مقال رأي
من الواضح أن ما سيحدد مصير قرارات قيس سعيّد في 25 جويلية/ يوليو الماضي، مسارين في موازين القوى. الأول داخلي، وهو حتى الآن في صالح الرئيس سعيّد في مواجهة مساحة فارغة من القدرة على الضغط في السياق الراهن، حيث باستثناء مربع "ضد الانقلاب" المحاصر بشكل مناسباتي في "مسرح العاصمة"، فإن "الشارع" أي ذلك القابع في الأزقة والأحياء الشعبية في معظم مدن البلاد إما داعم أو صامت على سعيّد حتى الآن.
الأفق الجدي الوحيد لتغيير المعادلة هو تزايد الضغط الاجتماعي تحت عبء المالي والاقتصادي وحينها، وكما هي العادة طيلة نصف قرن من تاريخ الدولة المعاصرة، يتموقع الاتحاد العام التونسي للشغل في مفترق الطريق
الأفق الجدي الوحيد لتغيير المعادلة هو تزايد الضغط الاجتماعي تحت عبء المالي والاقتصادي وحينها، وكما هي العادة طيلة نصف قرن من تاريخ الدولة المعاصرة، يتموقع الاتحاد العام التونسي للشغل في مفترق الطريق، وسيكون المفاوض باسم الاحتقان الاجتماعي. ربما ديسمبر، أو جانفي أو حتى مارس، ليس غداً لكن قريبًا. وعليه يهيء الاتحاد نفسه لطاولة المفاوضات السياسية بتشكيل حزام "الخبراء" (النخبة التي دعمت 25 جويلية لكن القلقة من انفراد قيس سعيّد بالسلطات) للضغط من أجل التنوع في في مسار الاستفتاء وتغيير النظام السياسي وقواعد اللعبة الجديدة عمومًا.
في انتظار ذلك بقي المسار الثاني لميزان القوى وهو مصدر القلق الحقيقي للرئيس. ومن الواضح أن الطرف الأكثر ظهورًا وتركيزًا هو الراعي الأمريكي للتجربة. سأعود في مقال لاحق حول طبيعة الاهتمام الأمريكي الخاص بتونس من زاوية التأسيس الليبرالي في المنطقة. هنا سأركز على تحيين النظرة الأمريكية الحالية.
اقرأ/ي أيضًا: واشنطن قلقة من غموض قيس سعيّد
سبق أن أشرت في مقال سابق إلى الحيرة والقلق الأمريكيين في طريقة التعامل مع قيس سعيّد. بعد جولة أولى مباشرة إثر 25 جويلية/يوليو الماضي لتصريحات رسمية لوزير الخارجية ومستشار الأمن القومي وإرسال وفد للضغط على عين المكان تركزت أساسًا حول هوية الحكومة وإمكانية سحب صلاحيات السلطة التنفيذية لمصلحة أحد المقربين في تونس من الإدارة الأمريكية (أساسًا مروان العباسي)، تراجعت الإدارة عن الضغط المباشر والعلني الذي لم يكن مثمرًا، واكتفت بعد تمديد "حتى إشعار آخر" بإرسال السيناتور ميرفي المقرب من بايدن، ثم أخيرًا تصريحات محسوبة وحذرة.
منذ منتصف شهر أوت/ أغسطس الماضي، أي تاريخ استقبال قيس سعيّد لنائب مستشار الأمن القومي الأمريكي لم يصدر أي تعليق رسمي منفرد للإدارة الأمريكية حول تونس إلى أن صدر الأمر الرئاسي 117 في 22 سبتمبر/ أيلول الماضي لاستئناف التصريحات الرسمية.
باستثناء بلاغ "سفراء مجموعة الدول السبع" في 6 سبتمبر الماضي، تجنبت واشنطن موقفًا رسمياً منفردًا قبل توضح "خطة" قيس سعيّد
اقرأ/ي أيضًا: السيناتور كريس ميرفي يحث الرئيس التونسي على إنهاء الحالة الاستثنائية
باستثناء بلاغ "سفراء مجموعة الدول السبع" في 6 سبتمبر/ أيلول الماضي، تجنبت واشنطن موقفًا رسمياً منفردًا قبل توضح "خطة" قيس سعيّد. عملياً تركت واشنطن المجال لسعيّد أن ينظم صفوفه ويعيد ترتيب قواعد اللعبة عبر تنظيم مؤقت للسلط حتى يمكن له الحكم دون الخضوع لرئيس حكومة يملك أغلب الصلاحيات.
أول مؤشر على رد فعل إثر الأمر الرئاسي 117، كان لقاء السفير الأمريكي مع وزيرة المالية في 24 سبتمبر/ أيلول الماضي "لمناقشة المبادرات المشتركة بين الولايات المتحدة وتونس التي تركز على توفير فرص العمل بالتوازي مع تعافي تونس من الجائحة وخلق المزيد من الفرص الاقتصادية للتونسيين في جميع أنحاء البلاد، وخاصة بين الشباب. كما ناقش السفير والوزيرة الوضع المالي الحالي لتونس وآفاق الإصلاح الاقتصادي"، بمعنى آخر التعامل مع الأمر الواقع، لكن الضغط أيضًا من زاوية صعوبة الوضع المالي.
اقرأ/ي أيضًا: سفراء G7 بتونس: نحث على العودة لنظام دستوري يضطلع فيه برلمان منتخب بدور بارز
المؤشر الثاني كان تصريح نيد برايس المتحدث باسم الخارجية الأمريكية في ذات يوم زيارة السفير الأمريكي إلى وزارة المالية أي 24 سبتمبر/ أيلول الماضي، بعد يومين من الأمر الرئاسي 117، وركز التصريح على نقطتين، توضيح المدى الزمني للمرحلة الانتقالية ومن ثمة القلق من غياب تسقيف زمني، وحث الرئيس على تعيين رئيس حكومة. لم يكن هناك اعتراض على الأمر الرئاسي الذي علق عمليًا العمل بالدستور في أبواب السلطة التنفيذية.
المؤشر الثالث، كان أوضح في خصوص القبول بالأمر الواقع أي أن قواعد اللعبة يحددها الأمر الرئاسي 117. في الأصل تصريح نيد برايس في 7 أكتوبر/ تشرين الأول كان من أجل التعبير عن "قلق وخيبة أمل إزاء ما ورد من تونس في الآونة الأخيرة من تقارير عن تجاوزات طالت حرية الصحافة والتعبير ومن توظيف للمحاكم العسكرية للتحقيق في قضايا مدنية"، لكنه تضمن لأول مرة إشارة إلى الأمر 117 بصفته يؤطر العلاقة مع تونس بالقول "من الضروري أن تفي الحكومة التونسية بالتزاماتها باحترام حقوق الإنسان كما ينص على ذلك الدستور التونسي ويؤكده المرسوم الرئاسي عدد 117"، وأيضًا يتعامل مع رئيسة الحكومة الجديدة كطرف مقابل، ودعوة ضمنية لإقامة حوار سياسي: "كما نحث الرئيس التونسي ورئيسة الوزراء الجديدة على الاستجابة لما يدعو إليه الشعب التونسي من وضع خارطة طريق واضحة المعالم للعودة إلى عملية ديمقراطية شفافة، تشمل المجتمع المدني والأطياف السياسية المتنوعة".
الخلاصة هناك ارتباك أمريكي في كيفية التعامل مع الرجل، حيث ليس من ذات طينة النخبة السياسية الطيّعة والقابلة للضغط التي تعودت عليها الإدارة الأمريكية في 10 سنوات الأخيرة.
اقرأ/ي أيضًا: أمر رئاسي يقر صلاحيات شبه مطلقة للرئيس في تونس وتعليق لمعظم أبواب الدستور
من المعلوم أنه حتى المدرسة الليبرالية الأمريكية خاصة في تمظهرها الراهن في البيت الأبيض على مستوى الرئيس بايدن ليست "مثالية" تمامًا، هي ليبرالية بنكهة واقعية. والتباين في إدارة أوباما بين بايدن وفريق أوباما خاصة في كيفية التعامل مع إرهاصات الربيع العربي مثال مشهور على "واقعية" الرجل.
هناك مسار في الولايات المتحدة بقيادة نواب ديمقراطيين يتجه للضغط ووصل مداه برمجة جلسة استماع في مجلس النواب الأمريكي يوم 14 أكتوبر للتعرض للشأن التونسي
في واشنطن، نشهد وسنشهد مسارين متباينين داخل الحزب الديمقراطي سواء على مستوى الإدارة أو الكونغرس. مسار واقعي تؤكده تصريحات الإدارة الأمريكية لا يتعامل مع ما حصل كـ"انقلاب". في المقابل، مسار آخر مرادف بقيادة نواب ديمقراطيين للضغط ووصل مداه برمجة جلسة استماع في مجلس النواب الأمريكي يوم 14 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، والربط الضمني مع برنامج المساعدات الأمريكية لتونس، التي ستقدر في ميزانية 2022 بحوالي 197 مليون دولار.
يبقى أنه من غير الواقعي أن تقبل الإدارة بقطع المساعدات خاصة أن أكثر من نصفها موجه إلى محور المساعدات العسكرية والأمنية، ومنها طائرات دون طيار أمريكية موجهة لمكافحة الإرهاب.
يبقى أن جلسة استماع بخصوص تونس تبقى مقلقة لقيس سعيّد، خاصة أن واشنطن ستبقى محددة في أهم ملف مالي أي الضوء الأخضر من صندوق النقد الدولي لأي قروض قادمة
ويبقى أن جلسة استماع بخصوص تونس تبقى مقلقة لقيس سعيّد، خاصة أن واشنطن ستبقى محددة في أهم ملف مالي أي الضوء الأخضر من صندوق النقد الدولي لأي قروض قادمة. وهي ورقة الضغط الأهم لواشنطن. فكيف ستستخدمها؟ هل ستقوم باستعمالها لمقايضة قيس سعيّد بالذهاب إلى حوار سياسي وتسقيف زمني للمرحلة الانتقالية قبل نهاية العام، خاصة أن الميزانية التكميلية تحتاج بشكل سريع لضخ حوالي ثلاثة مليار دولار، وإلا سنضطر إلى طبع الأوراق النقدية في الوقت الذي يهدد فيه رجل واشنطن في تونس مروان العباسي بأن ذلك غير ممكن وغير ناجع.. "ننتظر ونرى
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"
اقرأ/ي أيضًا:
الخارجية الأمريكية تعبر عن قلقها وخيبة أملها من تجاوزات طالت الصحافة في تونس
البنك المركزي يبدي انشغاله من "الشح الحاد في الموارد المالية الخارجية"