لا تجرأ إلى قلّة من النسوة أو الفتيات ممن تعرّضن للتحرّش الجنسي أو الاغتصاب على البوح والاعتراف بواقعة مؤلمة لا يخفى أثرها ولا تُنسى على مرّ الزمن. وإن دائمًا ما تثير قضايا التحرّش الجنسي أو الاغتصاب جدلًا مجتمعيًا كبيرًا، إلاّ أنّ قطاع واسع من الرأي العام عادة ما يدين الضحية التي تفضّل السكوت لتعيش معاناتها وحدها بعيدًا عن أي عار أو وصم مشين قد يلحق بها.
"أنا زادا" (أنا أيضًا) صرخة أطلقتها، في الأثناء مؤخرًا، مجموعة من التونسيات على مواقع التواصل الاجتماعي للحديث عن ذكرى تحرّش جنسي أو اغتصاب لم تمحى من الذاكرة. وقد انطلقت بعد موجة غضب إثر انتشار صور مخلّة بالآداب العامة للفائز في الانتخابات التشريعية عن حزب "قلب تونس" زهير مخلوف ما أثار دعوى قضائية لتحرّشه بفتاة أمام أحد المعاهد بولاية نابل.
"أنا زادا" (أنا أيضًا) هي صرخة أطلقتها تونسيات على مواقع التواصل الاجتماعي للحديث عن ذكرى تحرّش جنسي أو اغتصاب لم تُمحى من الذاكرة
وتختلف في ركن الاعتراف على مواقع التواصل الاجتماعي القصص وتفاصيلها، ولكنّها تتشابه في وحشيتها وتأثيرها على أغلب الضحايا. تقول إحداهن في صفحة "أنا زادا": "كان عمري حينها ثمانية سنوات، خرجت ليلة العيد مع أمي وأختي لشراء لعب العيد مثل كلّ الأطفال. كان السوق مزدحمًا كثيرًا ولاحظت مجموعة من الأولاد يتحرشون بكلّ من يمرّ، بادر أحدهم بلمسي في مناطق حساسة من جسمي. ولأنني صغيرة لم أفهم المغزى لكني كنت على يقين أنّ فعلهم مشين جدًا. ولم أجرأ حتى على مصارحة والدتي".
هي شهادة إحدى الفتيات عما تعرّضت له منذ سنوات. تسرد الواقعة بتفاصيلها التي لم تنساها وتجربتها الأخرى مع التحرش الجنسي حين بلغ سنّها التاسعة عشر سنة، وكأنّ الواقعة حدثت بالأمس القريب.
اقرأ/ي أيضًا: المتحرّش بالأطفال أو "البيدوفيل".. مضطرب جنسيًا ومنبوذ اجتماعيًا
أغلب قصص النساء عن التحرّش الجنسي تعود إلى أكثر من عشرين سنة أحياناً، كنّ صغيرات حينها لم يتجاوزن سن العاشرة. ولكن رغم مرور كل هذه السنوات إلاّ أنّ تفاصيل تلك الأحداث لم تمحى من مخيلة أغلبهن، ولا ذكراها الموجعة. بعضهن تروي قصتها مع التحرّش المستمر في وسائل النقل وأخريات أمام المدارس أو المعاهد، فيما تروي البعض تعرّضهن للتحرش في أماكن عامة. وتختلف ظروف وأزمنة وأمكنة كلّ رواية، لكنّ القاسم المشترك بينهنّ متحرّش لم يجرأن على فضحه أو مواجهته خوفًا من المجتمع.
لم تقتصر الشهادات فقط على مجرّد التعرّض للتحرش، فقد سردت بعضهنّ قصصًا عن تعرّضهن للاغتصاب سواء من طرف أحد أفراد العائلة أو في الشارع. ولم يكشفن أغلبهنّ عن أسمائهنّ، فحتى وإن كانت الفتاة هي الضحية، يبقى التحرّش أو الاغتصاب، في المجتمع، وصمًا وعارًا قد يلحق بكلّ من تعرّضت له.
وتختم أغلبهن روايتها بـ"لم أصارح أمي حينها" بسبب الخوف أو عدم فهم ما حصل لها، أو كيف لها التعبير عنه وهي في سنّ صغيرة، أو عدم البوح لتفادي العار، لكن اليوم فتحت لهنّ حملة "أنا زادا" بابًا للاعتراف حتى لو بأسماء مستعارة أو مخفية.
رضا بن يوسف (مختص في علم النفس): البوح يخّفف الألم النفسي للضحية
يعتبر المختص في علم النفس رضا بن يوسف، في تصريح لـ"ألترا تونس"، إنّ عدّة ظواهر سلبية في المجتمع تطفو على السطح وتثير الرأي العام بعد كلّ حادثة صادمة يُفصح عنها، معتبرًا أن الحجم الحقيقي مثلًا لظاهرة التحرش الجنسي يظلّ مخفيًا بسبب تفضيل أغلب الضحايا عدم الإفصاح عن تعرضهنّ للتحرّش منذ الطفولة وحتى في سنّ الرشد. وقال إن تأثيرات التحرش أو الاغتصاب تظل لسنوات "خصوصًا في نفسية أولئك اللائي لم يكشفن عما تعرّضهن له بسبب الخوف من نظرة الآخر والمجتمع".
وعلى صعيد آخر، يشير محدّثنا إلى أنّ بعض النساء الضحايا "تتولد لديهن ردود أفعال عنيفة تظهر سواء إثر وقوع حادثة التحرّش مباشرة أو فيما بعد، فيما تتولد لدى بعضهن الأخريات ميل إلى العزلة ولا تكنّ اجتماعيات".
رضا بن يوسف (مختص في علم النفس): باتت التربية الجنسية ضرورية في أغلب المدارس حتى يفهم الطفل في سنّ مبكرة ما معنى تحرّش أو اغتصاب
اقرأ/ي أيضًا: "رد بالك على عصفورتك".. عن عالم الجنس وبراءة الطفولة
وأضاف، في هذا الجانب، أن "الاعتراف أو البوح حتى بعد سنوات بأمر مؤلم من شأنه أن يخفف ألم الأثر النفسي لدى الضحية، لاسيما إذا تناقشت في الأمر مع العائلة أو الأصدقاء أو حتى مع أشخاص غرباء. إذ يتولّد لديها شيء من الطمأنينة بأنّه يوجد في المجتمع بالفعل من يندد بتلك الظواهر ويساند الضحايا".
كما أكد المختص في علم النفس أن التربية الجنسية "ضرورية اليوم في أغلب المدارس حتى يفهم الطفل في سنّ مبكرة ما معنى تحرّش أو اغتصاب ويصبح قادرًا على مناقشة الأمر مع العائلة إذا ما تعرّض إلى محاولة تحرّش أو اغتصاب وعدم الخوف من الأمر لتجاوز الأضرار النفسية لدى الطفل".
ورغم تخيير البعض الحديث عن تجاربهنّ مع التحرّش الجنسي، تبقى العديد من القصص الأخرى طي الكتمان وتُقبر، ولا تستطيع الضحايا الحديث عنها خوفًا من العار، فيما تبقى حالات لا تطفو على السطح ولا يسمع بها أحد لأن الكتمان أصبح ثقافة في المجتمع التونسي، وهو ما يزيد في انتشار ظاهرة التحرّش على اعتبار أن الكتمان يحول دون محاسبة المتحرّش.
التحرش الجنسي في القانون التونسي
يعرّف الفصل 226 جديد من المجلة الجزائية التحرّش الجنسي بأنه "الإمعان في مضايقة الغير بتكرار أفعال أو أقوال أو إشارات من شأنها أن تنال من كرامته، أو أن تخدش حياءه، وذلك لحمله على الاستجابة لرغباته، أو رغبات غيره الجنسية، أو بممارسة ضغط خطير من شأنه إضعاف قدرته على التصدي لتلك الضغوط".
يعاقب الفاعل في جريمة التحرش الجنسي بالسجن لمدة عامين أو بغرامة مالية قدرها 5 آلاف دينار، ويكون العقاب مضاعفًا إن كانت الضحية طفلًا
ويعاقب الفاعل في جريمة التحرش الجنسي بالسجن لمدة عامين أو بغرامة مالية قدرها 5 آلاف دينار، ويكون العقاب مضاعفًا إن كانت الضحية طفلًا، وإذا كان الفاعل من أصول أو فروع الضحية من أي طبقة، إذا كانت للفاعل سلطة على الضحية أو استغل نفوذ وظيفه، أو إذا سهل ارتكاب الجريمة حال استضعاف الضحية الظاهرة أو المعلومة من الفاعل.
وتشير دراسات وإحصائيات نشرتها جهات رسمية وجمعيات مدنية إلى أن نسبة النساء ضحايا العنف الجنسي تصل إلى 43.8 في المائة، وأنّ 90 في المائة من النساء اللاتي تعرضن للتحرش الجنسي تعرضن له في وسائل النقل العمومي أو الأماكن العامة.
وتبقى أغلب الضحايا أو حتى أولئك اللاتي سمعن عن حالات التحرّش في حالة خوف وإحباط لاسيما بسبب إفلات المتحرّش من العقاب أو عدم القدرة على إثبات فعل التحرّش. وقد باتت، في الأثناء، الأماكن العامة والشوارع لدى بعضهنّ فضاءات خطرة بعد أن أصبحت جرائم التحرش والاغتصاب واقعًا يوميًا.
اقرأ/ي أيضًا:
محكمة التعقيب تجيب: هل تلمّس ثدي فتاة تحرش جنسي أم اعتداء بالفاحشة؟