف هؤلاء منذ الإعلان عن النتائج الأوّليّة أنّ المسافة بين التيّار الديمقراطيّ وائتلاف الكرامة من جهة والنهضة وحركة الشعب من جهة أخرى أبعد من المسافة بين هذه الأطراف وبعض الأحزاب المنسوبة إلى المنظومة القديمة، بذلك تضخّمت الهوّة بين السبعة الأوائل في انتخابات 2019، وتزايدت الخلافات واتّسعت دائرة الإقصاء وتعالت اللاءات وتناسلت الاحترازات بأسلوب زاد من حيرة المواطنين وسائر المتابعين.

بلغت حركة النهضة نهاية السباق في المركز الأوّل غير أنّها وصلت منهكة، ممّا حرمها لذّة الانتصار والقدرة على حسن توظيفه

اقرا/ي أيضًا: تمثيلية المرأة في البرلمان الجديد.. إلى الوراء در

ولمّا أصبح تشكل الحكومة عمليّة عصيّة وتجميع الفرقاء مسلكًا شائكًا تعالت أصوات تنادي بالإعراض عن الفصل 98 من الدستور واللجوء إلى حلول توافقيّة والقبول بولادة حكوميّة قيصريّة ومولود هجين تعدّدت أصوله، فأسندت  للحكومة المرتقبة نعوت وإضافات شتّى منها حكومة أزمة، وتكنوقراط، وكفاءات وهي توصيفات ألفها التونسيون، غير أنّ المولود المتفرّد الذي يراد إنشاؤه هو حكومة الرئيس أي رئيس الجمهوريّة، وذلك تعويلًا على صلابة هذا المركز وخصوبته وشعبيّته قياسًا إلى هشاشة البرلمان ومؤشّرات عقمه، هذا المنفذ وهذه المواقف المثيرة وغيرها مثّلت موضوع نقاش في دائرة مستديرة نظّمها المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات بتونس.

تناول الحاضرون من السياسيين والأكاديميين يوم 26 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، "انتخابات 2019 وآفاق تشكيل الحكومة وأولويّات المرحلة السياسيّة القادمة"، فانتهوا إلى مواقف نجمل أهمّها في النقاط التالية:

الفائز المنهك

بلغت حركة النهضة نهاية السباق في المركز الأوّل، غير أنّها وصلت منهكة، ممّا حرمها لذّة الانتصار والقدرة على حسن توظيفه، هذا ما أكدّه المهدي المبروك وزير الثقافة الأسبق في مفتتح المداخلات، ولئن بدا هذا الفوز بالنسبة إلى المبروك ضعيفًا فإنّه في نظر سالم لبيض النائب عن حركة الشعب من المشكوك فيه، بل هو بمثابة الهزيمة المعنويّة معلّلًا هذا التقييم بتراجع رصيد حركة النهضة من المصوتين مقارنة بالانتخابات التشريعيّة السابقة والأسبق. اللافت أنّ لبيض يتوافق في مسألة التشكيك مع غريمه الإيديولوجي قلب تونس، وإن اختلفا في الأمثلة والحجج، ففي نفس المقام عدّ عياض اللومي القيادي بهذا الحزب أنّ الانتخابات بدت مفتقرة إلى النزاهة والشفافية مذكّرًا بما سمّاه التداخل بين المسارين السياسيّ والقضائيّ بسبب إيقاف نبيل القروي وحرمانه من القيام بحملته الانتخابيّة وفق ما يقتضيه مبدأ تكافؤ الفرص، وفق اللومي.

تفوّق القيمة على اللقمة

لم ينكر محمّد القوماني عضو المكتب السياسيّ بحركة النهضة تراجع عدد المصوّتين لحزبه واعتبر ذلك "بمثابة الإنذار"، غير أنّه أكّد على منزلة الحركة في المشهد السياسيّ عامّة، واعتبر وجودها في صدارة الترتيب منذ انتخابات2011 دليلًا على أنّها قد تحوّلت إلى صمّام أمان ضدّ عودة المنظومة القديمة. كما أصبحت الركيزة الثابتة التي لا غنى عنها للمحافظة على المسار الديمقراطي ودعمه وإنقاذه. فهي في رأيه "قوّة ضامنة". واعتبر القوماني القلق حول تشكيل الحكومة مبالغًا فيه، فاللقاءات مع الأحزاب والشخصيات والمنظمات مازالت في بدايتها، ولم تبلغ مرحلة التفاوض، لكنها ستُثمر رغم ذلك حسب رأيه الاتّفاق المرجوّ. وعدّ القوماني فوز قيس سعيد داعمًا للخطّ الثوريّ، فمعه بلغت التجربة الديمقراطيّة نضجها و"صدقيّتها" ، إذ تفوقت القيمة على اللقمة وغلبت كفّة الزهديات سطوة اللوبيّات. واستأنس القوماني في وصف ما أفضت إليه الانتخابات الرئاسيّة بعبارات "التصويت العقابيّ .. ثورة الصندوق..التطلع إلى تغيير نمط الحكم"، تلك التي اصطلح عليها العديد من المحلّلين.

اعتبر القوماني القلق حول تشكيل الحكومة مبالغًا فيه، فاللقاءات مع الأحزاب والشخصيات والمنظمات مازالت في بدايتها، ولم تبلغ مرحلة التفاوض، لكنها ستُثمر رغم ذلك حسب رأيه الاتّفاق المرجوّ

اقرأ/ي أيضًا: كانت سجونًا ومعتقلات تعذيب.. هل تصبح مراكز للذاكرة التونسية؟ (صور حصرية)

انحناء الخطّ الثوريّ وبوادر انكساره

"لم يعد الخطّ الثوريّ في تونس مراهنًا على الحناجر والسواعد، إذ أصبح بعد نضج التجربة الديمقراطيّة معوّلًا على الانتخابات، فالصناديقُ باتت المسلك الأمثل لمقارعة المنظومة القديمة ومحاسبتها سياسيًّا"، وقد تجسّد ذلك حسب القوماني ويسري الدالي النائب عن ائتلاف الكرامة من خلال صعود النهضة والائتلاف والتيار الديمقراطي وحركة الشعب وبعض الشخصيّات المستقلّة.

هذه القراءة لم تحظ بالإجماع داخل هذا "الرباعي" إذ أصابتها طعون التشكيك والمزايدة، فقد أنكر سالم لبيض قطعيًّا أن تكون النهضة في سياستها وتوجّهاتها منسجمة مع الخيارات الثوريّة، وذكّر على سبيل المثال أنّ صلة نور الدين البحيري رئيس كتلة الحركة بسفيان طوبال رئيس كتلة النداء سابقًا والقيادي بقلب تونس حاليًّا أوثق من صلته ببقيّة الائتلافات والشخصيّات والأحزاب "ذات المنحى الثوريّ"، وذكّر أن نوّابًا من النهضة كانوا يستخفّون بحديث كتلته وكتل أخرى ومنها الجبهة الشعبيّة عن استحقاقات الثورة في البرلمان السابق، و"كانوا ينعتوننا بالثورجيين" على حدّ تعبيره. وتحدّى في هذا السياق الحركة أن تعلن تمرّدها على إملاءات صندوق النقد الدولي وتدفع نحو تغيير المنوال التنمويّ، ومراجعة اتّفاقيّة الشراكة بين تونس والاتحاد الأوربي سنة 1995.

نبّه أحمد بوعزي عن التيار الديمقراطي إلى أنّ خطاب "ائتلاف الكرامة" منذر بإحداث صراع مع الغرب

من جهة أخرى، اعتبر يسري الدالي أنّ الانتخابات قد أنصفت "الخطّ الثوريّ" الذي حصد إجمالًا حوالي 120 مقعدًا، وعَدّ ما يحدث من تنابز بين المنتمين إلى هذا الخطّ مزايدة في غير محلّها تغذّيها بعض المنابر. واستغرب من الإمعان في الدفع نحو إحداث الفجوة بين التيار والائتلاف والنهضة وحركة الشعب، ففي"البرامج التلفزيّة" حسب رأيه يتمّ استحضار هذه الأطراف باعتبارها متناحرة في حين يتمّ تغييب الخصوم الحقيقيين.

وذكّر الدالي في تدخّله أنّ ما يطرحه ائتلاف الكرامة في جانب منه لا يختلف عن طموحات جلّ الثوريين من كلّ التيارات، منها إلغاء حالة الطوارئ ومراجعة المنظومة الأمنيّة والقضائيّة والسعي إلى التخلّص من التبعيّة والحرص على إصلاح مجالات التعليم والصحّة والنقل والثقافة وتطويرها.

في المقابل، كشف تدخّل أحمد بوعزّي ممثّل التيار الديمقراطي عن الهوّة التي ما انفكّت تتسع بين حزبه من جهة والنهضة وائتلاف الكرامة من جهة أخرى. فقد اعتبر الائتلاف متناغمًا مع رابطات حماية الثورة، إذ يضمّ العديد من قياداتها، ونبّه إلى أنّ خطاب هذا الطرف السياسيّ منذر بإحداث صراع مع الغرب.

وأشار إلى أنّ النهضة قد خسرت بعض حلفائها ومنهم حركة تحيا تونس بسبب تقاربها مع الائتلاف. ولم يخف بوعزي تمسّك التيّار بمطالبه التي أعلن عنها شرطًا للمشاركة في الحكومة، وهي تكليف رئيس من خارج النهضة، وضبط برنامج حكومي دقيق يكون محلّ اتّفاق، وتمتيع حزبه بثلاث حقائب وزاريّة هي الداخليّة والعدل والإصلاح الإداريّ، وعددّ بوعزي الأسباب التي تجعل تشكيل الحكومة عمليّة مستعصية وأضاف أنّها غير مستحيلة فثمّة من "سيصوّت من منطلق أن لا أحد ضامن لمقعده في صورة إعادة الانتخابات".

عاب رابح الخرايفي على حركة الشعب دعوتها إلى "حكومة الرئيس" لأن المقترح يهدّد الدستور، فهو "لا يختلف خطورة عن مصطلح التفويض الشعبيّ، فكلاهما ينحدر من معجم الاستبداد"

الدستور و"حكومة الرئيس" والانتخابات المبكرة

ذكّر رابح الخرايفي القيادي بتحيا تونس أنّ حزبه غير معنيّ بتشكيل الحكومة لكنّه مطالب بالمساهمة في حماية الدستور، وعاب على حركة الشعب دعوتها إلى "حكومة الرئيس". وبصرف النظر عن مقصد سالم لبيض من هذه العبارة فإنّ ما رسخ في الأذهان حسب رأيه أنّ هذا المقترح يهدّد الدستور، فهو لا يختلف خطورة عن مصطلح التفويض الشعبيّ، فكلاهما ينحدر من معجم الاستبداد وفي أخفّ الأحوال يتناسب هذا الخطاب مع النظام الرئاسيّ لا مع النظام الحالي.

يراهن الخرايفي على حكمة قيس سعيّد في عدم الانسياق وراء الدعوة الضمنيّة إلى خرق الدستور، ولا يستبعد أن يمضي على قانون 18 جوان/ حزيران 2019 الذي يضبط الترشّح للانتخابات وفق شروط تجعل العمليّة أكثر جديّة حسب رأيه وإذا أعيدت الانتخابات بناء على تلك التنقيحات ستكون النتائج والتركيبة البرلمانيّة أفضل في كلّ الأحوال. 

كشف هذا اللقاء عمّا يمكن نعته بتواطؤ الأضداد وتباعد الأطراف التي حسب المتبعون أنّها "تنسل من رحم واحد"، هذا المشهد يبدو مربكًا بالنسبة إلى المواطنين غير أنّه يعدّ مادّة سياسيّة وفكريّة إيديولوجيّة غنيّة تساهم في مزيد النظر والتقليب بكشف مزيد من الحقائق والمسافات.

دائرة مستديرة نظّمها المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات بتونس (صورة المركز العربي)

اقرأ/ي أيضًا:

الشباب وقيس سعيّد.. حينما يقول الشباب كلمته تحدث المفاجأة!

هل أعاد النّصر السّاحق لقيس سعيّد النفس الثوري للتونسيين؟